fbpx

التعليم في مصر… اكتظاظ وحوادث خطرة ومستقبل ضائع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تترك الكثافة الطلابية تأثيراً سلبياً حاسماً على سلوك الطلاب وتحصيلهم العلمي، إذ تُعرضهم للشوشرة والشعور بالإهمال، وتُصعِّب عليهم ضمان تحصيل علمي ملائم، بالإضافة إلى الإجهاد النفسي الذي يصيب طلاب الفصول المزدحمة، بل ويصيب المعلمين كذلك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شهدت بداية العام الدراسي الجديد في مصر، الذي انطلق في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر، حوادث مؤسفة ومقلقة أسفر أحدها عن وفاة طالبة وإصابة 15 أخريات في مدرسة المعتمدية الإعدادية- بنات في إدارة كرداسة في الجيزة، عقب انهيار سياج سلم المدرسة، فيما شهد ثاني أيام العام الدراسي الجديد، وفاة التلميذة منة تامر (8 سنوات)، بعد سقوطها من الدور الثالث في مدرسة سيد الشهداء في ميت عقبة بالجيزة أيضاً. 

لم يكن وقوع هاتين الحادثتين في محافظة الجيزة مجرد مصادفة عابرة، فالأولى نتيجة طبيعية لتسجيل الجيزة أعلى متوسط للاكتظاظ الطلابي في الفصول على مستوى المحافظات، وصل في حدوده الدنيا إلى 50 طالباً في الغرفة الواحدة (الفصل) على مدار السنوات العشر الماضية، فيما يعود سبب الحادثة الثانية إلى قلة المدرسين، وهم المنوط بهم مراقبة سلوك الطلاب، وهما المشكلتان اللتان تعاني منهما معظم محافظات الجمهورية.

119 طالباً في غرفة!

بموازاة الحزن الذي خيم على بدايات السنة الدراسية الجديدة، بعد موت الطالبتين إضافة إلى وفاة التلميذة ناريمان محمود بمدرسة الإمام علي الابتدائية في الشرقية، نتيجة تعرضها لأزمة قلبية، انتشرت عاصفة من الغضب عقب نشر قائمة بأسماء أحد فصول مدرسة في القليوبية وصلت إلى 119 طالباً.

ومن جانبها، سارعت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني لتأكيد عدم صحة المنشور المتداول على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن مدرسة “الشهيد عبدالله عيسوي” الابتدائية بإدارة الخانكة التعليمية في القليوبية، والذي يشير إلى أن عدد الطلاب في الفصل يصل إلى 119 طالباً، وأوضحت الوزارة، في بيان صحافي، أن المدرسة تعمل بنظام الفترة الممتدة (الفترتين)، وعليه تم تخفيض كثافات الفصول لتتراوح من 65 إلى 75 طالباً في الفصل.

المفارقة المحزنة أن الأعداد التي أعلنتها الوزارة تؤكد وجود المشكلة ولا تنفيها، إذ أن معدل 70 طالباً في الصف الواحد هو ضعف النسبة المقبولة عالمياً لكثافة الفصل الدراسي، خصوصا أنها تأتي بعد تطبيق نظام الفترتين، والذي يطيح بالوقت المخصص للأنشطة والتعلم وتنمية المهارات.

“حين تأخرت زوجتي قليلا عن موعد خروج ابنتي في أول أيام الدراسة، وجدتْها تبكي وحيدةً في الشارع، وحين سألت أحد المدرسين أجابها بأن المدرسة غير مسؤولة عن الطلاب بعد انتهاء الحصص”.

هذا الواقع يؤكد أن المنظومة التعليمية ما زالت تواجه مشكلات هيكلية لناحية نقص الإمكانيات والموارد الضرورية التي تضمن حصول الطلاب على خدمة تعليمية لائقة.

إذ تعود مشكلة الكثافة إلى قلة أعداد الغرف، بعدما سجلت الكثافات الطلابية أعلى معدل في المدارس خلال العام الماضي، فبلغت كثافة الفصول في المدارس الابتدائية 54.98 طالب في المدارس الحكومية (مقابل 31.32 طالب في المدارس الخاصة).

وترتبط مشكلة نقص الفصول الدراسية بارتفاع تكاليف البناء في ظل التضخم وتخفيض قيمة العملة والارتفاع الجنوني في أسعار الحديد والأسمنت، ليصل تكلفة إنشاء الفصل الواحد أكثر من نصف مليون جنيه، مع ضعف المخصصات المالية للأبنية التعليمية، إذ لم تتجاوز الـ10 في المئة من إجمالي موازنة التعليم قبل الجامعي، بينما استحوذ بند الأجور على 80 في المئة من الموازنة.

تترك الكثافة الطلابية تأثيراً سلبياً حاسماً على سلوك الطلاب وتحصيلهم العلمي، إذ تُعرضهم للشوشرة والشعور بالإهمال، وتُصعِّب عليهم ضمان تحصيل علمي ملائم، بالإضافة إلى الإجهاد النفسي الذي يصيب طلاب الفصول المزدحمة، بل ويصيب المعلمين كذلك.

وتُلقي مشكلة الكثافة بظلالها على نمط حياة الأهالي أنفسهم، إذ يشعر ولاة أمور الطلاب بالذنب والإخفاق إذا تركوا أبناءهم فريسة لهذا الزحام غير الآدمي، ما يدفعهم إلى الانتقال إلى حي سكني يضم مدرسة ذات كثافة منخفضة، ولأن ذلك لم يعد متاحاً في القاهرة الكبرى ولا في الدلتا خلال العاملين الماضيين، فلم يعد أمامهم سوى إعادة ترتيب حياتهم بالكامل من أجل توفير مبلغ مالي يسمح بإدخال أبنائهم لمدرسة خاصة.

انسحاب الدولة وتسليع التعليم

أصبحت استراتيجية دفع الأسر لسحب أبنائهم من المدارس العامة وإلحاقهم بالخاصة فعالة ضمن سياسة الدولة لتخفيض الإنفاق على التعليم مع تشجيع وتمكين القطاع الخاص في الاستثمار في التعليم، فعلى رغم إلزام الدستور الحكومة بإنفاق 4 في المئة من الموازنة على التعليم قبل الجامعي و2 في المئة منها للتعليم الجامعي، وهي نسبة ضئيلة أصلاً مقارنة باحتياجات منظومة التعليم ونسبة الشباب من السكان، إلا أن الحكومة تعمل دون كد في التهرب من الالتزام بها.

إذ انخفضت نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم في العام الدراسي 2018/2019 إلى 1.4% وهي أقل نسبة وصل إليها منذ وصول الرئيس السيسي إلى السلطة في أغسطس (آب) 2014 وهي السنة التي شهدت ارتفاعاً كبيراً في الإنفاق وصل إلى 4.6%، ويمكن تفسير ذلك بزوال الضغط المجتمعي على الحكومة، فبعد تجريم الإضرابات وتأميم الصحافة وتدمير السياسة، تحررت الحكومة من أي إلزام لصالح الأغلبية، فيما يخص التعليم وغيره.

وفي العام المالي الحالي 2021-2022، تجاهلت الحكومة التزامها بالحد اﻷدنى الدستوري للإنفاق على التعليم (المدرسي والجامعي) لتبلغ نحو 2.42 في المئة من الناتج المحلي.

وهو ما فتح المجال للقطاع الخاص للتغلغل أكثر في المشهد التعليمي بدعم من الحكومة عن طريق توفير الأرض للمستثمرين في التعليم، وإعفاء المدارس الخاصة والدولية من ضريبة القيمة المضافة، على رغم طابعها الربحي البحت، وهو ما يحرم التعليم الحكومي الذي يخدم الفقراء، من ضرائب مستحقة كانت مفيدة في إنشاء فصول إضافية تستوعب هذه الزيادة المهولة التي تودي بالأرواح كما حدث في اليوم الأول من الدراسة.

لا يعد تفضيل الدولة للقطاع الخاص على نظيره الحكومي جديداً، إذ يمثل ذلك تكريساً لتوجه الدولة نحو رفع الدعم عن الخدمات التعليمية وتحويلها إلى خدمة يحصل عليها الميسورون وحدهم، بدلاً من أن تكون حقاً إنسانيا بدهياً ينص عليه الدستور.

وكل ذلك يتوِّج عقودا من سياسات النيوليبرالية في البلاد، والتي أدت إلى تقليل الإنفاق على الخدمات العامة وعلى رأسها التعليم، ومن ثمّ تقليل بناء الفصول، وإضعاف البنية التحتية للمدراس حتى بدأ بعضها في التآكل، وتخفيض رواتب المعلمين وتقليص عددهم، مع إعلان فتح باب التطوع للتدريس مجاناً لسد عجز المدرسين، فيما يشبه قصة أنطون تشيخوف “المغفلة“.

الحكومة الشركة والمواطن “الزبون”

على رغم القروض التي ضخها البنك الدولي في السنوات الماضية لتمويل تجديد المنظومة التعليمية في البلاد، في ظل إحجام الحكومة عن رفع الإنفاق على التعليم، إلا أن أوضاع المدارس العامة تزداد تدهوراً، ما يلقي بمسؤولية التعليم على الأسر، إما من طريق الدروس الخصوصية بالنسبة إلى محدودي الدخل، أو المدارس الخاصة لأفراد الطبقة الوسطى، والدولية لأصحاب الدخل المرتفع.

كشفت نتائج بحث الدخل والإنفاق لسنة 2019/2020 الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن متوسط نسبة المصروفات الدراسية تشكل 38.6 في المئة من إجمالي حجم إنفاق الأسرة على التعليم خلال عام 2019/2020، وأشار البحث إلى إنفاق العائلات المصرية على الدروس الخصوصية 5249 جنيه سنوياً.

ويتم احتساب متوسط الإنفاق بالمقارنة بين النسب المرتفعة في الحضر في الغالب والأقل في الريف، لكن مقارنة أخرى تستحق النظر وهي حجم الفجوة المهول في الإنفاق على التعليم بين الأعلى والأقل دخلاً، فنجد أن 10 في المئة من السكان ينفقون على التعليم ما ينفقه بقية السكان مجتمعين (أي الـ90 في المئة الأقل إنفاقاً).

وبعدما جعلت الدولة من الحصول على خدمة تعليمية لائقة حلماً يحتاج مبالغ كبيرة، قررت منافسة القطاع الخاص بنفسها في الاستثمار في التعليم، وهي ترعى حالياً نوعاً من المدارس شبه الحكومية (التجريبية) وصل عددها إلى 953، تهتم باللغات مثل نظيرتها في القطاع الخاص.

 وقد وصل سعر المصروفات فيها إلى 1314 جنيهاً للحضانة، و1005 جنيهات للابتدائي، و955 جنيهاً للإعدادي و1186 جنيهاً للثانوي، ولا تشمل هذه التكلفة أسعار الكتب الدراسية وغير ذلك.

ويقول إيهاب نبيل، مدرس في مدرسة خاصة وأب لتلميذة في مدرسة تجريبية، لـ”درج” إن المدارس الخاصة تُنافس مدارس القطاع الخاص فيما يخص الاهتمام باللغات الأجنبية فقط لا غير، مع فارق أكيد لصالح الأخيرة، لكن فيما يخص كثافة الفصول لا تختلف عن المدرسة الرسمية إذ يصل عدد الطلاب أحياناً إلى 60 طالباً في الصف.

ويشير نبيل إلى أن قدرات المعلمين لا تختلف عن نظرائهم في المدارس العامة ولا يبدون الاهتمام الكافي بالطلاب، حسب قوله، ويضرب مثلاً بمسألة إخلاء مسؤولية المدارس التجريبية عن التلاميذ بعد انتهاء اليوم الدراسي مباشرة، وتركهم خارج الأسوار حتى قبل أن يصل ذووهم لاستلامهم.

ويقول: “هم مجرد موظفين حكوميين ينفذون تعليمات ولا تعنيهم سلامة الطلاب إلا داخل أسوار مدرستهم كي لا يقعوا تحت طائلة القانون إذا ما حدث مكروه لأي طالب، أما الالتزام الأخلاقي بحماية الطلاب فلا يعيرونه انتباهاً”.

 ويضيف: “حين تأخرت زوجتي قليلا عن موعد خروج ابنتي في أول أيام الدراسة، وجدتْها تبكي وحيدةً في الشارع، وحين سألت أحد المدرسين أجابها بأن المدرسة غير مسؤولة عن الطلاب بعد انتهاء الحصص”.

غضب إيهاب حين فكر بأن ابنته كانت معرضة للاختطاف أو الضياع ولو لدقائق، وقرر عدم إرسالها ليومين، حتى يجتمع مع مديرة المدرسة ويجد حلاً لتلك المشكلة التي تهدد سلامة التلاميذ: “أنا أعمل في التدريس وأفهم كيف يفكر هؤلاء: ماذا تدفع لهم حتى يهتمون بأطفالك؟!.. نحن انحدرنا طبقياً ولا أحد يهتم بمن ينزل للأسفل”، يقول إيهاب.

ومع ذلك يطرح وجود المدارس التجريبية سؤالا: إذا كانت الدولة قادرة على تدريس اللغات الأجنبية بشكل جيد فلمَ لا تعمم التجربة على المدارس العامة بحكم تطلب سوق العمل لمهارات اللغات الأجنبية؟ 

وعلى نقيض المدارس التجريبية تقف مدارس النيل التابعة لمجلس الوزراء، والتي تحظى بإشادات على نطاق واسع، بحكم منافستها المدارس الخاصة جدياً، هو ما يطرح سؤالاً أكثر أهمية: إذا كانت الحكومة المصرية تمتلك القدرة على تقديم خدمة تعليمية عالية المستوى فلماذا تعجز عن تقديم الخدمة ذاتها في المدارس التجريبية والعامة؟ وهل يحمل وجود ثلاثة أنواع من التعليم الحكومي تقسيما طبقياً للمواطنين في خيال وخطط الدولة؟

أداة فرز طبقي

كان المنظر الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو الذي انشغل طويلاً بالصراع الطبقي داخل المجال التعليمي قد توصل في كتابه “إعادة الإنتاج… في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم” إلى مبدأ أساسي، هو التفاوت في النجاح الدراسي للأطفال المنحدرين من طبقات اجتماعية مختلفة، إذ تزيد حظوظ أفراد الطبقات العليا في النجاح الدراسي. 

 بورديو كان يتحدث عن المدارس العامة في فرنسا التي تضم طلابا من جميع الطبقات وتبقى الفروق والامتيازات الطبقية خفية ومضفرة في تفاصيل يومية تحتاج عدسات سوسيولوجية من أجل رؤيتها، بما في ذلك الثراء اللغوي مثلا لدى أبناء الأغنياء، لكنه لم يكن ليتخيل أن عمليات الفرز الطبقي في النظام التعليمي ستصل إلى ما وصل إليه الحال في مصر.

المدارس الحكومية التي تصل نسبتها إلى نحو 74 في المئة، مقابل 24 في المئة للخاصة و2 في المئة للدولية، أصبحت ملاذاً للمهمشين اقتصادياً واجتماعياً، بينما يفضل الأغنياء المدارس الدولية التي يصل عددها إلى 149 مدرسة.

 وعلى سبيل المثال، يدفع الطلاب في الكلية الأميركية بالقاهرة في رياض الأطفال حتى الصف الخامس نحو 534 ألف جنيه سنوياً، أما الصفوف من السادس إلى الثامن فتصل مصروفاتها إلى 544 ألف جنيه، ويدفع طلاب المرحلة الثانوية نحو 548 ألف جنيه.

 وبالمقارنة مع نصيب الطالب في التعليم الحكومي في جميع مراحل التعليم من الموازنة العامة للدولة، الذي يصل إلى 104 جنيهات (بعد استبعاد أجور العاملين في القطاع) سنكتشف إلى أي مدى وصل الانقسام الطبقي في البلاد.

هذا التناقض الصارخ في واقع الحياة المدرسية في بلد واحد يعيد بشكل منهجي وسافر إنتاج الفروق الطبقية بين الأسر الفقيرة وتلك الغنية، فالمدارس الحكومية التي يحصل فيها المعلم على ما يشبه بدل بطالة، وطالبها محشور في فصل مزدحم، ولا تقدم تعليماً ملائماً لمتطلبات سوق العمل، بل تنتج عاطلين مستقلبيين، أو عاملين في وظائف متدنية العائد والمكانة.