fbpx

وثيقة.. من أجل لبنان بديل…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

ينشر “درج” هذه الوثيقة وهي نتاج عمل وتفكير مشتركين بين مجموعة من الناشطين والمعنيّين بالشأن العامّ اللبناني، المهتمّين بإثارة نقاش أوسع حول ما هو مطروح فيها

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ينشر “درج” هذه الوثيقة وهي نتاج عمل وتفكير مشتركين بين مجموعة من الناشطين والمعنيّين بالشأن العامّ اللبناني، المهتمّين بإثارة نقاش أوسع حول ما هو مطروح فيها
يعيش بلدنا منذ سنوات تخبّطاً وتراجعاً على المستويات جميعاً: في أمانه واستقراره، في الخوف على حرّيّاته، في العلاقات بين طوائفه، في فساد حكّامه وتعرّض أبنائه للإفقار المتعاظم، في تصاعد المشاعر الشوفينيّة والعنصريّة لدى قطاعات واسعة منه، في تضاؤل قدرات الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، في تردّي الشروط البيئيّة والصحّيّة لحياة معافاة، في الإجحاف اللاحق بفئات اجتماعيّة عدّة، في التمييز القانونيّ والمسلكيّ ضدّ النساء…
فما يعيشه اللبنانيّون راهناً يضعهم أمام مهمّة ترقى إلى إعادة اختراع الوطنيّة اللبنانيّة، التي يتآكلها التصدّع، بل العفن، وذلك على قاعدة ديمقراطيّة وحديثة تستفيد منها الكثرة، لا القلّة. وقاعدة كهذه لا بدّ أن تكون تقدّميّة، بمعنى تمكين المواطنين في أمور حياتهم، من دون أيّة إحالة إلى مفاهيم “عبادة التقدّم” و”دِين التقدّم” ممّا سُحق الملايين بذريعته.
وهذا ما يملي علينا، كما أملى سابقاً على غيرنا ممّن يهجسون ببلد أفضل وأكثر تقدّماً وحرّيّةً، ضرورة التدخّل في الشأن العامّ سلميّاً وسياسيّاً، ومن خلال المؤسّسات القائمة، وبالعمل وفقاً لما تتيحه القوانين.
فالبلد بلدنا، سنعيش فيه، ويعيش أبناؤنا بعدنا. وهذا إنّما يفرض علينا واجب التدخّل السياسيّ بوصفه واجباً أخلاقيّاً بالغ الحيويّة، فضلاً عن كونه حقّاً أساسيّاً من حقوقنا كمواطنين.
لقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية كيف انهار التعويل على ثنائيّة 8 و14 آذار، وكيف أنّ الدوران في حلقة الانقسام الطائفيّ – التقليديّ لا يقود إلاّ إلى حائط مسدود. كما عرفنا عدداً من المحاولات الحسنة النوايا للتغيير، إلاّ أنّ انحصار بعضها في مجالات قطاعيّة، وعدم تسيُّس بعضها الآخر، وإعادة تدوير بعضها الثالث في ثنائيّة 8 و14، حالت دون تحوّلها حركات تغيير سياسيّ على نطاق وطنيّ عريض. ولئن أظهرت موجة الثورات العربيّة في عدد من البلدان المجاورة أيّ سلاح مؤثّر تضعه وسائط التواصل الاجتماعيّ في أيدي قوى التغيير، فإنّها أظهرت أيضاً أنّ ذاك السلاح ليس بديلاً عن الأداة السياسيّة والتنظيميّة البالغة المرونة والرحابة، والتي تستند إلى قاعدة فكريّة على درجة من التقارب وإن أقرّت برحابة التنوّع والاختلاف في داخلها.
فصوت الفئات التقدّميّة العابرة للطوائف، والتي هي زهرة المجتمع اللبنانيّ، ليس مسموعاً وليس، حتّى اللحظة، مالكاً للأدوات التعبيريّة والتمثيليّة التي لا بدّ منها. وما يُلحّ على أهميّة المبادرة أنّنا نعيش، في لبنان وفي عموم المنطقة العربيّة، لحظة غير عاديّة قد تنهار فيها دول وقد تُعدّل خرائط، وقد تطرأ تحوّلات كبرى غير متوقّعة تُخلّ بأشكال التوازن القائمة اليوم وتستدعي، لدى حصولها، قوى تتلقّفها وتتعامل معها.
لكنّ الصورة، كما تبدو اليوم، لا تسمح بتاتاً بالاستسهال. فالطموح إلى بناء أداة سياسيّة تعبّر عن تلك الفئات، يرافقه الإدراك بأنّ بلوغ التغيير المرجوّ عمليّةٌ مديدة ومعقّدة، يزيدها تعقيداً وجود السلاح غير الشرعيّ في يد أحد الأطراف الطائفيّة الكبرى. وهي عمليّة لا بدّ أن تُخاض تدريجاً وبهدوء وسلميّة مطلقة، وعلى مدى قد يكون طويلاً، في أمكنة السكن وأمكنة العمل، وفي المدارس والجامعات والمهن، كما في المدن والأرياف، محاوِلةً أن تخاطب الفئات والجماعات اللبنانيّة جميعاً من غير استثناء.
ونحن نعلم، فضلاً عن العبء الثقيل الذي يطرحه وجود السلاح على أيّ تحرّك وطنيّ وتقدّميّ في لبنان، أنّ هناك تحدّيين كبيرين آخرين يحضران بطرق عدّة، مباشرة أو مداورة:
ففي العالم العربيّ، ندخل الآن في حقبة الثورة المضادّة التي أعقبت هزيمة الموجة الثوريّة بعدما انطلقت قبل سنوات قليلة. وقد تجسّدت الهزيمة هذه في ديكتاتوريّة عسكريّة هزيلة كالتي ترزح مصر اليوم تحتها، كما في مركّب من الحروب الأهليّة والنزاعات الإقليميّة نشهده في سوريّا واليمن وليبيا، وفي قمع متزايد في البحرين.
لكنّنا أيضاً نعاين ونعاني تطوّراً خطيراً آخر تنعكس تأثيراته على العالم بأسره: إنّه أزمة الديمقراطيّة الليبراليّة في الغرب التي تحرمنا النموذج الذي يمكن السعي إليه والاقتداء به. ومن الواضح، في المقابل، أنّ أبرز المستفيدين من أزمة كهذه هم الأنظمة القوميّة والشعبويّة والإيديولوجيّة التي تطرح نماذجها علينا مقرونةً بأعمال تدخّل وتوسّع كالتي تمارسها، في منطقتنا، الدولتان الروسيّة والإيرانيّة. وقد سبق أن رأينا، في سوريّا، كيف عمل نظاما هاتين الدولتين على خنق الإرادة الشعبيّة لأغلبيّة السوريّين، بعدما حال عنف النظام السوريّ دون الحفاظ على الطابع السلميّ، المدنيّ وشبه العلمانيّ، للثورة.
يفاقم سوء الوضع هذا أنّ الأنظمة الغربيّة الديمقراطيّة في وضعها الراهن، وخصوصاً مع رئاسة دونالد ترامب والطريقة العوجاء في “الحرب على الإرهاب”، فقدت معظم طاقتها على لعب الدور الذي سبق أن لعبته في إسناد ثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. يترافق هذا مع تنامي عجزنا في العالم العربيّ، في ظلّ الصعود الصارخ للهويّات الطائفيّة والإثنيّة والجهويّة، عن إنتاج ثورات سلميّة، مدنيّة ومدينيّة، كالتي فجّرها الأوروبيّون آنذاك.
مع ذلك فنحن نرى أنّ اللبنانيّين محكومون ببذل المحاولات المتاحة، وابتكار ما هو غير متاح منها، لإنقاذ بلدهم ممّا يتخبّط فيه، خصوصاً في ظلّ امتلاك هذا البلد لطاقات تتيح له أن يطوّر الحرّيّات والتعدّديّة ويمأسسها ويقدّمها نموذجاً في المنطقة. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ فشل محاولات كهذه سيكون إعلاناً عن فشل نهائيّ في إنقاذ الوحدة الوطنيّة للبنانيّين، أو ما تبقّى منها، وعن إجازة لكلّ واحدة من الطوائف كي تتدبّر أمرها بما تراه ملائماً وبما تُجمع عليه أكثريّاتها.
والتصوّر الأوّل في ما خصّ الدولة الواحدة، الديمقراطيّة والحديثة، إنّما يتعلّق بالسلاح غير الشرعيّ. فالتخلّص من هذا السلاح هو الشرط الضروريّ، وإن غير الكافي، للاقتراب من تلك الدولة. فهناك مشكلات لبنانيّة كبرى سابقة على وجود السلاح غير الشرعيّ، وهي إن لم تعالَج، ستبقى إلى ما بعد زوال هذا السلاح. وهذا يعني أنّ العمل السياسيّ المأمول ليس ردّ فعل على طرف مسلّح بعينه، كما أنّ نشاطه ليس محصوراً بقضيّة بعينها. ثمّ إنّ التفكير ببلد تحتكر فيه الدولة وحدها السلاحَ لا يستهدف أيّة جماعة طائفيّة أو مذهبيّة ولا يتقصّد إضعافها أو “الثأر” منها. والعكس تماماً هو الصحيح، إذ يتّجه الطموح إلى توطيد أمن شرعيّ ينتفع الجميع منه، أمنٍ لا يحابي فئة ولا يمارس التمييز ضدّ فئة أخرى. وهذا فضلاً عن أنّ حصر السلاح في يد الدولة، وحصر قراري الحرب والسلم تالياً، إنّما يزيل عن هذه الطائفة أو تلك شبهة التورّط في العنف والتسبّب بالحروب، وما قد يتأدّى عن ذلك من أذى يصيب بالدرجة الأولى الجماعة المعنيّة نفسها.
إنّ التسلّح في لبنان، الذي رفعه حزب الله إلى سويّة غير مسبوقة، هو عَرض خطير وكبير من أعراض التركيبة الطائفيّة وما يترتّب عليها من مخاوف متبادلة بين الجماعات، وصولاً إلى الاعتماد على طرف خارجيّ قد يتغيّر من دون أن تتغيّر طبيعة الصلة الالتحاقيّة به، فضلاً عن التذرّع بـ “قضيّة” إيديولوجيّة تبرّر لأصحابها حمل السلاح. والحقّ أنّ هذا العَرَض إنّما أصابه تضخّم نوعيّ مع التدخّل في سوريّا، والذي، فضلاً عن طبيعته العدوانيّة والاحتلاليّة بحقّ السوريّين، يهدّد بنسف التركيبة والتجربة اللبنانيّتين نسفاً كاملاً.
لهذا لا بدّ من مواجهة مسألتين، واحدة تتعلّق بالطائفيّة نفسها، والأخرى تلك التي تتّصل بـ “القضيّة” التي يتمّ التذرّع بها لحمل السلاح:
– لقد عرف هذا البلد الكثير من الدعوات إلى إلغاء الطائفيّة أو فرض العلمنة من منصّة سلطويّة. بعض تلك الدعوات انتهى أصحابها مصطفّين في المواقع الطائفيّة، وبعضهم الآخر انتهوا مجرّد وعّاظ، أو انقلابيّين يريدون بالقوّة والقسر تغيير الواقع الطائفيّ. إنّنا ممّن يؤمنون بأنّ الطائفيّة “لا تُزال”، و”لا تُلغى”، ووراءنا ما لا يُحصى من تجارب تفيد هذا المعنى. لكنّ ما يمكن فعله مزدوج:
من جهة، الدفع في اتّجاه تطوير الديمقراطيّة اللبنانيّة بحيث تغدو مؤسّساتها أقدر على استيعاب تناقضات الطوائف فلا تنفجر في الشارع سلاحاً وعنفاً،
ومن جهة أخرى، تصليب المواقع غير الطائفيّة في المجتمع، وتالياً في السياسة والعمل الحزبيّ. فعبر نشاط كهذا، وعلى مدى زمنيّ يؤمل أن يكون متوسّطاً، يمكن تضييق النطاق الذي تشتغل ضمنه العلاقات والمؤسّسات الطائفيّة، وعلى رأسه قانون الأحوال الشخصيّة، وقانون الانتخابات، والفساد الإداريّ الذي هو نسغ الطائفيّة المغذّي. وكلّما استطاعت هذه المواقع الجديدة توكيد لاطائفيّتها، والدفاع عن إنماء المناطق الأقلّ إنماءً، طمأنتْ وجذبت إليها مواطنين ممّن يعتصمون اليوم، لهذا السبب أو ذاك، بطوائفهم.
لكنْ هنا أيضاً، يُستحسن عدم الاستسهال في موضوع الطائفيّة: فالسؤال الذي سيبقى مطروحاً علينا طويلاً هو التالي: كيف التوفيق بين سعينا إلى التحلّل التدريجيّ من الطائفيّة وبين الحفاظ على الروح الميثاقيّة بوصفها تمكيناً للحرّيّة والإقرار بدرجة بعيدة من التنوّع، بما في ذلك إعفاؤنا من قيام أنظمة عسكريّة وانقلابيّة وإيديولوجيّة؟ فإذا لم يكن هذا التركيب متاحاً، فيما تكاد تضمحل آخر الإجماعات بين طوائف اللبنانيّين، بات تفكيك خريطة الاجتماع الوطنيّ اللبنانيّ نفسها أقلّ العلاجات الصعبة صعوبة.
– أمّا في ما خصّ “القضيّة”، فلا بدّ من الإقرار بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي أكثر ما استُغلّ، ومنذ أواخر الستينات، لتبرير حمل السلاح. ومن دون أيّ تشكيك بعداليّة تلك القضيّة، وتأثيرها على أوضاع في المنطقة والعالم، بات من الواضح أنّ على لبنان قطع الطريق نهائيّاً على استخدامها لهذا الغرض: ففضلاً عن محدوديّة قدراته، وعن كونه دفع غالياً جرّاء انخراطه في هذه المسألة، يبقى أنّ تورّط لبنان المباشر في الصراع هذا، وصولاً إلى حمل السلاح، هو تأسيس لحرب أهليّة بين اللبنانيّين سبق أن شهدنا فصولاً سابقة منها. وتفيد تجارب الماضي جميعاً أنّ حروبنا الأهليّة، كائنةً ما كانت قضاياها، إنّما مهّدت وتمهّد لتمكين الأنظمة العسكريّة والأمنيّة المجاورة، وكذلك إسرائيل، في بلدنا وفي حياة شعبنا.
والحال أنّ الوضع الأمثل للبنان، على هذا الصعيد، والذي يتطلّب نضالاً سياسيّاً وثقافيّاً سلميّاً، شاقّاً ومديداً، هو في تبنّي نوع من الحياد العسكريّ في الصراعات المحيطة بنا، على غرار الحياد النمسويّ إبّان الحرب الباردة، والذي يردع عن كلّ ما هو عسكريٌّ، أكان مشاركةً في قتال أم توريداً لأسلحة ونقلاً لمقاتلين، فيما لا يتدخّل في السياسات الاقتصاديّة والثقافيّة للبلد المحايد. وهذا ما يتيح لنا المضيّ في الدفاع عن حقوق الفلسطينيّين، أو أيّة قضيّة محقّة أخرى، من دون التورّط في المواجهات الحربيّة، وتالياً من دون استخدام هذه المسألة كتبرير في يد إحدى الطوائف لإخضاع طوائف أخرى. وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ أيّ ترميم ناجح للوطنيّات العربيّة والتقدّم لبناء تجارب ديمقراطيّة وتعدّديّة ناجحة تطمئن جماعاتها، سيكون شديد الفعاليّة في إضعاف النموذج الصهيونيّ وفي توليد مناعات عريضة حيال احتمالاته العدوانيّة والتوسّعيّة. وإذ يستطيع لبنان أن يلعب دوره الكبير على هذا الصعيد، فإنّ العمل العسكريّ نفسه بات عديم الجدوى في عموم العالم العربيّ، وكلّ ما بقي منه استخدام ذرائعيّ وانتهازيّ من هذا الطرف أو ذاك توخّياً لأغراض لا صلة لها بما هو معلن.
لكنّ الطموح إلى دخول الحياة السياسيّة والمشاركة فيها يتعدّى هذه الأهداف إلى أهداف أخرى مهمّة بذاتها، فضلاً عن مردودها الإيجابيّ على المسائل المثارة أعلاه. فلا بدّ من الانحياز إلى الفئات الاجتماعيّة المتضرّرة من سياسات اقتصاديّة تجمع بين تركّز الثروة والفساد المعمّم، والتوكيد على أهميّة اعتماد نظام ضريبيّ تصاعديّ مباشر، وخلق جاذبيّة اقتصاديّة في المناطق الطرفيّة تنهض على تطوير الزراعة والصناعات الخفيفة، مع الاستثمار، في بيروت كما في المناطق، في المهارات التقنيّة ما بعد الصناعيّة على أنواعها. ومع الإدراك للحساسيّات الطائفيّة التي يثيرها موضوع الملكيّة الزراعيّة، في ظلّ تملّك المؤسّسات الدينيّة والطائفيّة لمساحات شاسعة من الأراضي، فإنّ أيّ طموح إلى تحقيق إنتاجيّة أعلى للاقتصاد، وإلى توسيع الطبقة الوسطى بوصفها سند الديمقراطيّة وقاعدتها، يُدرج مسألة الإصلاح الزراعيّ على جدول أيّ اهتمام جدّيّ بالتغيير. وبالمعنى نفسه، وعلى نحو أكثر مباشرة وإلحاحاً، سيبقى أيّ إصلاح اقتصاديّ مجرّد وهمٍ ما لم تكن الدولة مسيطرة على مواردها التي تنهبها راهناً، على مدى الساحل اللبنانيّ، وفي المرفأ والمطار وسواهما من المرافق المُدرّة للدخل، القوى الطائفيّة النافذة و/أو المسلّحة.
وعلى العموم، ومن دون أيّة تبعيّة دوغمائيّة وجامدة لأيّ من المدارس والتجارب الاقتصاديّة، يبقى من القاهر إعادة الاعتبار لبنانيّاً لمبدأ تدخّل الدولة في توزيع الثروة بما لا يخلّ بمبدأ السوق الحرّة، بل يعمل على تنظيم تلك السوق وتحسين اشتغالها، وبالتالي توسيع رقعة المستفيدين منها.
إنّ الجمع بين الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة يكاد يكون أنبل الطموحات السياسيّة في التاريخ، فيما المجتمع الذي لا يوفّر لمواطنيه المتطلّبات الأوّليّة في السكن والعمل والتعليم يصعب وصفه بالمجتمع المتمدّن أو الحرّ.
أمّا في المجالين الاجتماعيّ والثقافيّ، فلا بدّ من توكيد أمور باتت بديهيّة في أيّ مجتمع حديث وديمقراطيّ، وإن لم يكن يُنظَر إليها بهذه البداهة في بلدنا، ونخصّ بالذكر ستّة هي شديدة الإلحاح اليوم:
أوّلاً، السعي إلى المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، مع ما يرتّبه ذلك من مسائل تفصيليّة لا بدّ من بتّها، يتصدّرها راهناً حقّ الأمّهات المتزوّجات من رجال غير لبنانيّين في منح أبنائهنّ/بناتهنّ الجنسيّة اللبنانيّة.
ثانياً، السعي إلى تكريس عدم التدخّل في الخيارات الجنسيّة التي يختارها اللبنانيّون رجالاً ونساءً لحياتهم. ذاك أنّ من يعجز عن أن يكون حرّاً في جسده ستكون حرّيّاته الأخرى مجتزأة وقابلة للانتزاع منه.
ثالثاً، الرفض المبدئيّ، الأخلاقيّ والسياسيّ، للممارسات العنصريّة بحقّ السوريّين والفلسطينيّين والعمّال المهاجرين وكلّ غير اللبنانيّين في لبنان، والدفاع تالياً عن حقوقهم، وحقوق العاملين منهم في التنظيم النقابيّ.  
رابعاً، حماية الحرّيّات في مجالات الإعلام والثقافة والإبداع على أنواعها، وعدم السماح بابتزازها وابتزاز أصحابها بذرائع أخلاقيّة أو سياسيّة كائنة ما كانت. ذاك أنّه من دون هذه الحرّيّات يخسر لبنان أهمّ مقوّمات وجوده.
خامساً، العناية بالتعليم ووظيفته في بناء دولة ومجتمع حديثين وأكثر وعياً بحقوقهما ومصالحهما، وهو ما يساهم أيضاً في امتصاص احتمالات الحروب والنزاعات الأهليّة.
سادساً، العمل على رفع الوعي بالمسألة البيئيّة وأهميّتها ومخاطر تجاهلها. وإذا كان هذا صحيحاً بالمطلق فإنّ وتائر التلوّث المرتفعة جدّاً في لبنان إنّما تضاعف الحاجة إلى توكيد مهمّة كهذه.
إنّنا نعلم أنّ هذه العناوين مثيرة لحساسيّات كثيرة، بعضها طائفيّ محض، وبعضها دينيّ يتذرّع بالمقدّس. بعضها إيديولوجيّ “عروبيّ” سبق أن زجّنا في حروب أهليّة نزداد غرقاً في وحولها، وبعضها شوفينيّ “لبنانويّ” يخفي وراء “وطنيّته” المعلنة هواجسه الطائفيّة غير المصرّح بها. وهذا ما يفرض، في الواقع اللبنانيّ الراهن، طرحها بكثير من المرونة والليونة. لكنّنا نعلم أيضاً أنّ كلّ تقدّم في زحزحة الوعي والعلاقات الطائفيّة، مهما كان طفيفاً، وكلّ نزع للسلاح من حياتنا العامّة، ينعكسان قدرةً أكبر على إثارة هذه المسائل وصوتاً أعلى في طرحها.
وهذه ما هي إلاّ عناوين عامّة يحدو الأمل بأن يصار لاحقاً، وعلى ضوء ما تعلّمه الممارسة العمليّة، إلى التقدّم فيها وفي تفصيلها وإغنائها بالتجارب التي لا بدّ أن تظهر على الطريق.[video_player link=””][/video_player]

"درج"
لبنان
16.12.2017
زمن القراءة: 10 minutes

ينشر “درج” هذه الوثيقة وهي نتاج عمل وتفكير مشتركين بين مجموعة من الناشطين والمعنيّين بالشأن العامّ اللبناني، المهتمّين بإثارة نقاش أوسع حول ما هو مطروح فيها

ينشر “درج” هذه الوثيقة وهي نتاج عمل وتفكير مشتركين بين مجموعة من الناشطين والمعنيّين بالشأن العامّ اللبناني، المهتمّين بإثارة نقاش أوسع حول ما هو مطروح فيها
يعيش بلدنا منذ سنوات تخبّطاً وتراجعاً على المستويات جميعاً: في أمانه واستقراره، في الخوف على حرّيّاته، في العلاقات بين طوائفه، في فساد حكّامه وتعرّض أبنائه للإفقار المتعاظم، في تصاعد المشاعر الشوفينيّة والعنصريّة لدى قطاعات واسعة منه، في تضاؤل قدرات الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين، في تردّي الشروط البيئيّة والصحّيّة لحياة معافاة، في الإجحاف اللاحق بفئات اجتماعيّة عدّة، في التمييز القانونيّ والمسلكيّ ضدّ النساء…
فما يعيشه اللبنانيّون راهناً يضعهم أمام مهمّة ترقى إلى إعادة اختراع الوطنيّة اللبنانيّة، التي يتآكلها التصدّع، بل العفن، وذلك على قاعدة ديمقراطيّة وحديثة تستفيد منها الكثرة، لا القلّة. وقاعدة كهذه لا بدّ أن تكون تقدّميّة، بمعنى تمكين المواطنين في أمور حياتهم، من دون أيّة إحالة إلى مفاهيم “عبادة التقدّم” و”دِين التقدّم” ممّا سُحق الملايين بذريعته.
وهذا ما يملي علينا، كما أملى سابقاً على غيرنا ممّن يهجسون ببلد أفضل وأكثر تقدّماً وحرّيّةً، ضرورة التدخّل في الشأن العامّ سلميّاً وسياسيّاً، ومن خلال المؤسّسات القائمة، وبالعمل وفقاً لما تتيحه القوانين.
فالبلد بلدنا، سنعيش فيه، ويعيش أبناؤنا بعدنا. وهذا إنّما يفرض علينا واجب التدخّل السياسيّ بوصفه واجباً أخلاقيّاً بالغ الحيويّة، فضلاً عن كونه حقّاً أساسيّاً من حقوقنا كمواطنين.
لقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية كيف انهار التعويل على ثنائيّة 8 و14 آذار، وكيف أنّ الدوران في حلقة الانقسام الطائفيّ – التقليديّ لا يقود إلاّ إلى حائط مسدود. كما عرفنا عدداً من المحاولات الحسنة النوايا للتغيير، إلاّ أنّ انحصار بعضها في مجالات قطاعيّة، وعدم تسيُّس بعضها الآخر، وإعادة تدوير بعضها الثالث في ثنائيّة 8 و14، حالت دون تحوّلها حركات تغيير سياسيّ على نطاق وطنيّ عريض. ولئن أظهرت موجة الثورات العربيّة في عدد من البلدان المجاورة أيّ سلاح مؤثّر تضعه وسائط التواصل الاجتماعيّ في أيدي قوى التغيير، فإنّها أظهرت أيضاً أنّ ذاك السلاح ليس بديلاً عن الأداة السياسيّة والتنظيميّة البالغة المرونة والرحابة، والتي تستند إلى قاعدة فكريّة على درجة من التقارب وإن أقرّت برحابة التنوّع والاختلاف في داخلها.
فصوت الفئات التقدّميّة العابرة للطوائف، والتي هي زهرة المجتمع اللبنانيّ، ليس مسموعاً وليس، حتّى اللحظة، مالكاً للأدوات التعبيريّة والتمثيليّة التي لا بدّ منها. وما يُلحّ على أهميّة المبادرة أنّنا نعيش، في لبنان وفي عموم المنطقة العربيّة، لحظة غير عاديّة قد تنهار فيها دول وقد تُعدّل خرائط، وقد تطرأ تحوّلات كبرى غير متوقّعة تُخلّ بأشكال التوازن القائمة اليوم وتستدعي، لدى حصولها، قوى تتلقّفها وتتعامل معها.
لكنّ الصورة، كما تبدو اليوم، لا تسمح بتاتاً بالاستسهال. فالطموح إلى بناء أداة سياسيّة تعبّر عن تلك الفئات، يرافقه الإدراك بأنّ بلوغ التغيير المرجوّ عمليّةٌ مديدة ومعقّدة، يزيدها تعقيداً وجود السلاح غير الشرعيّ في يد أحد الأطراف الطائفيّة الكبرى. وهي عمليّة لا بدّ أن تُخاض تدريجاً وبهدوء وسلميّة مطلقة، وعلى مدى قد يكون طويلاً، في أمكنة السكن وأمكنة العمل، وفي المدارس والجامعات والمهن، كما في المدن والأرياف، محاوِلةً أن تخاطب الفئات والجماعات اللبنانيّة جميعاً من غير استثناء.
ونحن نعلم، فضلاً عن العبء الثقيل الذي يطرحه وجود السلاح على أيّ تحرّك وطنيّ وتقدّميّ في لبنان، أنّ هناك تحدّيين كبيرين آخرين يحضران بطرق عدّة، مباشرة أو مداورة:
ففي العالم العربيّ، ندخل الآن في حقبة الثورة المضادّة التي أعقبت هزيمة الموجة الثوريّة بعدما انطلقت قبل سنوات قليلة. وقد تجسّدت الهزيمة هذه في ديكتاتوريّة عسكريّة هزيلة كالتي ترزح مصر اليوم تحتها، كما في مركّب من الحروب الأهليّة والنزاعات الإقليميّة نشهده في سوريّا واليمن وليبيا، وفي قمع متزايد في البحرين.
لكنّنا أيضاً نعاين ونعاني تطوّراً خطيراً آخر تنعكس تأثيراته على العالم بأسره: إنّه أزمة الديمقراطيّة الليبراليّة في الغرب التي تحرمنا النموذج الذي يمكن السعي إليه والاقتداء به. ومن الواضح، في المقابل، أنّ أبرز المستفيدين من أزمة كهذه هم الأنظمة القوميّة والشعبويّة والإيديولوجيّة التي تطرح نماذجها علينا مقرونةً بأعمال تدخّل وتوسّع كالتي تمارسها، في منطقتنا، الدولتان الروسيّة والإيرانيّة. وقد سبق أن رأينا، في سوريّا، كيف عمل نظاما هاتين الدولتين على خنق الإرادة الشعبيّة لأغلبيّة السوريّين، بعدما حال عنف النظام السوريّ دون الحفاظ على الطابع السلميّ، المدنيّ وشبه العلمانيّ، للثورة.
يفاقم سوء الوضع هذا أنّ الأنظمة الغربيّة الديمقراطيّة في وضعها الراهن، وخصوصاً مع رئاسة دونالد ترامب والطريقة العوجاء في “الحرب على الإرهاب”، فقدت معظم طاقتها على لعب الدور الذي سبق أن لعبته في إسناد ثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. يترافق هذا مع تنامي عجزنا في العالم العربيّ، في ظلّ الصعود الصارخ للهويّات الطائفيّة والإثنيّة والجهويّة، عن إنتاج ثورات سلميّة، مدنيّة ومدينيّة، كالتي فجّرها الأوروبيّون آنذاك.
مع ذلك فنحن نرى أنّ اللبنانيّين محكومون ببذل المحاولات المتاحة، وابتكار ما هو غير متاح منها، لإنقاذ بلدهم ممّا يتخبّط فيه، خصوصاً في ظلّ امتلاك هذا البلد لطاقات تتيح له أن يطوّر الحرّيّات والتعدّديّة ويمأسسها ويقدّمها نموذجاً في المنطقة. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ فشل محاولات كهذه سيكون إعلاناً عن فشل نهائيّ في إنقاذ الوحدة الوطنيّة للبنانيّين، أو ما تبقّى منها، وعن إجازة لكلّ واحدة من الطوائف كي تتدبّر أمرها بما تراه ملائماً وبما تُجمع عليه أكثريّاتها.
والتصوّر الأوّل في ما خصّ الدولة الواحدة، الديمقراطيّة والحديثة، إنّما يتعلّق بالسلاح غير الشرعيّ. فالتخلّص من هذا السلاح هو الشرط الضروريّ، وإن غير الكافي، للاقتراب من تلك الدولة. فهناك مشكلات لبنانيّة كبرى سابقة على وجود السلاح غير الشرعيّ، وهي إن لم تعالَج، ستبقى إلى ما بعد زوال هذا السلاح. وهذا يعني أنّ العمل السياسيّ المأمول ليس ردّ فعل على طرف مسلّح بعينه، كما أنّ نشاطه ليس محصوراً بقضيّة بعينها. ثمّ إنّ التفكير ببلد تحتكر فيه الدولة وحدها السلاحَ لا يستهدف أيّة جماعة طائفيّة أو مذهبيّة ولا يتقصّد إضعافها أو “الثأر” منها. والعكس تماماً هو الصحيح، إذ يتّجه الطموح إلى توطيد أمن شرعيّ ينتفع الجميع منه، أمنٍ لا يحابي فئة ولا يمارس التمييز ضدّ فئة أخرى. وهذا فضلاً عن أنّ حصر السلاح في يد الدولة، وحصر قراري الحرب والسلم تالياً، إنّما يزيل عن هذه الطائفة أو تلك شبهة التورّط في العنف والتسبّب بالحروب، وما قد يتأدّى عن ذلك من أذى يصيب بالدرجة الأولى الجماعة المعنيّة نفسها.
إنّ التسلّح في لبنان، الذي رفعه حزب الله إلى سويّة غير مسبوقة، هو عَرض خطير وكبير من أعراض التركيبة الطائفيّة وما يترتّب عليها من مخاوف متبادلة بين الجماعات، وصولاً إلى الاعتماد على طرف خارجيّ قد يتغيّر من دون أن تتغيّر طبيعة الصلة الالتحاقيّة به، فضلاً عن التذرّع بـ “قضيّة” إيديولوجيّة تبرّر لأصحابها حمل السلاح. والحقّ أنّ هذا العَرَض إنّما أصابه تضخّم نوعيّ مع التدخّل في سوريّا، والذي، فضلاً عن طبيعته العدوانيّة والاحتلاليّة بحقّ السوريّين، يهدّد بنسف التركيبة والتجربة اللبنانيّتين نسفاً كاملاً.
لهذا لا بدّ من مواجهة مسألتين، واحدة تتعلّق بالطائفيّة نفسها، والأخرى تلك التي تتّصل بـ “القضيّة” التي يتمّ التذرّع بها لحمل السلاح:
– لقد عرف هذا البلد الكثير من الدعوات إلى إلغاء الطائفيّة أو فرض العلمنة من منصّة سلطويّة. بعض تلك الدعوات انتهى أصحابها مصطفّين في المواقع الطائفيّة، وبعضهم الآخر انتهوا مجرّد وعّاظ، أو انقلابيّين يريدون بالقوّة والقسر تغيير الواقع الطائفيّ. إنّنا ممّن يؤمنون بأنّ الطائفيّة “لا تُزال”، و”لا تُلغى”، ووراءنا ما لا يُحصى من تجارب تفيد هذا المعنى. لكنّ ما يمكن فعله مزدوج:
من جهة، الدفع في اتّجاه تطوير الديمقراطيّة اللبنانيّة بحيث تغدو مؤسّساتها أقدر على استيعاب تناقضات الطوائف فلا تنفجر في الشارع سلاحاً وعنفاً،
ومن جهة أخرى، تصليب المواقع غير الطائفيّة في المجتمع، وتالياً في السياسة والعمل الحزبيّ. فعبر نشاط كهذا، وعلى مدى زمنيّ يؤمل أن يكون متوسّطاً، يمكن تضييق النطاق الذي تشتغل ضمنه العلاقات والمؤسّسات الطائفيّة، وعلى رأسه قانون الأحوال الشخصيّة، وقانون الانتخابات، والفساد الإداريّ الذي هو نسغ الطائفيّة المغذّي. وكلّما استطاعت هذه المواقع الجديدة توكيد لاطائفيّتها، والدفاع عن إنماء المناطق الأقلّ إنماءً، طمأنتْ وجذبت إليها مواطنين ممّن يعتصمون اليوم، لهذا السبب أو ذاك، بطوائفهم.
لكنْ هنا أيضاً، يُستحسن عدم الاستسهال في موضوع الطائفيّة: فالسؤال الذي سيبقى مطروحاً علينا طويلاً هو التالي: كيف التوفيق بين سعينا إلى التحلّل التدريجيّ من الطائفيّة وبين الحفاظ على الروح الميثاقيّة بوصفها تمكيناً للحرّيّة والإقرار بدرجة بعيدة من التنوّع، بما في ذلك إعفاؤنا من قيام أنظمة عسكريّة وانقلابيّة وإيديولوجيّة؟ فإذا لم يكن هذا التركيب متاحاً، فيما تكاد تضمحل آخر الإجماعات بين طوائف اللبنانيّين، بات تفكيك خريطة الاجتماع الوطنيّ اللبنانيّ نفسها أقلّ العلاجات الصعبة صعوبة.
– أمّا في ما خصّ “القضيّة”، فلا بدّ من الإقرار بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي أكثر ما استُغلّ، ومنذ أواخر الستينات، لتبرير حمل السلاح. ومن دون أيّ تشكيك بعداليّة تلك القضيّة، وتأثيرها على أوضاع في المنطقة والعالم، بات من الواضح أنّ على لبنان قطع الطريق نهائيّاً على استخدامها لهذا الغرض: ففضلاً عن محدوديّة قدراته، وعن كونه دفع غالياً جرّاء انخراطه في هذه المسألة، يبقى أنّ تورّط لبنان المباشر في الصراع هذا، وصولاً إلى حمل السلاح، هو تأسيس لحرب أهليّة بين اللبنانيّين سبق أن شهدنا فصولاً سابقة منها. وتفيد تجارب الماضي جميعاً أنّ حروبنا الأهليّة، كائنةً ما كانت قضاياها، إنّما مهّدت وتمهّد لتمكين الأنظمة العسكريّة والأمنيّة المجاورة، وكذلك إسرائيل، في بلدنا وفي حياة شعبنا.
والحال أنّ الوضع الأمثل للبنان، على هذا الصعيد، والذي يتطلّب نضالاً سياسيّاً وثقافيّاً سلميّاً، شاقّاً ومديداً، هو في تبنّي نوع من الحياد العسكريّ في الصراعات المحيطة بنا، على غرار الحياد النمسويّ إبّان الحرب الباردة، والذي يردع عن كلّ ما هو عسكريٌّ، أكان مشاركةً في قتال أم توريداً لأسلحة ونقلاً لمقاتلين، فيما لا يتدخّل في السياسات الاقتصاديّة والثقافيّة للبلد المحايد. وهذا ما يتيح لنا المضيّ في الدفاع عن حقوق الفلسطينيّين، أو أيّة قضيّة محقّة أخرى، من دون التورّط في المواجهات الحربيّة، وتالياً من دون استخدام هذه المسألة كتبرير في يد إحدى الطوائف لإخضاع طوائف أخرى. وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ أيّ ترميم ناجح للوطنيّات العربيّة والتقدّم لبناء تجارب ديمقراطيّة وتعدّديّة ناجحة تطمئن جماعاتها، سيكون شديد الفعاليّة في إضعاف النموذج الصهيونيّ وفي توليد مناعات عريضة حيال احتمالاته العدوانيّة والتوسّعيّة. وإذ يستطيع لبنان أن يلعب دوره الكبير على هذا الصعيد، فإنّ العمل العسكريّ نفسه بات عديم الجدوى في عموم العالم العربيّ، وكلّ ما بقي منه استخدام ذرائعيّ وانتهازيّ من هذا الطرف أو ذاك توخّياً لأغراض لا صلة لها بما هو معلن.
لكنّ الطموح إلى دخول الحياة السياسيّة والمشاركة فيها يتعدّى هذه الأهداف إلى أهداف أخرى مهمّة بذاتها، فضلاً عن مردودها الإيجابيّ على المسائل المثارة أعلاه. فلا بدّ من الانحياز إلى الفئات الاجتماعيّة المتضرّرة من سياسات اقتصاديّة تجمع بين تركّز الثروة والفساد المعمّم، والتوكيد على أهميّة اعتماد نظام ضريبيّ تصاعديّ مباشر، وخلق جاذبيّة اقتصاديّة في المناطق الطرفيّة تنهض على تطوير الزراعة والصناعات الخفيفة، مع الاستثمار، في بيروت كما في المناطق، في المهارات التقنيّة ما بعد الصناعيّة على أنواعها. ومع الإدراك للحساسيّات الطائفيّة التي يثيرها موضوع الملكيّة الزراعيّة، في ظلّ تملّك المؤسّسات الدينيّة والطائفيّة لمساحات شاسعة من الأراضي، فإنّ أيّ طموح إلى تحقيق إنتاجيّة أعلى للاقتصاد، وإلى توسيع الطبقة الوسطى بوصفها سند الديمقراطيّة وقاعدتها، يُدرج مسألة الإصلاح الزراعيّ على جدول أيّ اهتمام جدّيّ بالتغيير. وبالمعنى نفسه، وعلى نحو أكثر مباشرة وإلحاحاً، سيبقى أيّ إصلاح اقتصاديّ مجرّد وهمٍ ما لم تكن الدولة مسيطرة على مواردها التي تنهبها راهناً، على مدى الساحل اللبنانيّ، وفي المرفأ والمطار وسواهما من المرافق المُدرّة للدخل، القوى الطائفيّة النافذة و/أو المسلّحة.
وعلى العموم، ومن دون أيّة تبعيّة دوغمائيّة وجامدة لأيّ من المدارس والتجارب الاقتصاديّة، يبقى من القاهر إعادة الاعتبار لبنانيّاً لمبدأ تدخّل الدولة في توزيع الثروة بما لا يخلّ بمبدأ السوق الحرّة، بل يعمل على تنظيم تلك السوق وتحسين اشتغالها، وبالتالي توسيع رقعة المستفيدين منها.
إنّ الجمع بين الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة يكاد يكون أنبل الطموحات السياسيّة في التاريخ، فيما المجتمع الذي لا يوفّر لمواطنيه المتطلّبات الأوّليّة في السكن والعمل والتعليم يصعب وصفه بالمجتمع المتمدّن أو الحرّ.
أمّا في المجالين الاجتماعيّ والثقافيّ، فلا بدّ من توكيد أمور باتت بديهيّة في أيّ مجتمع حديث وديمقراطيّ، وإن لم يكن يُنظَر إليها بهذه البداهة في بلدنا، ونخصّ بالذكر ستّة هي شديدة الإلحاح اليوم:
أوّلاً، السعي إلى المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، مع ما يرتّبه ذلك من مسائل تفصيليّة لا بدّ من بتّها، يتصدّرها راهناً حقّ الأمّهات المتزوّجات من رجال غير لبنانيّين في منح أبنائهنّ/بناتهنّ الجنسيّة اللبنانيّة.
ثانياً، السعي إلى تكريس عدم التدخّل في الخيارات الجنسيّة التي يختارها اللبنانيّون رجالاً ونساءً لحياتهم. ذاك أنّ من يعجز عن أن يكون حرّاً في جسده ستكون حرّيّاته الأخرى مجتزأة وقابلة للانتزاع منه.
ثالثاً، الرفض المبدئيّ، الأخلاقيّ والسياسيّ، للممارسات العنصريّة بحقّ السوريّين والفلسطينيّين والعمّال المهاجرين وكلّ غير اللبنانيّين في لبنان، والدفاع تالياً عن حقوقهم، وحقوق العاملين منهم في التنظيم النقابيّ.  
رابعاً، حماية الحرّيّات في مجالات الإعلام والثقافة والإبداع على أنواعها، وعدم السماح بابتزازها وابتزاز أصحابها بذرائع أخلاقيّة أو سياسيّة كائنة ما كانت. ذاك أنّه من دون هذه الحرّيّات يخسر لبنان أهمّ مقوّمات وجوده.
خامساً، العناية بالتعليم ووظيفته في بناء دولة ومجتمع حديثين وأكثر وعياً بحقوقهما ومصالحهما، وهو ما يساهم أيضاً في امتصاص احتمالات الحروب والنزاعات الأهليّة.
سادساً، العمل على رفع الوعي بالمسألة البيئيّة وأهميّتها ومخاطر تجاهلها. وإذا كان هذا صحيحاً بالمطلق فإنّ وتائر التلوّث المرتفعة جدّاً في لبنان إنّما تضاعف الحاجة إلى توكيد مهمّة كهذه.
إنّنا نعلم أنّ هذه العناوين مثيرة لحساسيّات كثيرة، بعضها طائفيّ محض، وبعضها دينيّ يتذرّع بالمقدّس. بعضها إيديولوجيّ “عروبيّ” سبق أن زجّنا في حروب أهليّة نزداد غرقاً في وحولها، وبعضها شوفينيّ “لبنانويّ” يخفي وراء “وطنيّته” المعلنة هواجسه الطائفيّة غير المصرّح بها. وهذا ما يفرض، في الواقع اللبنانيّ الراهن، طرحها بكثير من المرونة والليونة. لكنّنا نعلم أيضاً أنّ كلّ تقدّم في زحزحة الوعي والعلاقات الطائفيّة، مهما كان طفيفاً، وكلّ نزع للسلاح من حياتنا العامّة، ينعكسان قدرةً أكبر على إثارة هذه المسائل وصوتاً أعلى في طرحها.
وهذه ما هي إلاّ عناوين عامّة يحدو الأمل بأن يصار لاحقاً، وعلى ضوء ما تعلّمه الممارسة العمليّة، إلى التقدّم فيها وفي تفصيلها وإغنائها بالتجارب التي لا بدّ أن تظهر على الطريق.[video_player link=””][/video_player]