بات من الملحوظ لدى قادة محور الممانعة ومتحدثيه وجماهيره بقديمهم وجديدهم، التغيير التدريجي لأهداف الحرب الجارية في قطاع غزة وجبهة جنوب لبنان، كلما استعرت نار الإبادة الإسرائيلية، فالهزيمة لم تأتِ أبداً ولن تأتي، بل حدث هناك “بعض الأخطاء والتقديرات”، ووقع “بعض الخسائر التكتيكية” كما وصف رئيس حركة “حماس” في الخارج خالد مشعل، خسارة ما يزيد عن أربعين ألف روحٍ وربع مليون منزلٍ وسقوط خمس مدن.
غاب اليوم، ومنذ أشهر بالفعل، وبشكل شبه كلي، الحديث عن الأهداف الأولية التي انطلقت لأجلها شرارة الحرب، من وقف للاستيطان وانتهاك المقدّسات الدينية إلى تبييض السجون ورفع الحصار عن قطاع غزة، الذي كان لـ 17 عشر عاماً “أكبر سجن مفتوح في العالم”، قبل أن يصير ركاماً، ووقف قطار التطبيع؛ الذي يبدو أنه ما زال قريباً من المحطة السعودية وما بعدها، وأوشك على الوصول إليها قبل “7 أكتوبر”، وحلَّ محل تلك الأهداف مجموعة أخرى من الأهداف، وهي أقرب إلى تعويذات يكررها مرددوها بشكل ثابت من دون أدنى تغيير، عن إظهار وحشية العدو الإسرائيلي على حقيقتها، والكثير من الحديث عن السرديات و”إعادة القضية الفلسطينية إلى الاهتمام الدولي”.
أحدث الأمثلة على ذلك، ما قاله المستشار الإعلامي لحركة “حماس” طاهر النونو في مقابلة مع موقع “مصر تايمز”، حول المكاسب الدولية والإقليمية الكبيرة التي جلبتها المعركة لصالح القضية الفلسطينية “أعادت حضور القضية وعودتها قضية عالمية، وأعلى سلم أولويات المنطقة والعالم كقضية سياسية تحدد معالم أمن المنطقة ولا مجال لتجاوزها […] وذلك بعد أن كانت طي النسيان والإهمال المتعمد، وتحويلها إلى قضية إنسانية لا غير، لشعب يمكن إسكاته بالمساعدات، وليس شعب يبحث عن حقوقه في أرضه ووطنه”. إلى جانب تكرار اللواء الأردني فايز الدويري، وهو أحد أبرز وجوه المقاومة الإعلامية خلال الحرب “إعادة طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى وجدان كل إنسان” ووضعها أعلى سلم الأولويات السياسية الدولية، في حلقة الاتجاه المعاكس منذ أيام.
والواقع أن شرارة الاهتمام “الدولي”، التي من المفترض لدى تلك الأطراف المتحدثة بها، المقصود بها “الغربي” على وجه الخصوص، حفزتها وحشية آلة القتل الإسرائيلية التي لم تعد قابلةً “للتفهّم”، بعدما كان هناك إدانة شبه كاملة للعملية في أيامها الأولى، فيما لم تتغير المواقف العربية كثيراً عما كانت عليه قبل الحرب شعبياً، في حين زاد بعضها انكفاءً وانعزالية رسميين، حتى على الصعيد الإعلامي كما في حالتي سوريا والعراق.
إن الآمال المعقودة على “إعادة الاهتمام” و”حديث” العالم، كثير الحديث بطبعه، عن القضية الفلسطينية، برغم حُسن نية من يعتقد بها ويرددها، وتأزم موقف من يستثمر فيها لتغطية فشل سياسي أو لتثبيت خطاب إعلامي، قد تُصدم بحقيقة أن أياً مما يحدث اليوم على الصُعُد الإقليمية والعالمية والسياسية والافتراضية، ليس جديداً على ما عرفه العالم في سنواته الأخيرة.
والحال أن الاهتمام الإعلامي وردّة الفعل العالمية التي ترافقه، على ضخامتهما منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم يصلا حتى إلى المستويات التي وصلا إليها في أحداث سابقة من القرن العشرين والذي تلاه، ولم تحققا من ذاك الاهتمام ما هو مرجوٌّ اليوم. فمع بث هيئة الإذاعة العامة البريطانية “بي بي سي” تقريرها الذي صدم العالم في تشرين الأول/ أكتوبر 1984 عن المجاعة في إثيوبيا، تحوّلت مُقل عيون العالم أجمع إلى الدولة الأفريقية المكلومة. اندلعت موجة عارمة من التعاطف العالمي، كان أبرز محطاتها تنظيم حفل “Live Aid” الشهير الذي أحيته فرقة الروك “كوين” وجمع 127 مليون دولار لمساعدة الضحايا (لم تتجاوز تبرعات مغني الراب الأميركي ماكليمور لغزة خلال الحرب الجارية المليون دولار، على سبيل المثال) كما سارعت الحكومات بإرسال المساعدات، وخصصت الولايات المتحدة وحدها 500 مليون دولار لدعم برامج الإغاثة. لكن تغييراً جذرياً لم يقدر على تجاوز عتبات الفساد والاقتتال الداخليين، والأطفال الذين أنقذتهم أموال الحفل، لم ينجُ أطفالهم من مجاعة أخرى ضربت البلاد في العقود التالية.
ولا يختلف الحال كثيراً على صعيد المشهد السياسي العالمي، ففي مطلع العام 2003، وبينما كان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن يضع اللمسات الأخيرة على طبخته الشرق أوسطية، كانت الحناجز تصدح بـ “أوقفوا الحرب”، في شوارع أكثر من 600 مدينة حول العالم رفضاً للغزو الأميركي للعراق، معتبرين أن الحرب ستجلب الدمار للشعب العراقي ولن تحقق مكسباً للولايات المتحدة وحلفائها، الموقف الذي انعكس في مجلس الأمن نفسه الذي شهد جلسات تاريخية، أبرزها تلك التي ألقى فيها وزير الخارجية الأميركي كولين باول خطابه الشهير عن أسلحة الدمار الشامل، والذي تجلى فيه الانقسام بالموقفين الفرنسي والألماني الرافضين للحرب، وتصريح الأمين العام حينها كوفي آنان الذي اعتبر الغزو خارجاً عن إطار ميثاق الأمم المتحدة.
إقرأوا أيضاً:
شيء لم يتغير، ولم تتسبب حرب العراق بانهيار المنظومة الدولية برغم أنها “فرضت نفسها” على سلّم أولويات الجلسات، كما تفعل قضية فلسطين اليوم، الصحيح أن الولايات المتحدة وبريطانيا شنتا الحرب من دون تفويض أممي، وسقط مئات الآلاف من العراقيين، وتدمّرت بنية العراق كدولة، وتغيّرت معالم المنطقة بالفعل، لكن ما الثمن الذي جنيناه من كثرة “الحديث” والاهتمام.
وفي ما يتعلق بمحكمة العدل الدولية والتجاهل الدوري لقراراتها، فإنها شهدت أحكاماً أكثر قسوة وحدَّة من “حثّها” إسرائيل في آذار/ مارس الفائت، على الالتزام بمعاهدة منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، لاعتقادها بوجود أدلة على ذلك. ففي آب/ أغسطس 2017، بدأت قوات ميانمار حملة التطهير العرقي ضد أقلية الروهينغا المسلمة، عقد مجلس الأمن جلسات عاجلة، ولم تتلكّأ الأمم المتحدة في وصف ما يحدث بأنه “إبادة جماعية” كما في حرب إبادة غزة الجارية، لكن التحركات الدولية توقفت عند حدود الإدانة. أكثر من 700 ألف لاجئ فروا إلى حياة أشبه بالحياة في بنغلاديش، ولم يُحاسب أي من قادة ميانمار، واستمر التمييز ضد الروهينغا من دون رادع.
فيما ارتسمت صورة أكثر قتامة في مسألة دارفور، التي كانت مسرحاً لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عام 2003، حيث قُتل أكثر من 300 ألف شخص، وشُرد الملايين. بينما أصدر مجلس الأمن قرارات نهائية عدة، منها القرار 1706 الذي دعا إلى نشر قوات حفظ السلام، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهم الإبادة الجماعية التي ثبتت عليه، لم يُحاسب أحد أيضاً. قوات حفظ السلام غادرت دارفور عام 2020 وسقط عمر البشير، لكن ساعده الذي اعتمد عليه في إبادة عام 2003، اشتدَّ عوده وعاد ليرتكبها اليوم بنفسه على رأس “قوات الدعم السريع” في حرب باتت منسيّة.
ولعل المثال الأكثر مأساة هو قضية الجارة السورية، التي وُصفت، حتى وقت قريب، بـ “الحرب الأكثر توثيقاً في التاريخ الحديث”، والتي عُقدت لأجلها القمم الطارئة وجلسات مجلس الأمن والمؤتمرات الدولية، وأًرسلت إليها بعثات الإغاثة والتحقيق، وها هي اليوم ملف منسي قد يتذيل نشرة الأخبار إن اتّسعت. والواقع أن القضية الفلسطينية نفسها لم تغب يوماً عن أي من الساحتين السياسية أو الاجتماعية، حتى قبل هذه الحرب، فذهبت إسرائيل إلى المحكمة الدولية عام 2022، وعقد مجلس الأمن جلساته لأجلها بشكل شبه دوري، وقلب التضامن العالمي مع هبّة الشيخ جراح 2021 موازين منصات التواصل وضغط على مُلّاكها.
نحن بالفعل أمام الكثير من الحديث، فيما يقتصر الفعل اليوم على جرافات الجيش الإسرائيلي التي تغيّر الخرائط، ومقاتلاته التي تغطيها من أعلى. وبعد أكثر من 420 يوماً من حرب الإبادة، ترى كبرى الفصائل الفلسطينية، “حماس” و”فتح”، تجتمعان في القاهرة لبحث تقاسم الكعكة الغزّية في اليوم التالي لانتهاء الحرب، بينما يغيب أي مشروع سياسي جامع يترك أملاً لترجمة صرخات اليوم الحالي ودويّها حول العالم، إلى هدف يضع الحياة الفلسطينية الكريمة أولاً، وأن لا تتلاشى مع صداها قبل أن ينتقل العالم إلى قضيته التالية.
إقرأوا أيضاً: