fbpx

سوريا: النظام لن يقبل دور “التلميذ” لإعادة إعمار ما هدمه

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عملية إعادة الاعمار مرتبطة بمرتكزات واضحة هي “الأمن والعدالة، والمصالحة، والرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والمشاركة”، وهي مرتكزات لا يملك النظام منها شيئاً بل يكتفي بترديدها مثل شعار حزب البعث “وحدة، حرية، اشتراكية”، حيث تبيّن أن للنظام تعريف خاص بالوحدة، يتجلّى في وحدة المؤسّسات الأمنية ضد السوريين، وله مفهوم خاص بالحرية، وهو حرية قتل واعتقال وإخفاء أي سوري

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأ النظام في سوريا عمليّة إعادة الإعمار وفق وجهة نظره بأن أصدر طابع إعادة الإعمار عام 2013. بدأ من حيث يجب ألا يبدأ، لكنّ هنالك سبباً جليّاً من وراء هذا الفعل، هو أثر معنوي أكثر ما هو مادي. فعلى رغم الإيرادات التي سوف يحصل عليها من طابع إعادة الاعمار إلا أنها لن تشكّل سوى نسبة قليلة من حجم إيرادات الدولة، ويبرز الدور القوي الذي يسعى النظام إلى تسويقه بأنه يستطيع إعمار ما دمّره الإرهاب، هو الإرهاب ذاته الذي يمارسه الجيش السوري وحلفاؤه على السوريين جميعاً، وقد تجاوز الإرهاب الجسدي، ولقمة العيش، وراح “يسطّر” أنواعاً جديدة من الإرهاب الفكري والعرقي والطائفي.

نتحدّث هنا عن طريقة طرح النظام مفهوم إعادة الإعمار والذي نؤكّد كونه وهماً مستحيلاً وهو إعادة هيكلة للنظام لا أكثر. فالمخطّط بدأ بعد أوّل عملية هدم قام بها النظام في مدن حمص القديمة ووسطها التجاري الثائرة، وهنا نستحضر اسم محافظ حمص حينها إياد غزال صاحب المشروع العقاري الوهمي “حلم حمص”، كي لا يُنسى سببٌ من أسباب المأساة الحمصية.

إن عملية إعادة الاعمار مرتبطة بمرتكزات واضحة هي الأمن والعدالة، والمصالحة، والرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والمشاركة “بحسب مركز كارنيغي للشرق الأوسط – وجهات نظر مقارنة في تحدّيات إعادة الاعمار في سورية”. وهي مرتكزات لا يملك النظام منها شيئاً بل يكتفي بترديدها مثل شعار حزب البعث “وحدة، حرية، اشتراكية”، حيث تبيّن أن للنظام تعريف خاص بالوحدة، يتجلّى في وحدة المؤسّسات الأمنية ضد السوريين، وله مفهوم خاص بالحرية، وهو حرية قتل واعتقال وإخفاء أي سوري أو إنسان يقول أو يفعل أي شيء مناهض للنظام الحاكم. وله مفهوم عصري للاشتراكية في مشاركته جميع فئات الشعب لقمة عيشهم بل ومنافستهم عليها مهما صغرت على مائدتهم المتواضعة، ومهما عظمت داخل شركاتهم أو بيوتهم الفخمة.

“تبرز قضية إعادة الاعمار في مجال العدالة كأنها أداة لتحقيق غايات النظام في طمس الهويات السورية وكم الأفواه إلى الأبد مع إحكام القبضة القانونية على السوريين”

المفهوم الحداثي الذي يعمل النظام على نشره بالنسبة إلى إعادة الإعمار يتجاوز النظرة المستقبلية لكثير من الباحثين والمنظّرين والمؤيّدين لتوجّه النظام. وللأسف تعكف مراكز أبحاث عربية وعالمية على طرح أفكار ومرجعيات ونظريات حول إعادة الاعمار السوري وكأنه سوف يحدث حقاً، وهم لا يدركون أن النظام لا يحتاجهم بل هو من سوف يرتدي ثوب “الأستاذ” في هذا الأمر، فهو لم يقبل دور “التلميذ” سابقاً كي يقبله الآن.

الأمن والإعمار

نبدأ من مفهوم الأمن، حيث لا يمكن بدء إعادة الاعمار والمعارك الطاحنة مستمرة على الأراضي السورية، وهناك مناطق استراتيجية تحوي النفط والثروات المعدنية والزراعية مجهولة المصير ومطروحة على طاولات التسويات. إلا أن النظام لديه نظريته الخاصة في موضوع الأمن والأمان، وهذا ما أوضحه عبر بياناته لأبناء دمشق عندما بشرهم بعودة (الأمن والأمان) إلى المدينة. فالأمن لدى النظام مفهوم بسيط يختلف عن المفاهيم النظرية لمراكز الدراسات، ويلخّص في أنه على السوريين الموجودين على الأراضي السورية أن يكونوا عناصر أمن دائمين ورافداً للمؤسسات الأمنية، وقد قالها مرّة بشار الأسد في أحد خطبه، أن المواطن السوري (المتجانس) هو المواطن الذي يساهم في استقرار بلده و أمنه. إذاً على كل سوري أن يتجسّس على الآخرين من أبناء جلدته، وقد نجح هذا المفهوم بجزء ملحوظ خلال الحرب، وسوف يستمر لما بعدها، إذ وثّقت حالات سلّم فيها بعض السوريين أعزّ أقربائهم وأصدقائهم إلى فروع الأمن تحت شعار “الخيانة”، الشعار المُصاغ بطريقة النظام العصرية أيضاً فلا يوجد وطن لنخونه، بل يوجد فقط بشار الأسد. إذاً كل من يعارض بشار الأسد هو خائن بشكل قاطع ويجب الاقتصاص منه.

العدالة والإعمار

ويأتي مفهوم العدالة ليكمل المعنى النظري والعملي الذي يمارسه النظام في عملية إعادة الاعمار، حيث كان لتأسيس محكمة الإرهاب عام 2012؛ الأثر الكبير في تنفيذ الأحكام الظالمة للسوريين، فالسوري المتظاهر أصبح إرهابياً ويحاكم على هذا النحو، ولملف المعتقلين والمغيَّبين في سجون النظام بداية مع هذه المحكمة من دون نهاية منظورة سوى ما بدأ يُنشر عن قوائم السوريين الذين قتلوا تحت التعذيب أو إعداماً نتيجة محاكمات ميدانية. والعدالة هنا لا تقتصر على كبت الحريات وملاحقة المتظاهرين، لكنها تتجاوز ذلك لكي تشمل عائلات المطلوبين، وما قابلها من الإفراج عن المسلّحين. فكم من معتقل استطاع الخروج من السجن كان شاهداً على أن الكثير من المتّهمين بحمل السلاح تم الإفراج عنهم. وكان لتأسيس المحاكم المصرفية عام 2014، الدور الكبير في تهديد الأموال المنقولة وغير المنقولة للكثير من السوريين، والتضييق على الموجودين داخل الأراضي السورية والتلويح بقدرات هذه المحكمة على منع السفر لهم أيضاً. فمنطق العدالة الحالي يجنح نحو المكاسب التي يمكن تحقيقها لمصلحة النظام واستغلال المواقف قدر الإمكان؛ فاليوم من العادل جداً في منطق النظام أن يقتل السوري سورياً آخر لمجرد تهجمه على بشار الأسد، أو إن تجاوز حاجزاً لميليشيات النظام من دون إعارتهم أي انتباه. من هذا المنطلق تبرز قضية إعادة الاعمار في مجال العدالة كأنها أداة لتحقيق غايات النظام في طمس الهويات السورية وكم الأفواه إلى الأبد مع إحكام القبضة القانونية على السوريين.

أما على الصعيد الاقتصادي، فيمكن فهم عقلية النظام في هذا الخصوص مذ ورث بشار الأسد الحكم في سوريا، حيث أطلق ما يسمى الفريق الاقتصادي آنذاك مفاهيم عدة خدعت الناس والعالم بطرحها في ظل نظام ديكتاتوري، ولعل أكثرها صخباً حينها مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، ولهذا المفهوم مخرجاته المعروفة، من إدخال الشركات الخاصة المساهمة إلى السوق السورية، وإطلاق الاذرع الاقتصادية للمقربين من النظام فقط في القطاعات الحيوية من الاتصالات والمصارف والتأمين، إضافة إلى الصناعات الغذائية وصناعة السيارات (بالشراكة الإيرانية). لقد كان على السوريين أن يعملوا شرط أن تكون لهم صلات بالحلقة الضيقة من النظام، وحاصلين على درجة الرضا الأمني، فكل سوري يعلم تماماً كيف كان ينتظر الموافقة الأمنية لكي يباشر عمله، ولا ترتبط الموافقة الأمنية به فقط، بل يجب أن يكون لعائلته تاريخ أمني “مشرّف” بحسب فرع الأمن السياسي، يفتخر به أمام المحققين في الفرع. ولا يختلف التوصيف الحالي عما سبق إلا أنه أصبح أكثر اتساعاً وأكثر مجانية، فالنظام يوزع الصفقات على الشركاء الروسيين والايرانييين، ويترك الاقتصاد السوري ولقمة عيش الانسان السوري مرهونة بأيدي الوسطاء، فكيف لبلد كان يصدر 1.8 مليون طن من القمح الممتاز أن يوزع اليوم طحيناً رديئاً على المخابز، وكيف لبلد لا يمكن العمل به سوى بعد إضافة حساب الشركة على “فيسبوك”، لتطمئن الشركة وتقيّم درجة الموالاة و”التشبيح” وعلى أساسها يتم التوظيف أم لا ، كما تفعل حالياً شركة نور للتمويل الصغير، الشركة حديثة الولادة لرامي مخلوف. أما عقود “الباراشوت” فلسماسرتها حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، حيث لا نرى مناقصات منشورة لاستجرار ملايين الأطنان من السكر والقمح والأدوية، لكننا نعلم بوجود مكاتب خاصة تحظى بالرضا التام من قبل أجهزة النظام تقوم بتوزيع العقود على من قدم خدمات للنظام السوري، بدءاً من الخدمات المالية وحتى اللوجستية وخدمات تجنيد المرتزقة، وبعض هذه الشركات موجود في أوروبا وروسيا وتركيا. أي أن تقاسم الحصص بحسب النظام غير مخالف للصراع السياسي طالما أنه يضمن توريد القطع الأجنبي لشرايين النظام كي تسطيع الاستمرار في الحياة.

“أصبحت آذاننا اليوم تسمع أسماء جديدة مثل وسيم قطان ومازن الترزي ونزار الأسعد، وخالد الزبيدي وغيرهم، بأنهم أعمدة الدولة الاقتصادية”

ولدى حديثنا عن المصالحة يعطينا النظام علامات كثيرة، فكيف استطاع أن يرسي المصالحة مع الفصائل المتشددة، وقطاع الطرق، وتجار الحرب، ولم يستطع أن يتصالح مع من رفع لافتة يقول فيها كلمة حق بأن نعمل معاً على إيقاف الحرب وآلة القتل. بالفعل لم يفشل النظام في هذا النوع من المصالحات لأنه باختصار لم يرد أن يضعها في مخططاته ولم يتطرق إليها بالأساس، أما من حمل السلاح فلديه مصلحة معه، بأن جعله ميليشيات على أبناء منطقته، يقمعهم من خلالها مبتعداً عن الواجهة. أما عن الرفاه الاجتماعي فبإمكان المواطن السوري أن يقوم بادخار رواتب عدّة من دون أن يصرف منها شيئاً، ثم حينها يستطيع التفكير بأن يذهب وأسرته إلى مطعم ما، أو حفلة في قلعة دمشق، أو لديه الخيار الثاني، بأن ينتظر معرض دمشق الدولي، أو مهرجان في حديقة تشرين حيث يصرف راتب شهر هناك ما بين رسوم ومواصلات وطعام وتسلية لأطفاله، أما الخيار الأكثر شعبية في الرفاه الاجتماعي، هو أن يفترش الأرض في إحدى الساحات كساحة دوار البيطرة قرب باب شرقي، أم ساحة السبكي بدمشق، يدخن النرجيلة، و”يفصفص” الموالح.

كل ذلك، ويعمد النظام على التأكيد على مرتكز أخر، هو أنه شريك للسوريين في كل شيء، وهذه حقيقة تبدأ من داخل الأسرة السورية، حيث أنه لولا النظام لم يكن للعقد الاجتماعي السوري أن ينتهي بسهولة، وهذا يدفعنا للسؤال عن هشاشة هذا العقد، والمرتكزات التي نشأ عليها، فعلى رغم قساوة التجربة الأولى التي يخضع لها، لم يستطع الصمود لفترة تتيح للسوريين بدء حوار قائم على أنهم أبناء وطن واحد، ولهم حقوق وواجبات على الدولة، وهم ليسوا رعية لبشار الأسد أو غيره. شراكة  أخرى يطرحها النظام بأن كل شيء يقوم به السوريون يجب أن يرتبط به مباشرة. فافتتاح محل جديد لا يتم من دون تزيين أبوابه بالعلم السوري، ووضع صورة بشار الأسد على واجهته أو في مكان بارز داخله.

أما طبقة رجال الأعمال فقد “نفّض” النظام غبار الصف الأول منها، وتم تحديثه تماشياً مع سياسية بشار الأسد في التحديث والتطوير “ذائعة الصيت سابقاً”، وأصبحت آذاننا اليوم تسمع أسماء جديدة مثل وسيم قطان ومازن الترزي ونزار الأسعد، وخالد الزبيدي وغيرهم، بأنهم أعمدة الدولة الاقتصادية، وهو إنجاز ليس سهلاً على نظام ذات أفكار متحجرة واعتماد خشبي على رجالات هرمت وهي ترعى مصالحه وآن لها أن تتقاعد.

إذاً لا توجد بداية منظورة لإعادة إعمار في سوريا على مرتكزات حقيقية، بل قد تؤدي جميع السياسيات الحالية إلى ظهور اقتصاد موازٍ يستهلك الموارد التي يحصل عليها النظام من المنظّمات غير الحكومية، وبعض الدول التي قد ترعاه، وأن ما نسمعه من بدء عمل شركة خارجية هنا وهناك لا يعني بدء الانفتاح الاقتصادي على النظام السوري، فالمسار طويل والانحرافات في ظل منظومة الفساد القائمة في سوريا أكبر ما يمكن تخيّلها، كما هي الحال في تجربة إعادة الاعمار في لبنان والعراق والتي لا تزال ترزح تحت وطأة الفساد ونظم الحكم المستبدّة، وبعدها سوف تأتي تجربة ليبيا واليمن على الشاكلة ذاتها.

إقرأ أيضاً:
النظام يبيع وهماً مستحيلاً اسمه “إعادة إعمار سوريا”
عن عقوبات اقتصادية أصابت السوريّين ولم تصب النظام
المصارف السورية تستبق احتمال تراجع قيمة الليرة عبر التلاعب بموجوداتها