fbpx

قراءة في الدستور الايراني: ولاية الفقيه “روح الجمهورية”…
والمرشد عمودها 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 في ظل تحجيمٍ مطّرد لقدرة الناخبين على التأثير في إطار دستور يسمح بذلك، وتركز فريد من نوعه للسلطة بيد شخص واحد، بل واستبعادٍ لكل من يراه هذا الشخص مخالفاً لتوجهاته من داخل منظومة الجمهورية الإسلامية، في ظل هذا كله هل يظل مستغرباً أن يهتف المتظاهرون مطالبين بسقوط النظام برمته؟ 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عدا الشعار الأشهر للانتفاضة الجارية في إيران “زن، زندگي، آزادي” (“امرأة، حياة، حرية”)، هتف طلبة في جامعة إيرانية قبل أيام: “جمهوری اسلامی نمیخواهیم، نمیخواهیم (الجمهورية الإسلامية: لا نريدها، لا نريدها)”. 

من يتابع خطاب الحراك الحالي عموماً سيرى بوضوح أن المغامرات والمغامرين بأرواحهم في شوارع إيران هذه المرة لم ينزلوا ليساندوا مرشحاً يرجون به إصلاح الأمور بعد أن زورت ضدّه انتخابات، كما في الثورة الخضراء عام 2009، ولا لطلبات معيشية معينة كما جرى سابقاً، بل للقضاء على النظام برمته. 

قضية فرض الحجاب على أهميتها كانت الفتيل. 

جل، إن لم يكن كل، تفسير هذه اللعبة الصفرية التي لا خيار فيها لطرفٍ إلا إفناء الآخر في الوثيقة المؤسسة للجمهورية الإسلامية: دستورها. نظرة سريعة إلى الدستور الإيراني، حسبما ورد مترجماً إلى العربية في موقع وزارة الخارجية الإيرانية،  تكشف بوضوح  كيف يتداخل منطق الإسلام السياسي عموماً في فرض طريق الجنة على الأرض (حسب فهمٍ معين) ورده الشرعية بشكل شبه حصري للسماوي دون الدنيوي، مع الاعتقاد الاثناعشري خصوصاً في الإمامة وغيبة الامام الأخير. ويرينا الدستور أيضاً بجلاء، وعلى العكس من أنظمة سلطوية أخرى في منطقتنا وغيرها تتجاهل تشريعاتها كل يوم، كيف أن ما يفعله الخامنئي ودائرته من أصحاب القرار هو فقط الالتزام بهذا الدستور الذي حشر إيران، حكاماً ومحكومين، حيث هي اليوم. 

ولاية الفقيه: روح الجمهورية الإسلامية  الإيرانية و الإسلام السياسي.

للوهلة الأولى، تفترق الجمهورية الإسلامية عن جمهور العلماء الشيعة، ناهيك عن غير الشيعة، في قيامها على ولاية الفقيه، والتي تعني هنا تحديداً رجل دين (الولي الفقيه) منوطٌ به تمثيل مصدر الشرعية السياسية الوحيد تقليدياً في الفكر الشيعي الاثناعشري: الامام الغائب (الثاني عشر  والأخير من أئمة المذهب)، أي فعلياً تمثيل بشر غير معصوم لإمام يُعتبرُ معصوماً (مرة أخرى بناء على العقيدة الاثناعشرية). من جهة تبقى نظرية ولاية الفقيه التي صاغها الخميني بهذه الصورة خلافية بين علماء الدين الشيعة، إن لم تكن مرفوضة من غالبيتهم، لكن من جهة اخرى ما يبدو فريداً هنا متسقٌ تماماً مع قلب كل فكرٍ منضوٍ تحت عباءة الإسلام السياسي، سني أو شيعي. فسواءٍ ارتكز الحاكم على تمثيل الإمام الغائب أو على أي فهمٍ محددٍ للإسلام، من ذا الذي يملك سلطة محاسبة من ينطق (أو ينطقون) باسم الوحي المقدس؟ وإذا كان أصل الاسترشاد في الحكم هو الفقه والشريعة  فأين يترك ذلك غير المتخصصين في العلوم الشرعية؟ بغض النظر عن ولاية الفقيه أو الموقف منها، يُحسب للخُميني (مُنظّر هذه الدولة  ومؤسسها) صراحته في رسمها على حقيقتها. لا ديمقراطية ولا حرية هنا، اللهم إلا بقدر ما يسمح به المُخَولُ التحدثُ باسم الشريعة. 

من يقرأ الدستور الإيراني، والذي تم اقراره في استفتاء شعبي أواخر 1979 ثم أدخلت عليه تعديلات صيف 1989 (بعد أسابيع من وفاة الخميني)، سيرى بوضوح أن السلطة الأعلى في الجمهورية ليست لأي مسؤول منتخبٍ مباشرة من الشعب، بل هي في يد الولي الفقيه. عدا الديباجة (المقدمة)، يقع الدستور في مائة وسبعة وسبعين مادة مقسمة إلى أربعة عشر فصلاً. “ولاية الفقيه العادل ” هي الركن الأساس. في  المقدمة:  “اعتماداً على استمرار ولاية الأمر والإمامة، يقوم الدستور بإعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط والذي يعترف به الناس باعتباره قائداً لهم (مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) [حسب نص منسوب للامام الأول علي ابن أبي طالب]” ، وفي المادة الخامسة من نص الدستور: ” فـي زمن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”. 

السياق الذي يحكم فيه “الفقيه العادل” الشرعية والأولوية الأولى فيه ليست من المحكومين ولا لهم، اللهم إلا لوضعهم على جادة الصواب كما تراها المنظومة الفقهية الحاكمة: طبقاً للمادة الثانية من الدستور: “يقوم نظام الجمهورية الإسلامية على أساس:  (1) الإيمان بالله الأحد (لا إله إلا الله) وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره. (2)   الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس فـي بيان القوانين. (3)  الإيمان بالمعاد ودوره الخلاق فـي مسيرة الإنسان التكاملية نحو الله. (4)  الإيمان بعدل الله فـي الخلق والتشريع. (5)  الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساس فـي استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام [في إشارة لدور الولي الفقيه].”  ثم في ذيل القائمة: ” (6)  الإيمان بكرامة الإنسان وقيمه الرفيعة، وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله …”. في ضوء ترتيب الأولويات هذا ، وفي ضوء الإيمان  بمركزية قيادة “الفقيه العادل”  خلق دستور الجمهورية الإسلامية منظومةً معقدة تضمن، لا دور الولي الفقيه فحسب، لكن قدرة هذا الولي الفقيه نفسه على خلق الهيئات التي تدير الدولة والتي يفترض بها أن تختاره بل وأن تحاسبه. 

قضية فرض الحجاب على أهميتها كانت الفتيل

قلب النظام: مجلس صيانة الدستور.

الولي الفقيه يعينه “مجلس الخبراء”، لكن قبل الحديث عن هذا المجلس مهمٌ تفصيل طبيعة الهيئة الأقوى في بنية الجمهورية والتي تشكل، فيما تشكل، مجلس الخبراء: مجلس صيانة الدستور. طبقاً للمادة  91 : ” يتم تشكيل مجلس صيانة الدستور، بهدف ضمان مطابقة ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي [المنتخب بالاقتراع المباشر، أقرب ما في الجمهورية للبرلمان] مع الأحكام الإسلامية والدستور.” يتكون المجلس من اثني عشر عضواً، نصفهم يعينهم الولي الفقيه مباشرة من “الفقهاء العدول العارفين بمقتضيات العصر وقضايا الساعة”. ثم ستة آخرين يرشحهم رئيس السلطة القضائية  [الخاضع لسلطة الولي الفقيه طبقاً للمادة 57] يكونون من “المسلمين ذوي الاختصاص في مختلف فروع القانون” ثم يصادق على اختيارهم مجلس الشورى الإسلامي. والأخير، طبقاً للمادة 94، ملزم بإرسال كل ما يقرر لمجلس الصيانة الدستور لـ”تقرير مدى مطابقته مع الموازين الإسلامية ومواد الدستور”.  و إذا رأى مجلس صيانة الدستور أن ما شرعه مجلس الشورى مخالف لـ”الموازين الإسلامية ومواد الدستور” فإنه يعيده  إلى مجلس الشورى. ومن يملك القول الفصل، حتى من بين الاثني عشر عضواً المختارين مباشرة  أو  تحت ضغط نفوذ الولي الفقيه في مجلس صيانة الدستور؟ طبقاً للمادة 96: “تحديد عدم تعارض ما يصادق عليه مجلس الشورى الإسلامي مع أحكام الإسلام يتم بأغلبية الفقهاء فـي مجلس صيانة الدستور. أما تحديد عدم التعارض مع مواد الدستور فيتم بأكثرية جميع أعضائه”. و عموماً :” تفسير الدستور من اختصاص مجلس صيانة الدستور ويتم بمصادقة ثلاثة أرباع الأعضاء” (المادة 98). أي أنه حتى داخل هذه الجماعة الصغير المنتقاة؛ يكون الرأي الفصل للفقهاء الحائزين على رضا الولي الفقيه. وحتى لا يظنن أحدٌ أن النواب المنتخبين مباشرة يمكن أن يقرروا وحدهم ما يرون، طبقاً للمادة 93: “لا مشروعية لمجلس الشورى الإسلامي دون وجود مجلس صيانة الدستور، عدا ما يتعلق بإصدار وثائق عضوية النواب، وانتخاب ستة أعضاء حقوقيين لمجلس صيانة الدستور” (لاحظ مرة أخرى أن هؤلاء الستة يرشحهم رأس السلطة القضائية الذي يختاره الولي الفقيه). و من يحكم في الاختلاف، حال حدوثه، بين  مجلس صيانة الدستور و مجلس الشورى؟ الفيصل بينهم حينئذ مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهذا يشكله “القائد” (الولي الفقيه)، إذا يعين مباشرة “أعضاءه الدائمين والمؤقتين” (المادة 112). 

مجلس صيانة الدستور: آلة الاستبعاد النشطة. 

 مجلس صيانة الدستور، المعين نصف أعضاءه مباشرة من الولي الفقيه كما أسلفنا، هو الجهة التي تتولى الإشراف على انتخابات مجلس الخبراء و انتخاب رئيس الجمهورية و انتخاب أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وعلى الاستفتاء العام (المادة 99). علماً بأن سيطرة مجلس صيانة الدستور على انتخاب الرئيس تُكرَر مرةٌ اخرى في البند 118. من جملة الشروط اللازمة للترشح للرئاسة (المادة 115)   أن يكون من “من بين الرجال المتدينين السياسيين”، “ذا ماض جيد” تتوفر فيه الأمانة والتقوى. ثم، الشرط الأهم على الإطلاق فعلياً: أن يكون “مؤمناً ومعتقداً بمبادئ الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمذهب الرسمي للبلاد.” بناء على هذا الشرط بالذات استبعد كل مرشح اُعتُبر مخالفاً لمبدأ وكيفية عمل ولاية الفقيه كما يراها الخامنئي. وربما أبرز من استبعدوا من التنافس على رئاسة الجمهورية، تحديداً عام 2013، أكبر هاشمي رفسنجاني، الرجل نفسه الذي كان عضواً ورئيساً لمجلس الشورى في الجمهورية الإسلامية من 1980 إلى 1989، ثم  رئيساً للجمهورية الإسلامية لولايتين متتالين (خلفاً للخامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية وقت وفاة الخميني) من 1989 إلى 1997، وكان أيضاً، أي رفسنجاني، رئيساً لمجلس تشخيص مصلحة النظام من 1997 حتى وفاته 2017، ورئيساً لمجلس الخبراء بين 2007 و 2009. رغم كل هذه المناصب وهذا التاريخ استبعد مجلس صيانة الدستور الرجل من الانتخابات. قيل وقتها إن استبعاده كان استبعاداً لوجه معتدل لصالح أجنحة النظام الأكثر تشدداً الأقرب إلى خامنئي.  ومجلس صيانة الدستور هو أيضاً من استبعد كل المرشحين ذوي الوزن من امام الرئيس الحالي، رئيسي، المحسوب على الدوائر الأكثر تشدداً في النظام، من ثم فوزه والعزوف الواسع عن المشاركة في الانتخابات التي أتت به للسلطة سنة 2021، علماً بأن رئيسي كان قد فشل في الوصول للرئاسة في انتخابات 2017 أمام روحاني الموصوف بالاعتدال.

أما بالنسبة لمجلس الشورى، فهذا أيضاً  يسيطر مجلس صيانة الدستور على انتخاباته ويستبعد المرشحين غير الملائمين من وجهة نظره، علماً أن “تنقية” قوائم المرشحين هذه تأتي بعد دور وزارة  الداخلية في استبعاد من تراه غير مناسب من المرشحين. ما بين من ترفض طلباتهم وزارة الداخلية ومن يستبعدهم مجلس صيانة الدستور (بما في ذلك أعضاء سابقين في مجلس الشورى) زادت نسبة الممنوعين من الترشح عن نصف المتقدمين في بعض الدورات  (طبقاً لأرقام جمعها وحللها باحثون في مؤسسة سياسات الشرق الأدنى بالعاصمة الأمريكية). لذلك كله انخفضت بشكل كبير نسب المشاركة في الانتخابات المختلفة، ولم تصل إلى نصف الناخبين المؤهلين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2021، و كانت أكثر قليلاً من الأربعين في المئة في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة عام 2020. مثال على رد فعل التيار المحافظ المتحكم داخل النظام على هذا العزوف عن منظومة انتخابية مفرغة باطراد من الفاعلية أو حتى التمثيل الحقيقي ورد  في كلامٍ لوالد زوجة  الرئيس الحالي رئيسي، آية الله أحمد علم الهدى، المقرب من خامنئي، ممثل الولي الفقيه وخطيب الجمعة في مدينة مشهد المهمة (حيث ضريح الإمام الثامن، الرضا، من أئمة الاثناعشرية): “إن مقاطعة الانتخابات في إيران بمثابة ترك الإسلام، والذين يقولون إننا لن نشارك في الانتخابات ليسوا مسلمين”.

مجلس خبراء من الفقهاء: انتقاء من يختارون الولي الفقيه.

أما بالنسبة لمجلس الخبراء المختص بتعيين الولي الفقيه والرقابة عليه فهذا يصيغه الفقهاء الأعضاء في  مجلس صيانة الدستور (دوناً عن غيرهم) فطبقاً للمادة  108: “القانون المتعلق بعدد الخبراء والشروط اللازم توفرها فيهم وكيفية انتخابهم والنظام الداخلي لجلساتهم بالنسبة للدورة الأولى، يجب إعداده بواسطة الفقهاء الأعضاء فـي أول مجلس [أي أول اجتماع] لصيانة الدستور ويصادق عليه بأكثرية أصواتهم، وفـي النهاية يصادق قائد الثورة  [أي الولي الفقيه] عليه، بعد ذلك فإن أي تغيير أو إعادة نظر فـي هذا القانون والموافقة على سائر المقررات المتعلقة بواجبات الخبراء يكون ضمن صلاحيات مجلس الخبراء”. أي أن مجلس الخبراء هذا، ما إن يتم تشكيله، حتى يصير سيد قراره دون غيره.

بشرط أن يكون فقيهاً، يمكن لمن شاء أن يترشح لمجلس الخبراء(عدد المقاعد حالياً 88) ، علماً أن غير المسلمين الاثناعشرية  والنساء ممنوعون من الترشح، ثم بعد ذلك مجلس صيانة الدستور هو من يقرر من يصلح للترشح. في دورة انتخابات مجلس الخبراء عام 2016 تقدم للترشح 801 مرشحاً لم يسمح مجلس صيانة الدستور إلا لـ 161 (عشرون في المئة) منهم بالمضي قدماً، بعض هؤلاء كان في دوائر لا منافسين فيها. المفترض أن هؤلاء “الخبراء” منتخبون من الشعب مباشرةً، كما ينص الدستور (المادة 107)، لكن في هذا الإدعاء أقل من نصف الحقيقة، تماماً كما في كل انتخابات تقريباً في الجمهورية الإسلامية. 

كيف يتم اختيار الولي الفقيه في حال شغور المنصب أو عجز شاغله عن القيام بمهامه من وجهة نظر مجلس الخبراء (المادة 111 )؟  طبقاً للمادة 107 من الدستور “توكل مهمة تعيين القائد [أي الولي الفقيه] إلى الخبراء المنتخبين من قبل الشعب. وهؤلاء الخبراء يدرسون ويتشاورون بشأن كل الفقهاء الجامعين للشرائط …  ومتى ما شخصوا فرداً منهم باعتباره الأعلم بالأحكام والموضوعات الفقهية، أو المسائل السياسية والاجتماعية، أو حيازته تأييد الرأي العام، أو تمتعه بشكل بارز بإحدى الصفات المذكورة فـي المادة التاسعة بعد المئة انتخبوه للقيادة”، وفي حال لم يجدوا الفقيه الملائم خارج مجلسهم” فإنهم ينتخبون أحدهم، من خارج المجلس، ويعلنونه قائداً… “.  ما الشروط الواجبة في القائد؟ طبقاً للمادة 109  أول المؤهلات “الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء فـي مختلف أبواب الفقه” ثم بعد ذلك،”العدالة والتقوى اللازمتان لقيادة الأمة الإسلامية” و “الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والإدارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة” وفي حال توفر أكثر من شخص مؤهل “يفضل من كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى من غيره”.

الدولة هي الولي الفقيه:

إذاً باختصار الولي الفقيه يعين مباشرة نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور ورأس القضاء، والأخير يختار ستة من أعضاء مجلس الشورى، الذي يتحكم المجلس السابق في ترشحهم، ليشغلوا المقاعد الست الباقية في مجلس صيانة الدستور. الفقهاء فقط في مجلس صيانة الدستور يشكلون قواعد عمل ونظام مجلس الخبراء، أيضاً مجلس صيانة الدستور يتحكم في اختيار أعضاء مجلس الخبراء، الذي يختار الولي الفقيه. أيضاً مجلس صيانة الدستور يقرر من له الحق في الترشح للمنصب التنفيذي الأعلى تحت قيادة الولي الفقيه: رئيس لجمهورية. كذلك يراجع مجلس صيانة الدستور قرارات مجلس الشورى وله حق التصديق عليها أو رفضها. وفي حال أصر مجلس الشورى على معاندة مجلس صيانة الدستور، الذي يشكله مباشرة  وبشكل غير مباشر الولي الفقيه، فله أن يلجأ إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهذا يشكله بالكامل مباشرة الولي الفقيه. وسط دوائر من الفقهاء المعممين المرضي عنهم، الولي الفقيه قاض وخصم وحكم ومنفذ للعقوبة وسجان وصاحب قرار العفو، وحاكم لا يُحكم عليه (نظرياً لمجلس الخبراء أن يراقب عمل الولي الفقيه، لكن هذا الدور بقي نظرياً حتى الآن).

و لتبيان الصورة أكثر، اسم واحد في أعلى دوائر السلطة يلخص لنا طبيعة أركان النظام ممن يختارهم الولي الفقيه. تولى أحمد جنتي، المولود سنة 1927 رئاسة مجلس صيانة الدستور منذ عام 1993 إلى اليوم علماً انه كان عضواً فيه منذ إنشائه عام 1980، وهو أيضاً ترأس مجلس الخبراء منذ 2016 إلى اليوم. جنتي أحد أكثر وجوه النظام تشدداً. في ثمانينيات القرن الماضي  كان قاضيا في محكمة الثورة التي أصدرت حكماً بالإعدام، من جملة ما أصدرت، على ابنه لانضمامه  إلى عدو الجمهورية الإسلامية اللدود، منظمة مجاهدي خلق. و معروف عنه أنه تحدث علانية عن إعجابه بطالبان أفغانستان كنموذج يحتذى لفرض الأخلاق، كذلك وصفه مؤخراً، قبل أيامٍ من اشتعال الانتفاضة الجارية في أوائل شهر سبتمبر -أيلول الماضي، للخميني بأنه في مصاف أنبياء بني إسرائيل (!) هذا عدا عدائه الشديد للغرب.

هل من الممكن تصميم دائرة حكم، في نص دستور مكتوب، أكثر انغلاقاً وضيقاً على نفسها؟ تقع مقدراتها كلها تقريباً في يد شخصٍ واحد؟ لكن مرة أخرى إن كان المنطلق ولي فقيه يمثل الإمام الغائب المعصوم حتى وإن كان هو نفسه (أي هذا الولي الفقيه) غير معصوم، فلا غرابة هنا، لكن يبقى طريفاً أن نظاماً كهذا يسمى “جمهورية”.

سلاح الثورة التي لا تنتهي: جيش الله على الأرض.

في هذه المنظومة التي تنسب شرعيتها مباشرة إلى الخالق ومن يمثلون، بحسب التعبير الاثناعشري، حجته على الخلق (الامام الغائب)، أين يقف السلاح وحاملوه؟ من أول ما قام به الخميني لإحكام قبضته على إيران وتأمين وجوده هو ومناصريه حرفياً (في وجه اغتيالاتٍ ومحاولات انقلاب) وسياسياً؛ كان إنشاء كيانات مسلحة بعيدة عن نظام آل بهلوي وعلى ولاء لمشروع ولاية الفقيه (بما في ذلك مواجهة مخالفي الخميني ممن شاركوا في الثورة)  من ثم إنشاء “سازمان پاسيج مستضعفين” أو “منظمة تعبئة المستضعفين”، المعروفة اختصاراً بال”پَسيج”، وهذه بدأت كميليشيا تطوعية شبه عسكرية أسسها الخميني عام 1979 ثم في عام 1981 تم دمجها في الجهاز العسكري الأهم على الإطلاق في الجمهورية الإسلامية: جيش حراس الثورة الإسلامية   (الترجمة الحرفية للاسم الفارسي الرسمي: ” سپاه پاسداران انقلاب اسلامی” )، أو ما يعرف اصطلاحاً بالحرس الثوري. 

وتبعاً للاسم الرسمي يعرف أعضاء هذه المنظمة ب “الباسداران” اختصاراً.  الدلالة في الاسم: هؤلاء “جيش حراس الثورة”، لا جيش إيران. طبقا للمادة 50 من الدستور: “تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية التي تأسست فـي الأيام الأولى لانتصار هذه الثورة راسخة ثابتة من أجل أداء دورها فـي حراسة الثورة، ومكاسبها”. “جيش حراس الثورة هو المتحكم في “منظمة المستضعفين” السابق ذكرها، والتي تحضر بقوة في كل قمع لأي حراكٍ في الشارع الإيراني. أما الدور الإقليمي لحرس الثورة فأشهر من أن يشار إليه، خاصة بالنسبة لسرايا القدس الشهيرة. علماً أيضاً أن “جيش حرس الثورة” يدير امبراطورية اقتصادية ضخمة تشكل جزءاً أساسياً من الاقتصاد الإيراني (تتراوح بين عشرة وخمسين في المائة من حجم الاقتصاد الكلي بحسب تقديراتٍ متباينة). 

يوجد إذاً تنظيم مسلح ثري مسؤول عن “حراسة الثورة” يخضع مباشرة للولي الفقيه، ماذا إذا عن الجيش الذي ورثته الجمهورية الإسلامية من حكم آل بهلوي؟ طبقاً للمادتين 43 و 44 من الدستور على التوالي: “يتولى جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية مسؤولية الدفاع عن استقلال البلاد ووحدة أراضيها وعن نظام الجمهورية الإسلامية فيها”. ثم: “يجب أن يكون جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية جيشاً إسلامياً من خلال كونه جيشاً عقائدياً وشعبياً. وأن يضم أفراداً لائقين ومؤمنين بأهداف الثورة الإسلامية، ومضحين بأنفسهم من أجل تحقيقها”. وإن أردت تفسيراً أو تبريراً للدور الإقليمي المسلح للجمهورية الإسلامية في الدستور، في صيغة تشمل كل أذرعها المسلحة فهي في الديباجة وتحت عنوان لا لبس فيه، فهي تتمثل في “الجيش العقائدي”: “فـي مجال بناء وتجهيز القوات المسلحة للبلاد يتركز الاهتمام على جعل الإيمان والعقيدة أساساً وقاعدة لذلك، وهكذا يصار إلى جعل بنية جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة على أساس الهدف المذكور، ولا تلتزم هذه القوات المسلحة بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد فـي سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي فـي العالم  “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم. [القرآن، سورة الأنفال، الآية 60]”. من ثم نشاط الجمهورية الإسلامية في المنطقة واعتراض المتظاهرين المتكرر في كل انتفاضة ضد النظام على إنفاق أموال البلاد على أنشطة عسكرية وراء حدودها برغم ما يعانيه الإيرانيون من أزماتٍ اقتصادية.

ولاية الفقيه وفرض التقوى.

ماذا عن إلزام المجتمع بما يراه الولي الفقيه من الصلاح في السلوك؟ وتحديداً “گشت إرشاد” (حرفياً “دورية التوجيه”) أو ما عرف اصطلاحاً بشرطة الأخلاق التي كان اعتدائها على الشابة الكردية مهسا أميني ما أشعل الموقف؟ طبقاً للمادة 8 من الدستور: “فـي الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية ومتبادلة بين الناس فيتحملها الناس بالنسبة لبعضهم البعض، وتتحملها الحكومة بالنسبة للناس، والناس بالنسبة للحكومة، والقانون يعين شروط وحدود وكيفية ذلك، و”المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” [القرآن، سورة التوبة، الآية 71]”. 

في تاريخ “دورية التوجيه” ما يختصر تاريخ الجمهورية الإسلامية، فسلف الجهاز الحالي كان ما عرف بـ”اللجان الثورية الإسلامية” (“كميته هاي انقلاب إسلامي”) التي ظهرت  مع ولادة الجمهورية الإسلامية وتولت دور “شرطة الأخلاق” وكانت تحت إشراف وزارة الداخلية،  حتى تقرر عام 2005 إنشاء دورية الإرشاد لتضطلع بهذا الدور، وهذه تحت الإشراف المباشر للولي الفقيه. خلال رئاسة روحاني (2013- 2021)، وبرغم كون دورية الإرشاد تحت إشراف الولي الفقيه مباشرة تعرض هذا الجهاز لنقدٍ من داخل أروقة الجمهورية الإسلامية  ومن ثم خف دوره إلى حد كبير، لكنه عاد بقوة مع تسلم رئيسي، المحسوب على الجناح المحافظ المتشدد، رئاسة الجمهورية، والنتيجة ما رأينا (وهو تحديداً ما حذر منه منتقدون داخل البرلمان الإيراني منتصف العقد الماضي من أن نشاط هذا الجهاز وتعديه على خصوصيات الناس يستعدي الناس ضد الحجاب إن لم يكن ضد الجمهورية الإسلامية  بل والإسلام نفسه). 

غياب المرونة ، تغييب الخيارات والأفق المسدود.

هل من الممكن تغيير هذه المنظومة؟ تحجيم الطبيعة الثيوقراطية الفجة للجمهورية الإسلامية؟ فتح المجال لهيئات حرة منتخبة وتمثيل حقيقي لا يسيطر عليه الفقهاء المحسوبون على الولي الفقيه؟ تبدو الإجابة سلبية. طبقاً  للمادة الأخير من الدستور وحده الولي الفقيه هو من يملك حق الدعوة لتعديل الدستور، ويتم ذلك، مرة أخرى من خلال لجان يشكلها هو مباشرة أو بشكل غير مباشر، ثم يملك هو أيضاً (أي الولي الفقيه) حق المصادقة على التعديلات المقترحة قبل طرحها للاستفتاء. و إن كان هذا لا يكفي تخبرنا الفقرة الأخيرة بما هو “فوق-دستوري” في الدستور: “مضامين المواد المتعلقة بكون النظام إسلامياً وقيام كل القوانين والمقررات على أساس الموازين الإسلامية والأسس الإيمانية، وأهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكون الحكم جمهورياً، وولاية الأمر، وإمامة الأمة، وكذلك إدارة أمور البلاد بالاعتماد على الآراء العامة، والدين والمذهب الرسمي لإيران، هي من الأمور التي لا تقبل التغيير”. علماً أن هذه الخاتمة للدستور تبني على المادة 12 منه وتتوسع فيها والتي تقول: “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو المذهب الجعفري الاثني عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير”. بتعبير آخر، يفهم من المادتين أن ولاية الفقيه وطبيعة نظامها الثيوقراطي (المسمى “جمهورية”، ربما كنقيض للملكية التي سبقته) هما أيضاً أبديان.

 في ظل تحجيمٍ مطّرد لقدرة الناخبين على التأثير في إطار دستور يسمح بذلك، وتركز فريد من نوعه للسلطة بيد شخص واحد، بل واستبعادٍ لكل من يراه هذا الشخص مخالفاً لتوجهاته من داخل منظومة الجمهورية الإسلامية، في ظل هذا كله هل يظل مستغرباً أن يهتف المتظاهرون مطالبين بسقوط النظام برمته؟ 

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.