fbpx

حين يتحول القلب إلى مقبرة:
تمرين على الشفاء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يوما ما سأتذكر بولي، من دون أن أشعر بهذه الغصّة التي تلازمني منذ موته. سأتذكّره كشيء جميل ومميز أشعرني بالسعادة. سأتذكر أنه الكائن الوحيد الذي دخل الى حياتي وخرج منها من دون أن يسبب لي خيبات أو صدمات. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لنلعب لعبة. 

تبدأ اللعبة بوقوفك وسط لاعبين آخرين يحيطون بك على شكل دائري، ثم يشرعون في تسديد الضربات إلى قدميك، عليك أن تحاول تفاديها، لا تستطيع تجنبها كلها، تقع ثم تنهض من جديد. وفي كل مرة تحاول النهوض تسدّد لك ضربات أخرى لتقع مجدداً.

هكذا حالي، أقع، أحاول النهوض، أتلقى الضربات، أقع. أحاول من جديد، تؤلمني المحاولات، تنهكني. أترنح، أشعر بخدر في قدميّ، لن أستطيع الوقوف مجدداً، تذهب محاولتي عبثاً، ثم أقف من جديد.

هذه هي اللعبة، وأنا مجبرة على لعبها. وكأني في امتحان دائم لاختبار قدرتي على الصمود وتحمّل الألم. في كل مرة أقول إنها الضربة الأقسى وسأصبح منيعة من بعدها، تباغتني ضربة أسوأ، وهكذا أتأرجح بين السيء وبين الأسوأ والأسوأ منه.

أفقد بصري، أهوي، ثم أرى ومضات، وجوه أشخاص أحبها تحيط بي، لست أحلم، وقبل أن أغيب كلياً، أسمع أصواتهن يردّدن من حولي، “خلّيكي معنا، تنفّسي، تنفّسي، ما تنسي تتنفّسي، خدي نفس عميق”.

يُقال لنا في معرض المواساة أن “كل ما لا يقتلك يجعلك أقوى”. هراء. من قال إن علينا أن نطمح إلى القوة؟ ماذا لو كنا نفضّل الضعف على المعاناة؟

عند بلوغي عمر الثلاثين، قررت أن تكون بداية لأتخلص من بعض مخاوفي.  تبنّيت كلبا لأتخلص من رهاب الكلاب. يومها، قلت لنفسي أن “بولي” سيكون رفيقي حتى أواسط الأربعينات من عمري.

في الفترة نفسها التقيت شريكي، وهكذا، تخطيت رُهابي حيال الكلاب والعلاقات في آن واحد. اختبرت مع پولي نوعاً جديداً من الحبّ. أحببته كثيراً. وبرغم أن شريكي كان دائماً يقول لي “هو ليس إبنك، هو مجرد كلب”، ولكن پولي بالنسبة لي كان أكثر من مجرد حيوان أليف، كان إبني وعائلتي. في النهاية، لن يحبّك أحد كما يحبك كلبك، لا شريكك ولا أصدقاءك ولا حتى أمك. 

هكذا حالي، أقع، أحاول النهوض، أتلقى الضربات، أقع. أحاول من جديد، تؤلمني المحاولات، تنهكني. أترنح، أشعر بخدر في قدميّ، لن أستطيع الوقوف مجدداً، تذهب محاولتي عبثاً، ثم أقف من جديد.

أعود إلى الوراء. بعد تشخيصي على أنني “في مرحلة متقدمة من مرض الاكتئاب”. لم أٌقف مكتوفة اليدين. قمت بكل ما يمكنني فعله لأكون “بخير”، بدأت بتناول مضادّ للاكتئاب،  تابعتُ جلسات العلاج النفسي أسبوعياً، أقنعت نفسي بأنه كي أصبح “بخير” عليّ أولاً أن أتظاهرَ بذلك.

قصصت شعري، صبغته، اهتممت بمظهري الخارجي،  بدأت بممارسة الرياضة بشكل منتظم، أجبرت نفسي على لقاء أصدقائي في أماكن عامة، سمحت لنفسي بالتعرف إلى أشخاص جدد، وفي رحلتي إلى الشفاء هويت من جديد.

في هذه المرحلة كلها، بقي پولي بجانبي. أحبّني بكل تقلّباتي، لم يتأفّف يوماً من حالتي، ولم يشعرني يوماً بأنني ثقلٌ عليه، كان يعلم حين لا أكون على ما يرام، كنت أحتضنه وأبكي طالبة منه ألا يتركني، كان يمتصّ دموعي وكأنه يؤكد لي أنه باقٍ حتى لو رحل الجميع.

بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس، كنت ما زلت تحت تأثير الصدمة حين قالت صديقتي لتواسيَني “كان ممكناً أن يكون الوضع أسوأ”. سألتها عن ماهيّة الأسوأ فأجابت بانفعال “لو حدثَ لأيّ منكن مكروه كان ليكون أسوأ”. وجدتُ في كلامها يومَها شيئاً من الأنانية، حيث يُقاس الأسوأ نسبةً إلى أنواتنا. 

بعد ستّ سنوات سوياً، مات پولي، وانفصلتُ عن شريكي. وها أنا أشعر بالأسوأ الذي تحدثت عنه صديقتي. أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا هو خسارة من نحبّهم، الألم الناتج عن الفقدان هو الأشدّ، وخسارتنا لمن نحبهم هي أفدح الخسارات، ولا وجعَ أكبر من وجع القلب. 

وبرغم ثقتنا بأن الوقت كفيلٌ بتخفيف هذا الألم، إلا أن هذه المعرفة لا تسكّن الألم ولا تجعله أقل قسوة. هذا الألم الذي تعيشه وحدك لأنك المعني الوحيد بهذه الخسارات.

دخلوا إلى حياتي سوياً وخرجوا سوياً. انفصلت عن شريكي في 27 آذار توفي بولي في 27 تموز.

لا أؤمن بالماورائيات ولا بالإشارات. ولكن مع تسلسل الأحداث في حياتي مؤخراً، سيطر عليّ اللا منطق. لا أستطيع منع نفسي من التشكيك هل هي صدفة؟ هل ارتكبت شيئا استحقيت به هذه الخسارات دفعة واحدة، أو لربما كانت الحياة معي لا تطاق.

مهما أقنعنا أنفسنا بأن الأحداث التي تنهال علينا هي محض صدفة وأن لا ذنب لنا فيها. ثمّة شيء يتآكل في داخلنا، هناك ندوب تثقب قلوبنا وتمنعنا من التفكير بسويّة. 

في السنوات الأخيرة، كنت أشعر أن الموت يتربّص بأفكاري، يحفزّني كل يوم أكثر فأكثر على الاقتراب منه، كنت طوال الوقت أبحث عن محفزات تدفعني للاستمرار.

 حين مات بولي، شعرت بالذنب. ما معنى أن يقفز كلب من الطابق التاسع؟ هل من الممكن أن تكون أفكاري معديّة؟ هل كانت “حياته مقابل حياتي”.

ليلة موته، ظننت أنه كابوس سأستيقظ منه. دخلت في حالة هيستيريّة من البكاء. كنت محاطة بأصدقائي كما دوماً، وأدركت بموت بولي كم هو موجع أن تفقد عزيزاً، وأنا لا أريد أن أتسبب لأصدقائي بألم كهذا. فالحياة بشعة لكنّ أصدقائي جميلون.

**

يوما ما سأتذكر بولي، من دون أن أشعر بهذه الغصّة التي تلازمني منذ موته. سأتذكّره كشيء جميل ومميز أشعرني بالسعادة. سأتذكر أنه الكائن الوحيد الذي دخل الى حياتي وخرج منها من دون أن يسبب لي خيبات أو صدمات. 

ثمة من يموت ولكن يعيش في قلوبنا، وثمة من يعيش ولكنه يموت في قلوبنا. وهكذا، في الحالتين يتحول القلب إلى مقبرة جماعية ندفنُ فيها كل من أحببناهم يوماً ورحلوا.

**

في هذا العام، كُسرت فيّ أشياءٌ كثيرة، وتغيّرت أشياءٌ أخرى. وصار منزلي وملاذي الآمن الذي بالكاد كنتُ أخرج منه جحيماً لا أطيق البقاء فيه.

أخذت خيمتي وذهبت إلى الجبل. قالت لي صديقتي إنني لن أتحمل البقاء هناك أكثر من أسبوع ولكنني بقيت شهرين. ذهبتُ بحثاً عن مهرب لا عن ترفيه، لأنني لم أعد قادرة على التظاهر بالقوة، ولم تعد لديّ القدرة على التعامل مع الأشياء. هربتُ لأني لا أريد العودة إلى المنزل، فلا أحد ينتظرني هناك ولا أحد أنتظره.

في الجبل، التقيت بغريبة، كانت وحدها أيضاً، هاربةً مثلي. أذكر ساعاتٍ تشاركناها من الصمت والبكاء المتواصل.

في إحدى المرات استلقينا الواحدة بجانب الأخرى، لم نكن نتجاذب أطراف الحديث، كنا ننظر إلى السماء وأوراق الأشجار المتساقطة، ثم فجأة، أشارت بيدها إلى بيوت العناكب وقالت لي “كم هي سهلة حياة العناكب. في كل مرة يفقد العنكبوت منزله، يمكنه بسهولة وبسرعة أن يغزل غيره”. رحتُ أراقب بيوت العناكب، وأفكر كيف انهار جزء كامل من حياتي وما زلت عاجزة عن استيعاب وفهم ما حدث. مرّت أشهر  وما زلت لا أملك القدرة على تقبلّه أو نسيانه. 

لماذا تمتلك العناكب قدرة لا نمتلكها نحن البشر. وكم من الوقت أحتاج بعد كي أعيد ترميم حياتي والبدء من جديد دون توقعات، ففي النهاية لم أعد أطمح لأن أكون سعيدة. كل ما أريده هو حياةٌ بألمٍ أخفّ، وبقدرٍ أقلّ من الخيبات والخسارات.