من سجن فاطمة حمزة بسبب رفضها تسليم طفلها، ووفاة نادين جوني التي حُرمت من حضانة ابنها، ومنع لينا جابر من حضور دفن ابنتها مايا، وحرمان ريتا شقير من حضانة ابنها وقبل ذلك، حرمان ريما، أمّ ريتا نفسها، من حضانتها عندما كانت لا تزال طفلة، تتّجه المعركة ضد المحاكم الدينيّة في لبنان إلى اشتعال من نوع آخر، لن يحمد أصحاب العمائم، قبل سواهم، عقباه…
لتلك العمائم أشكال وألوان وتصاميم تميّز لابسَها عن سائر البشر. مجرّد وضعها على رأس أحدهم يرفعه درجةً أعلى، ويُحيله، لا إلى مصافّ الآلهة، بل إلى نسخةٍ متقدّمة من الرجل الذي ستتجسّد فيه أخيراً أقصى تجلّيات الصفات السلطويّة المبتغاة منذ قرون. مجرّد عمامة، قطعة، لفّة، تصنع فرقاً هائلاً بالمرتبة والمقام. ثمّ تأتي امرأة، اسمها نادين جوني، غدرها الموت ذات السادس من تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، لتمسك العمامة وتنفضها كما يُنفَض فتاتُ الأطعمة عن أغطية الموائد، وتلقي نظرةً ثاقبةً إلى تجويفتها… فماذا وجدت؟
“الفساد، الفساد، جوّا جوّا العمامات”.
هكذا، عمّمت نادين، ومئات النساء غيرها، حقيقة ما وجدنه داخل تجويفات عمائم مستديرة ومستطيلة. عمّمن صور العمائم بأشكالها الفظّة. عوّمنها في مستنقع ما اقُترف باسمها ضدهنّ. خلعنَ حجابَها، وأنزلن أصحابها عن عروشٍ خالوها، كمصائر النساء، ملكلاً لهم إلى الأزل.
الهالة كُسرت، وانتهى البيان. ستحتدم المعركة، وتستنفر السلطات، ولا جديد في ذلك. ستظلم وتبطش أكثر، ليُغرقها استنفارُها أكثر فأكثر في بحر جثامين الضحايا وسخط الأمّهات، مع كلّ انطلاقةٍ جديدة، وجولةٍ أشرس من سابقاتها. ستحتدم المعارك ضد هذه الغطرسة التي ثقبت الأديان آذانَنا وهي تعظُنا بـ”حَرامِها”. نقترب من فهمها، وإذ بنا نكتشف أنّها، كالعمائم، أكثر ما يعشقون ارتداءه.
مخطئ جدّاً من يعتقد بأنّه يمتلك حقّ التصرّف بالقلوب والأرحام والأجساد والرؤوس، مجّاناً، وإلى الأبد. ستجيء عذابات النساء ويكون لها ما أرادت: الخلاص. الخلاص من نار جهنّمهم، لا جهنّم الآخرة. والخلاص من عذابات دنياهم، لا عذابات المطاهر. والخلاص من تيجان الرجال التي ظنّوا أنّهم بوضعها يضع الله عزَّهم. هي “قضيبهم” العلوي الذي يتبخترون به، ويحلّلون اغتصاب الزوجات باسمه، ويمنعون عنهنّ الخلاص، والانفصال، وحتّى الحلم بالأمان وبعيش حياة أفضل.
حقّ الأمّهات بحضانة أطفالهنّ، إن لم يثبت ما يخالفه لصالح خير الطفل والطفلة وخيارات الأمّهات أيضاً، عنوانٌ واحدٌ من بين عناوين كثيرة في معركةٍ طويلةٍ شديدة التعقيد والتشعّب. وتشعّبُها مردّه إلى بعثرتها على قوانين دينيّة من هنا ومدنيّة من هناك، وتحويلها إلى تفرّعاتٍ لأنظمة قانونيّة قد يبدو تقاسمها بين الديني والمدني عشوائيّاً. لكنّه في الواقع مدروس، وبعناية، حفاظاً على مصالح مزدوجة الاتّجاه بين دولة الطوائف وطوائف الدولة.
لم تعد حجّة المادّة التاسعة من الدستور التي تضمن “للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينيّة”، مقنعةً، حتّى للواتي والذين لا يفقهون من القانون مادّة. لم يعد سبب رفض وزارة الداخليّة تسجيل عشرات عقود الزواج الموقّعة أمام الكتّاب العدل مفهوماً بعد كسب معركة إرساء قانونيّة تسجيل عقودٍ أُبرمت قبلها، وإن بغياب القانون المدني الذي سيرعاها.
لم تعد لازمة قدسيّة القوانين منطقيّة، بعدما رأينا كيف فصلت هذه القدسيّة أمّهاتٍ كثيرات عن أبنائهنّ، وتفرّجت على ملحمة منع أمٍّ من دفن ابنتها، وحرمت أجيالاً من الأطفال من النمو إلى جانب أمّهاتهم، وزوّجت طفلةً من رجلٍ بعمر الشيخ الذي يزوّجها، ونهَرَت زوجاً “وافق” على إعطاء طليقته كامل حقوقها، ورفضت للمرأة طلب انفصالها عن شريكٍ عنّفها، أو غاب عنها لأعوام، أو تزوّج من امرأة أخرى… أو ببساطة، عن شريكٍ لم تعد هي تريده، مع إدراكنا لصعوبة هضم تصريح كهذا على نفوسٍ لم تستوعب بعد أنّ للنساء الحقّ في الاختيار.
رأينا كيف تقلّصت هذه القدسيّة التي نخرتم عظامنا بها. كيف غاب خيرها عنّا لينقشع شرّها علينا. واقتنعنا، أكثر من أي وقت مضى، أن لا أفق للنساء في بلادنا سوى بإقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشخصيّة، يقيهنّ شرّ مَن نصّبوا أنفسهم أولياء أمور عليهنّ وعلى شؤونهنّ الخاصّة، بوصفهم إمّا “رجالاً” أم “رجال دين”. والحال أن لا رجال للدين، ولا دين لرجالٍ ينصبون الفخاخ للنساء المؤمنات، حتّى قبل غير المؤمنات.
فلتكن الأيّام القادمة ممتلئة بمسيراتٍ لنساء قرّرن قلب الطاولة فوق رأس كلّ من لم يزل عالقاً على برجه العالي، متشبّثاً بعاجِ نصّه، متوعّداً المزيد من التعسّف بحقّ من قرّر بتلقائيّةٍ حاقدة الحكمَ عليها، متحالفاً مع أسوأ أصناف البشر، وأخبث أذرع الدولة التي ما برحت تراقب هذا المشهد الأبوكاليبتي من بعيد.
وليكن 8 آذار 2020 يوماً لكلّ النساء التائقات إلى كسر التحالفات مع هذا النظام الأبوي المهترئ.