fbpx

اليمن: أسئلة الثورة والجمهورية في عصر الطائفة المسلّحة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قبل 56 عاماً، فجّر عدد من صغار الضباط ثورة أطاحت بالحكم الملكي الإمامي الذي استمر ألف عام، باسم الحق الإلهي للسلالة الهاشمية من أبناء علي بن ابي طالب من زوجته فاطمة. يختلط سؤال الثورة بسؤال الجمهورية عند معظم اليمنيين. لكن الحقيقة أن اليمن وإن كان انتقل عام 1962 من الملكية إلى النظام الجمهوري، لكن الثورة تعثرت اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كل عام، ومع حلول الصيف السبتمبري، يبعث اليمنيون سؤال الثورة والجمهورية.

قبل 56 عاماً، فجّر عدد من صغار الضباط ثورة أطاحت بالحكم الملكي الإمامي الذي استمر ألف عام، باسم الحق الإلهي للسلالة الهاشمية من أبناء علي بن ابي طالب من زوجته فاطمة.

يختلط سؤال الثورة بسؤال الجمهورية عند معظم اليمنيين. لكن الحقيقة أن اليمن وإن كان انتقل عام 1962 من الملكية إلى النظام الجمهوري، لكن الثورة تعثرت اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً.

صحيح أننا نحتفل بالثورة هذه السنة للمرة السادسة والخمسين، لكننا يجب أن نعترف بأن الثورة ليست منجزاً في الماضي، بقدر ما هي مشروع مستقبلي تحت وعد الإنجاز.

فما أنجزه اليمنيون قبل 6 عقود هو الجمهورية لا الثورة. وإقامة النظام الجمهوري مجرّد جزء من الهدف الأول من أهداف الثورة الستة الذي نص على “التحرّر من الاستبداد والاستعمار ومخلّفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات”.

تعثرت الثورة اليمنية لأكثر من سبب… دعم الممالك النفطية العربية للنظام الملكي المنهار الذي أوقع اليمن في حرب الثمان سنوات، وغياب تنظيم سياسي جماهيري للضباط الأحرار، إضافة إلى تسلّق القوى الدينية والقبلية سلّم الثورة ومزاحمتها اليسار الجمهوري حتى أزاحته كلياً من السلطة عام 1968.

“فَقَدَ اليمنيون فرصة “الثورة الثالثة” بسبب صراع النخبة السياسية، الشمالية والجنوبية، على كعكة السلطة”

انهزم الملكيون وانتصرت الجمهورية عام 1970 لكنها “جمهورية بلا ثورة… وملكية بلا إمام” بحسب تعبير عبد الله البردوني. جمهورية مفرغة من المضمون الثوري استلم قيادتها كبار المشايخ والقضاة (الأرستقراطية الدينية) وبعض التجّار.

اختزل اليمنيون الصورة في هدف واحد من أهدافها “الجمهورية”. وعندما حاصر الملكيون صنعاء عام 1968 بعد انسحاب القوات المصرية لم يرفع الثوار شعار “الثورة أو الموت” بل رفعوا شعار “الجمهورية أو الموت”.

الجمهورية هي كل شيء. هي الجمهورية ذاتها التي أتت برجل الدين الإرياني رئيساً، ثم خلعته لتضع الضابط القومي ابراهيم الحمدي حاكماً مطلقاً، ثم خلعته ليتسلّم الحكم ضابطان متسلّقان مغموران بلا أفق وطني أو أيديولوجية سياسية هما أحمد الغشمي وعلي عبد الله صالح.

تحوّلت الجمهورية “سلطنة” كما قال الدكتور أبوبكر السقاف في كتاب نشره باسم سري قبل تحقيق الوحدة. تتمحور السلطنة حول الرئيس وأقاربه وقبيلته وقدرته على شراء الولاءات بالترهيب والترغيب. لكن تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 أعاد الأمل من جديد لتحويل الثورة من مشروع مستقبلي إلى منجز واقعي.

كانت الوحدة فرصة لتجديد ثورة سبتمبر في الشمال وثورة أكتوبر في الجنوب وتحقيق النقلة التي عبّر عنها الهدف الثالث للثورة “رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً”. لكن مرة أخرى فقد اليمنيون فرصة “الثورة الثالثة” بسبب صراع النخبة السياسية (الشمالية والجنوبية) على كعكة السلطة.

شكّلت الحرب الأهلية في 1994 انتكاسة الثورة الثالثة، كما شكّلت حرب الـ8 سنوات وانقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1967 انتكاسة الثورة الأولى. وكما اختزلت الثورة في الجمهورية تم اختزال الوحدة في “التوحيد”. لم يعد هدف الوحدة تحقيق الديموقراطية وبناء الاقتصاد ورفع مستوى التعليم والصحة، بل صارت الوحدة نفسها هي الهدف حتى ولو تحوّلت إلى اجتياح ونهب وافقار.

وكما رفع الثوار شعار “الجمهورية أو الموت” في الستينات مختزلين الثورة بالكرسي الجمهوري، رفع صقور الوحدة شعار “الوحدة أو الموت” عام 1994 لتتحوّل الوحدة من وسيلة لتطوير الشعب ورعاية الإنسان إلى غاية مقدّسة يُضَحَّى من أجلها بالوطن والإنسان.

احتكرت السلطة الكلام عن الجمهورية والوحدة، وصارتا توأمي الخطاب الرسمي السلطوي الذي يتحدّث عنهما بلغة لاهوتية مقدسة، وينعت من يعارضه بـ”أعداء الوحدة والجمهورية”.

بدأ الجيل الجديد والقديم يفقد ثقته بالقيم الكبرى للثورة والجمهورية والوحدة. وتراجعت “الديموقراطية الناشئة” في اليمن التي أثارت إعجاب العالم مع صعود مشروع التوريث بعد الانتخابات الرئاسية في 2006. وصعدت في 2007 صعوداً صاروخياً الحركتان المضادتان للوحدة والجمهورية.

اتّسعت حركة الاحتجاج في الجنوب “الحراك الجنوبي” لتتحوّل من المطالبة بتصحيح مسار الوحدة إلى المطالبة بفك الارتباط وإنهاء تجربة الوحدة. وصعدت الحركة الحوثية في صعده بعد هزيمة القوات الحكومية في الحرب الثالثة عام 2007 لتشكل تحدياً إضافياً ليس لمركزية الدولة فقط ولكن لفكرة الجمهورية نفسها.

شارك اليمن في أحداث الربيع العربي بما أطلق عليه الشباب “ثورة فبراير 2011”. لم تكن تلك ثورةً، بقدر ما كانت انتفاضة شعبية نبيلة وتلقائية، ما لبثت النخبة السياسية المعارضة أن استولت عليها بعد الشهر الثالث وحدثت مجزرة جمعة الكرامة التي فككت صفوف النظام بالاستقالات الجماعية لرموزه.

“الحقيقة أن الحوثيين قد تجاوزوا فكرة الإمامة إلى فكرة الولاية”

فشلت “الثورة الرابعة” أيضاً وتحوّلت إلى انهيار متسارع لأجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية حتى لحظة اجتياح قوات الحوثيين بصنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014. كانت تلك لحظة درامية غريبة أشبه بكابوس من كوابيس اللامعقول.

تشكيلات قبلية عشوائية تكتسح عاصمة الدولة وتسيطر عليها والوية الجيش التي تجاوز عددها في الكشوف الرسمية 120 ألف جندي تتفرج.

كان الرئيس الأول للجمهورية عبدالله السلال (1962- 1967) قد وصف ثورة سبتمبر بأنها قفزة ألف عام في يوم واحد.

لم يكن في تعبيره أي نوع من المبالغة. فالانتقال من الحكم بالحق الإلهي للسلالة المقدسة إلى الحكم باسم الشعب، كان ردماً لفجوة الألف عام بين اليمن المعزول البدائي والعالم. لهذا كانت سيطرة الحركة الطائفية على العاصمة والخبرات الحكومية والمعسكرات بالنسبة إلى اليمنيين نكسة ألف عام إلى الوراء.

مرة أخرى أمام هذه “النكبة” التاريخية عاد اليمنيون للتمسّك بشعار “الجمهورية” وبثورة سبتمبر التي ما زالت تختزل في الحكم الجمهوري. لم تنجح الحكومة المدعوة بالشرعية في الاحتفال بذكرى سبتمبر احتفالاً يليق بها في عدن لأن الجو هناك صار يرى سبتمبر “ثورة شمالية” تخص “المستعمر الشمالي”.

ولم تحتفل سلطة الأمر الواقع في صنعاء سبتمبر احتفالاً يليق بها لأنها تعتبرها لحظة الكارثة التي انتزعت الحكم من يد آل البيت من السلالة الفاطمية. لهذا ارتفعت وتيرة الاحتفالات الشعبية الافتراضية بجمهورية سبتمبر، معتقدين أن الجمهورية هي خط الدفاع الأخير ضد سلطة الأمر الواقع التي تريد إعادة نظام “الإمامة”.

لكن هل تريد الطائفة المسلّحة فعلاً إعادة نظام الإمامة؟

الحقيقة أن الحوثيين قد تجاوزوا فكرة الإمامة إلى فكرة الولاية. وفكرة الولاية مرتبطة عندهم بتولية الإمام علي وفق اعتقادهم على المسلمين في حادثة غدير خم. لكنه أيضاً مرتبط بنظام “ولاية الفقيه” الإيراني الذي يشكّل المرجعية غير المعلنة لهم.

أقرّت ولاية الفقيه النظام الجمهوري لكن تحت وصاية “ولاية الفقيه”. فهناك رئيس لإيران وانتخابات رئاسية تأتي برئيس جديد كل سنوات عدة، لكنه رئيس شكلي لا يملك صلاحيات حقيقية أمام “الولي الفقيه” ومؤسّسات تشكّل دولة داخل الدولة متعالية على الدستور والقانون.

هذه هي الفكرة التي تعمل عليها سلطة الطائفة المسلّحة في صنعاء. الاحتفاظ بالنظام الجمهوري في صيغة قريبة من “الجمهورية الإسلامية “بحيث يتولّى “رئيس المجلس السياسي” المهمّات الرئاسية الشكلية فيما يتولّى “الزعيم” مهمات الولي الفقيه الأعلى من الدستور والقانون والذي يستمد علمه وسلطته من الله.

لهذا لا يبدو أن رفع شعار “الجمهورية” في وجه هذه الجائحة الطائفية مفيداً.

الجمهورية نظام حكم عام يمكن أن تكون جمهورية إمبراطورية كما في التجربة الرومانية، أو جمهورية فاشية أو نازية كما في تجارب هتلر وموسوليني، أو جمهورية شمولية كما في تجارب عبد الناصر وصدام حسين، أو جمهورية قبلية عائلية كما في التجربة اليمنية بين عامي 1978 و2011.

إن جمهورية بلا مضمون مدني وعلماني وديموقراطي ليست إلا شعاراً لحكم الأقوى.

هذه هي “المسألة اليمنية” بين طروحات جمهورية بلا ثورة وواقع جمهورية الولي العَلمَ.

إقرأ أيضاً:
خمسة أوهام عن الحرب اليمنيّة
اليمن :الوحدة الفاشلة والانفصال المستحيل
طموحات انفصال جنوب اليمن: مصالح ونزاعات وتدخّلات خارجية