fbpx

“غير صالح للزواج أو للسفر”…
هكذا يفرض النظام السوري على طلابه الخدمة العسكرية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لطالما كانت المدارس في سوريا، هي واجهة “حزب البعث” الحاكم، وقد طغى علمه وشعاراته وإيديولوجيته وصور الرئيس على كل ما له علاقة بالتعليم، بخاصة خلال المراحل الدراسية الابتدائية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وقفت المعلمة أمامي، ومدت يديها، بينما تغلق كل واحدة منهما على ورقة. إحداهما كتب عليها “إنكليزي” والأخرى كتب عليها “فرنسي”. ثمّ طلبت منّي بلهجة مخيفة أن أختار اليسار أو اليمين.

كان ذلك قبل 25 عاماً، وكانت تلك الطريقة المتّبعة في المدارس السورية، لتحديد اللغة الرّديفة التي سيتم تعليمها للتلاميذ، إلى جانب اللغة العربيّة. وعلى التلميذ (الصف الابتدائي الخامس ) أن يعتمد على حظّه في اختيار اللّغة التي سترافقه طيلة حياته، بغض النظر عن رغبته، أو حتّى رغبة أهله، إلّا إذا كانوا من “المدعومين”. حينها، يتم فرز أولادهم ووضعهم في “شعبة الانكليزي” أو كما كان اسمها متداولاً “شعبة الشاطرين”.

صور مقدّسة وتهديدات “بالسجن”

لطالما كانت المدارس في سوريا، هي واجهة “حزب البعث” الحاكم، وقد طغى علمه وشعاراته وإيديولوجيته وصور الرئيس على كل ما له علاقة بالتعليم، بخاصة خلال المراحل الدراسية الابتدائية.

فالنّظام التعليمي السوري الذي فرض منذ سيطرة “حافظ الأسد” على الحكم في سوريا، أي منذ ما يزيد عن 50 عاماً يعمل على قولبة فكر  التلاميذ وتوجيهه نحو الولاء المطلق لرجل واحد، هو القائد إلى الأبد، من خلال شعارات على لباس موحد، يُجبر كل طفل في سوريا سيدخل المدرسة على ارتدائه.

 وربّما “كأطفال” لم نكن نميّز ذلك وقتذاك، لكنّنا كنا في خوف دائمٍ.  صورتان معلّقتان على الجدار فوق السبورة تماماً. إحداهما “صورة الرئيس” والأخرى “صورة ابن الرئيس” يرتديان نظارات سوداء، مخيفة جدّاً بالنسبة إلى أطفال يخرجون للمرة الأولى من دائرة الأسرة. 

كانت تلك الصور تخيفنا فعلاً. لم نكن نعلم من هم هؤلاء بالضبط، لكنّنا كنّا نرتعب من النظر في صورهم أو الاقتراب منها. لأنّ المعلّمة في أوّل حصّة، هدّدتنا من خلال حكاية صغيرة “بأن أحد التلاميذ أوقع الصورة عن الحائط فأخذوه هو وكل عائلته إلى الحبس”. كنّا نعتقد أن تلك  الحكاية، غايتها الترهيب فقط كي لا نقترب من الصور. لكنّها للأسف، كانت حقيقية.

زادت الحرب في سوريا من صعوبة التعليم والحصول على شهادات جامعية ما لم يخضع الطالب للعسكرة. 

لا أعلم بالضّبط، ما هي الأحلام والطّموحات التي يمكن، أن تكون لطفل بدأ حياته الدّراسيّة بحكاية كهذه، وارتدى ثياباً مدرسيّة مفروضة عليه، ذات ألوان أقرب إلى الحياة العسكريّة. مراييل ذات لون بنّي كئيب، وقبعات على الرأس أشبه بقبّعات ضبّاط القوات البحريّة. واجتماعات صباحيّة، تهتف لقائد الوطن، أكثر من هتافها للوطن نفسه!

كانت القوانين وما زالت في نظام التعليم السوري، منفلتة، ولم تكن تولّى أيّ اهتمام أو إعادة نظر فيها. قوانين مسنونة دون الاستناد إلى أيّ دراسات نفسية أو حتى اجتماعيّة. فكيف لطفل في العاشرة، أن يختار أحلامه بنفسه ويسعى إلى تحقيقها، بوجود نظام تعليميّ، يفرض عليه مستقبله، بحجّة قوانين موضوعة باستهتار، كأنّ التعليم لعبة.

لم أكن أفهم إطلاقاً تلك المسوّغات الّتي تخوّل لنظام التعليم في سوريا، من أن يجعل “الحظ” هو المسؤول عن تحديد مستقبل التّلميذ!! فمن أكثر تلك القوانين ” انفلاتاً وخطراً” هو قانون اختيار “اللغة الرّديفة”.  فكما يعلم بعضكم، إنّ نظام التعليم في سوريا. لا يُدرج ساعات مخصصة لتعليم لغات أجنبيّة. إلّا بعد أن يصير التلميذ في عمر العشر سنوات. أي عندما يصل إلى بداية الصف الخامس الابتدائي . حيث كانت “الإنكليزية والفرنسيّة” هما اللّغتان اللتان على التلميذ أن يختار واحدة منهما، إلى جانب العربيّة.

إلى هنا، قد يبدو الأمر عادياً نوعاً ما، لكن الأمر غير العادي وغير المدروس إطلاقاً هو آليّة اختيار التلاميذ للّغة الرديفة الّتي يرغبون تعلّمها…

تعتمد تلك الآليّة بشكل مطلق على “الحظ”. وذلك من خلال تخصيص يوم محدّد، يُجمع فيه طلّاب الصف الخامس كلّهم في قاعة كبيرة، ويتم صفّهم في طوابير. تقف عند مقدمة كل طابور معلّمة. تحمل في يديها ورقتين صغيرتين، مكتوب على إحداهما حرف “E” وعلى الأخرى حرف “F”. تخلطهما ثم تسأل التلميذ:” بدّك الورقة اللي بإيدي هي، ولا اللي بإيدي هي” فيختار التلميذ عشوائيّاً ظنّاً منه أنّها لعبة. وعلى أساس ذلك، يكون قد تحدّد مستقبله اللّغويّ.

اللافت في الأمر، أن معظم التلاميذ كانوا يبكون ويصرخون من الخوف حين يقع اختيارهم على “الفرنسي”. لأنّ السّائد والمعروف- بسبب المحسوبيّات والواسطات- أنّ الإنكليزيّة هي لغة “الشّاطرين” وأن الفرنسية هي لغة “الكسلانين” (اي التلاميذ غير الأذكياء).

هذا التّصنيف اللّاواعي عند التلاميذ، جاء نتيجة سماح الإدارة  لأبناء الأساتذة والمسؤولين، أن يختاروا الانكليزيّة دون قرعة. وكانوا يوضعون في شعبة مستقلّة يطلق عليها من قبل المعلّمين أنفسهم “شعبة الشاطرين”. 

الضرب المبرح والتعنيف كان أمراً عاديّاً في المدارس السوريّة حتى وقت متأخّرٍ طالما هو لغاية التعليم، دون أدنى اكتراث في ما قد يخلّفه من أثرٍ في نفوس التلاميذ سواء كان التعنيف باليد أو بالعصيّ. 

كان الضرب من الأساليب المتّبعة لإجبار التلاميذ على القبول بمستقبل لغتهم، الّذي اختارته لهم القرعة. ولم يتمّ استصدار قانون “يمنع الضّرب” في كافة المدارس السوريّة. إلّا بعدما أقدمت إحدى المُعلمات في إحدى المحافظات السّوريّة على ضرب تلميذ، لم تكن تعلم أنّه ابن مسؤول كبير في الدولة. 

يتفنن النظام السوري، من خلال مؤسساته التعليمية، وتدخله المباشر في تطلعات التلاميذ وأحلامهم، في جعل كل طموح وكل حلم، يصب في مصلحة الولاء المُطلق “للقائد الخالد”. سواء على المدى القريب من خلال المعسكرات والمسيرات والصور المزروعة في كل حائط وكل جدار. أو على المدى البعيد جدّاً، حيث لا يتمكّن الطالب السوري في آخر مسيرته الدراسية من الحصول على شهادة جامعيّة، قبل أن يُتمّ خدمته العسكريّة، الإجباريّة. 

بعد هزيمة الثورة والحرب

زادت الحرب في سوريا من صعوبة التعليم والحصول على شهادات جامعية ما لم يخضع الطالب للعسكرة. 

انتكاسة الثورة وتمكن النظام من فرض قبضته مجدداً دفعه الى الايغال أكثر في فرض قيود أكبر على الطلاب.

مثلا، صدرت قرارات خلال السنوات الأخيرة، من قبل حكومة النظام السوري التعليميّة، تمنع خريجي الجامعات الحديثين، من استلام شهادات تخرّجهم، قبل حصولهم على موافقة أمنية، تصدر عن شعبة التجنيد العسكري. مكتوب عليها بالحرف “حامل هذه الوثيقة، غير صالح للسفر أو للزواج”. 

 “التربية العسكريّة” كانت واحدة من المواد الرئيسيّة في المدارس السورية، والتي فرضت خلال الفترة التي حكم فيها “حافظ الأسد”.

في عهد “بشار الأسد” تم إلغاؤها (كحركة تغييريّة جاءت تحت مطالبات وضغوط كثيرة على الحكومة) وتحويل مدرّسيها إلى مدرّبين للتربية الرياضية. إلى أن بدأت الثورة في سوريا عام 2011، ما أعاد “مادة التربية العسكريّة” إلى المدارس ولكن بشكل مبطّن، وبخاصة الابتدائية منها، وذلك من خلال عروض عسكريّة بسيطة، بأسلحة “بلاستيكيّة” يؤدّيها أطفال، لم يتجاوزوا العاشرة، وذلك بحجّة زرع فكرة “الدفاع عن الوطن”. وانتشرت مقاطع فيديو من داخل المدارس السوريّة، لأطفال يلوّحون بأسلحة مزيّفة أمام حضور كبير من المعلّمين وأصحاب المناصب، ويهتفون “بالروح بالدّم نفديك يا بشّار”.