سياسياً بلغت ذروة المساعي عبر محاولات انتزاع الوصاية على المسجد الأقصى من الأردن وتقديم عروض لوصاية موازية لدول الخليج. جرى ذلك بموازاة “اتفاقات ابراهام” التي بدورها أعطت زخماً للمساعي الإسرائيلية، ولم تشهد تمسكاً من قبل “المطبع” الخليجي بالقدس وبأهلها. وديبلوماسياً كانت خطوة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس أبرز ما حققته تل أبيب في سياق سعيها لضم المدينة. ويوم الأحد الفائت شهدنا الانطلاقة العملية لخطوة الضم، وهي تنطوي على قدر من الحماقة مثلما تنطوي على قدر من التغول والسطو.
المهمة تقضي بتحويل الصراع مع العرب إلى صراع ديني. المستوطنون القادمون إلى المسجد الأقصى هم جمهور الأحزاب الدينية. مصلون قدموا لاستفزاز مصلين! هل من وصفة أنجع من هذه الوصفة لانطلاق حرب دينية. التمهيد لهذه الخطوة بدأ في شهر رمضان الفائت. استحضر هذا الشهر في مقابل عيد الفصح اليهودي، وجرت خلاله مواجهات على أبواب المسجد الأقصى. أحزاب دينية يمينية نظمت المواجهات، ونقلتها إلى جامعة تل أبيب حيث قوبلت تظاهرة نظمها طلاب فلسطينيون بمناسبة ذكرى النكبة بتظاهرة شتم فيها المتدينون اليهود نبي المسلمين محمد. الشرطة الإسرائيلية اعتقلت ثلاثة طلاب عرب على إثر ذلك!
القدس بالنسبة لحكومة اليمين الإسرائيلية هي عاصمة دينية، تماماً مثلما هي لجماعات المستوطنين الذين زرعتهم في مناطق الضفة الغربية وفي محيط مدنها. إذاً مهمة ضمها تتطلب نزع الحق من سياقه القانوني وإلحاقه بسياق ديني. الوصاية الأردنية على المسجد الأقصى هي المستوى الأول من المواجهة، والبدء بالبحث عن تمايزات في الحقوق بين المصلين، وتحويل الفروق بين الحق في الصلاة والحق في الزيارة إلى قضية تمييز بحق المصلي اليهودي! وفي هذه اللحظة تتقدم قطعان المستوطنين لتحاصر المسجد متجاوزة حائط المبكى.
الحكومة الإسرائيلية تشعر أن اللحظة مناسبة جداً للضم. وقائع الأشهر الفائتة تؤكد سعيها واندفاعها نحو الخطوة مستعينة بجمهور المستوطنين، وغير آبهة بما يخلفه المشهد من حال استقطاب مولد للعنف. غزو حي الشيخ جراح واحتلال منازل الفلسطينيين تحت أنظار العالم لم يكن خارج هذا الإطار. محاولات الشرطة الإسرائيلية إعاقة سير جنازة الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في أحياء القدس كانت مهمته إشعار الفلسطينيين أنه ما عاد بإمكانهم التصرف بمدينتهم على نحو “يستفز” الشرطة والحكومة والمستوطنين. شيرين قتلت في جنين برصاص قناص إسرائيلي، وكان على الفلسطينيين أن يصلوا على قتيلتهم من دون أن يسيروا بالنعش في أحياء المدينة.
وفي الوقت الذي تزخم فيه الحكومة الإسرائيلية المضمون الديني للمواجهات، نجح الفلسطينيون هذه المرة في تصوير موقعهم من المواجهة بوصفه دفاع أهل المدينة عن مدينتهم. حق شيرين المسيحية بأن تسير جنازتها في مدينتها، يحمله أهلها وزملاؤها المسيحيين وغير المسيحيين. إنهم أهل القدس، وهم مسيحيوها المحاصرين بالهويات المقدسية التي تمنعهم من مغادرتها إلا نحو هجرة دائمة. وهذا تماماً ما جرى لعائلة أبو عاقلة في وقت أصرت هي على البقاء في مدينتها.
ستضاعف الحكومة الإسرائيلية جهودها لتزخيم “الحرب الدينية”، فهي ترى أن استدراج الفلسطينيين لاحقاً إلى مزيد من العنف وتحويل المواجهة إلى حرب مسلحة، سيفضي إلى نصر ميداني، وسيجعل القدس مدينة صعبة وسيتناقص عدد الفلسطينيين فيها، مما سيسهل التهامها.
الخيار إذاً هو ذاك الذي شرع به أهل حي الشيخ جراح. الصمود في المدينة، وضغوط من النوع الذي مارسه فلسطينيو الداخل حين تقاطروا إلى القدس لحماية أهل “الشيخ جراح”، ولتشييع شيرين.
إقرأوا أيضاً: