تعد مدينة الناصرية منذ احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أكثر المدن العراقية التي تعرضت للقمع والعنف من القوات الأمنية النظامية من جهة وهجمات الميليشيات المتفرقة من جهة أخرى، إذ تعرضت للقمع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، في ما عرف حينها بـ”مجزرة جسر الزيتون” الذي تجمع عنده المحتجون، وهو لا يبعد من ساحة الاحتجاج سوى 1000 متر تقريباً. راح ضحية المجزرة 40 قتيلاً وأكثر من 200 جريح، وتلتها أحداث كثيرة، منها هجمات ليلية على ساحة الحبوبي، ساحة التظاهر لثلاث مرات، أحرقت على اثرها خيام المتظاهرين وقتل عدد منهم، ثم دخل انصار الصدر إلى ساحة الحبوبي في تشرين الثاني 2020، وأحرقوا خيم المحتجين وقتل 9 محتجين وأصيب العشرات بالرصاص. وحتى الآن لم يحاسب أحد، وضاع دم الضحايا في أدراج الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين.
راهناً، عاد العنف والقمع ليضربا الناصرية، بعد موجة احتجاجات للإفراج عن الشاب حيدر الزيدي، الذي اعتقل وسجن لأنه انتقد “الحشد الشعبي”. فما كان من قوات الأمن، التابعة لحكومة محمد شياع السوداني، إلا أن ضربت المتظاهرين بقسوة، وانتهى الأمر بسقوط قتلى وجرحى، أضيفوا إلى لائحة التضحيات التي قدمتها هذه المدينة ولا تزال تقدّمها ضريبة لمطالبتها بالحرية والإصلاح وإنهاء الفساد. في الاحتجاجات التي انطلقت في السادس من كانون الأول/ ديسمبر، قتل متظاهران برصاص الأمن وأصيب أكثر من 15 متظاهراً بجروح، بعضها خطير. وكأن المدينة المنتفضة منذ بدايات التاريخ العراقي الحديث، تخضع للتأديب بالرصاص والهراوات والقنابل المسيلة للدموع، لأنها تعلي الصوت دائماً ضد ظلم السلطة.
“حالات القمع الحالية تبيّن بشكل واضح أن النهج الحكومي ممنهج وله استمراريته”
المتظاهر علي كامل، الذي شارك في تلك الاحتجاجات، يقول إن “خروجنا كان لاجل مطالب سلمية وأولها الافراج عن المعتقلين ومنهم حيدر الزيدي وإسقاط الدعاوى الكيدية ضد النشطاء والمتظاهرين، والتي ما زالت في أدراج المحاكم منذ عام 2019، وأحزاب السلطة تحاول تحريكها بين فترة وأخرى لمحاولة ابتزاز النشطاء والضغط عليهم وعلى أهاليهم”. كامل يتحدث عن مطالب أخرى حملها المتظاهرون، خصوصاً جرحى التظاهرات السابقة التي ملأت ساحات الناصرية منذ 2019، والذين تعرضوا للتنكيل والبطش، وكان يفترض بلجنة خاصة أن تقّيم الإصابات وتقرّ تعويضات للجرحى، لكن ذلك لم يحدث وحجبت الحكومة التعويضات عنهم، وهو ما صعّد غليان المدينة”.
الناشط المدني علي الدهامات يرى أن “حالات القمع الحالية تبيّن بشكل واضح أن النهج الحكومي ممنهج وله استمراريته، وليس اجتهادات شخصية، وأن جميع الأحزاب السياسية العراقية عندما تصل إلى الحكم، تنتهج الأسلوب نفسه في تكميم الأفواه والتغطية على الفساد، والذهاب إلى القتل خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمدينة متمرّدة كالناصرية”.
الحكومة المركزية، قامت على اثر هذه التطورات بتغيير قائد شرطة ذي قار الفريق الركن سعد حربية بقائد جديد برتبة عميد وهو مكي شناع، وبذلك يكون هو القائد رقم عشرة الذي تم تكليفه لادارة الملف الأمني في المحافظة منذ حراك تشرين 2019، وهي إشارة إلى أن الناصرية اكثر مدن العراق تمرداً على الحكومات المتعاقبة والسلطات العسكرية، وهي مدينة عصية على ما يبدو على التطويع، ولم ينجح أحد من الضباط العشرة الكبار في لجم جموحها نحو الاعتراض على الظلم.
إقرأوا أيضاً:
استاذ العلوم السياسية نجم الغزي يرى أن لا شيء يبرر استخدام العنف والقتل لقمع الشبان، لكنه يرى في المقابل أن “إحراق المؤسسات الامنية والاعتداء على القوى الأمنية مرفوض، ويجب ان يكون مداناً، وان الاخطاء لا يمكن تصحيحها بأخطاء اخرى وملف الدعاوى الكيدية الذي لم يتوقف منذ فترة موجود، لذا يفترض بالجهات الحكومية التمييز بين المتظاهرين والمطالبين بالحقوق وإنهاء الملفات الكيدية لمنع جر المدينة واهلها الى الفوضى”. الغزي يرى أن الناصرية “لم تعد تحتمل المزيد من الدماء، فهي بحاجة الى حلول جذرية تحدد أسباب المشكلات، وتؤسس لحلول ترتقي الى مستوى هذه المشاكل، بدل الحلول الترقيعية والانفعالية”. ويشير إلى أن اللجان التحقيقية التي لا تملّ الحكومة من انشائها هي أشبه ما تكون بلجان تسويف.
تاريخياً تعيش الناصرية على هامش اهتمام الحكومات المتعاقبة، لذا تجد مجتمعها متجذراً في الجانب السياسي، الذي يحاول أن يجد للمدينة وناسها مساحتهم على الخارطة السياسية، في مواجهة التهميش. ولهذا تحضر في تاريخ المدينة التناقضات لجهة دعم توجهات سياسية لاعتقاد المدينة أنها ستكون مختلفة وعادلة، لتنقلب عليها لاحقاً بعد أن يظهر وجهها السلطوي الحقيقي. منها انطلقت حركات قومية عربية وشيوعية ومنها ايضاً انطلقت نواة “حزب البعث العربي الإشتراكي” مع فؤاد الركابي. الذي حكم العراق من عام 1963 وحتى سقوط النظام في العام 2003. والمدينة نفسها التي أوجدت البعث، كانت من أشهر المدن المعارضة لصدّام حسين. فنشأ فيها “حزب الدعوة الاسلامية”، الذي يعد الشيخ محمد باقر الناصري والسيد طالب الرفاعي من مؤسسيه، لتستمر المدينة بلعب أدوار سياسية مختلفة، كان معظمها معارضاً للحكومات، حتى تبنّت الناصرية منذ 2019 مطالب الحراك الشعبي ضد أحزاب السلطة، ورفعت شعار “الناصرية خالية من الأحزاب”، وقام شبان فيها بإقفال مراكز تعود لأحزاب السلطة وإنزال صور الزعماء السياسيين، بعدما شعرت المدينة بخذلان تاريخي من جميع رافعي رايات السلطة فيها. يعيش في الناصرية اليوم قرابة مليوني نسمة وتمتلك ثلاثة حقول نفطية إلا أن نسبة الفقر فيها تزيد على 30 في المئة، وترتفع باطراد نسبة العاطلين من العمل فيها، وربما هذا الجانب الاقتصادي يشكّل السبب الرئيسي، الذي يعلن عن نفسه تارة ويختفي طوراً، وراء نقمة أبناء المدينة وتظاهرهم الدائم في وجه السلطة التي تهمّش مدينتهم، وتحرمها، بفسادها، التطور والازدهار والبحبوحة.