fbpx

هل علينا مقاطعة “مونديال” قطر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليس المونديال القطري الحالة الأولى التي تدفعنا للتفكير في ضحايا السياسة واللا أخلاق في العلاقة مع كرة القدم، فقد تحوّلت اللعبة إلى ملعب لرؤوس الأموال، يديرها أفراد، بغية أن تصبح قوة ناعمة للدول.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يدعو مشجّعون ألمان في دورتموند، ميونخ ومدن أخرى إلى مقاطعة المونديال الكروي في قطر قبل أيام قليلة من انطلاقته بسبب قضايا أخلاقية وحقوقية تتهم بها الدولة المضيفة، أبرزها التسبب بموت آلاف العمال الأجانب، استغلالهم، قمع الحرياتِ الفردية والأقليات الجنسية. فقبل أكثر من عام نشرت “الغارديان” تقريراً تبينُ فيه مصرعَ 6500 عامل على الأقل من دول جنوب شرق آسيا وحدها في العقد الأخير، في حوادث مرتبطة بأعمال البناء تحضيراً للمونديال. وأُثير الجدل حول المونديال منذ لحظة إعلان فوز قطر (2010) بعد تسريبات بتلقي الفيفا رشى من الحكومة القطرية، بغية الفوز بالتنظيم، وصولاً إلى التشكيك في قدرة قطر على تنظيم حدث عالمي بهذا الحجم دون امتلاكها بنية تحتية. 

لكن ليس المونديال القطري الحالة الأولى التي تدفعنا للتفكير في ضحايا السياسة واللا أخلاق في العلاقة مع كرة القدم، فقد تحوّلت اللعبة إلى ملعب لرؤوس الأموال، يديرها أفراد، بغية أن تصبح قوة ناعمة للدول. وبذلك يتم تحويل اللاعبين إلى آلات بشرية مدرّة للأموال، فيما تدفع الفيفا للجمهور واللاعبين، لتهميش السياسة في أماكن وإقحامها في أماكن أخرى، كلها قضايا أخلاقية تستحق الوقوف عندها وتشعرنا بالذنب لحب هذه اللعبة. وجوباً، ودفاعاً عن أنفسنا، نتوقف لنسأل: هل نقاطع اللعبة؟ ولماذا نحب هذه اللعبة؟ 

أتناول في القسم الأول من هذه المقالة الجوانب الأخلاقية المتعلقة باللعبة ومسألة مقاطعة المونديال من عدمه، أما الثاني، فمحاورةٌ مع الجزء الأول لأجيب عن سؤال: لماذا نحب هذه اللعبة؟ 

يدعو مشجّعون ألمان في دورتموند، ميونخ ومدن أخرى إلى مقاطعة المونديال الكروي في قطر قبل أيام قليلة من انطلاقته بسبب قضايا أخلاقية وحقوقية تتهم بها الدولة المضيفة.

من السهل القول إن مؤامرة ما حيكت لتحظى قطر بتنظيم البطولة وبخاصة مع التقارير والجدل حول قضايا فساد داخل أروقة الفيفا، وتلك فرضية غير مستبعدة، وقد جرى كشف اثباتات عليها في وثائقي تعرضه “نتفلكس” تحت عنوان “FIFA Uncovered”. نظرية أخرى أجدها منطقية، أن السياسات الليبرالية للفيفا في إقامة كأس العالم في قارات ودول جديدة ضمن سياسات الهوية والتنوّع المتبعة، وفرّت لقطر فرصة التنظيم. بعد منح الفيفا اليابان وكوريا بطاقة الاستضافة كأول تنظيم آسيوي (2002)، ثم جنوب أفريقيا (2010) ليكون ضمن سياساتها في نبذ العنصرية ومنح القارة الأفريقية فرصة التنظيم، والآن من خلال قطر التي تطابق ثلاثة صناديق من لائحة الهويات: بلد شرق أوسطي مسلم وعربي في آن. سواء هذا الرأي أو ذاك، جميعها توصلنا إلى أسئلة يتوجب الوقوف عندها، منها الأخلاقي والسياسي وربما الترفيهي. هل قطر على قدر من الكفاءة لتنظيم هذا الحدث الكبير؟ هل صرف 220 مليار دولار هو مبلغ معقول؟ ما مصير حقوق آلاف العمال الذين لقوا حتفهم حتى تظفر قطر بتنظيم حدث عالمي تحول إلى أهم سلاح ناعم سياسياً؟ وماذا عن الحريات المقموعة في قطر حالها حال الكثير من الدول في المنطقة؟ 

تحتكر قطر من خلال ترويجها للمونديال مفهوم أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة المنطقة كاملة، متجاهلة وجود شرائح لا تتبنى الثقافة الإسلامية كهوية سياسية وثقافية. ابتداءً من ترجمة آيات قرآنية للغات الأجنبية وتوزيعها في شوارع المدينة، بالإضافة إلى تبرير قمعها للأقليات والحريات الفردية ضمن التبرير ذاته، وهو ثقافتها العربية الإسلامية. “عالم واحد، موطن واحد” هو الشعار الذي اختارته قطر للمونديال، تقول من خلاله إنها “منفتحة على العالم”، وستبهر العالم في تنظيمها، وذلك من خلال منصتها الإعلامية الأكبر “بي ان سبورت”، لكن تشترط قطر “احترام تقاليدها”. لتكون بذلك روّجت صورة الانفتاح على العالم بشروطها، برغم تصديرها صورة أحادية ونمطية عن الشرق، فتفتح لنفسها ممرات اقتصادية وسياسية، ناهيك بالشعبية المحلية.

كان العائق الرئيسي بالنسبة إلى قطر في هذا المونديال، هو حصولها على التنظيم بدون امتلاكها بنية تحتية كافية فاستغلت الفرصة لبناء ملاعب، شبكة مترو، تجهيز المطار والفنادق وغيرها. ومن المتوقع أن يصل الناتج المحلي لقطر إلى 200 مليار مع العام 2025، وهو تقريباً ضعف ناتجها المحلي عند ظفر قطر بتنظيم المونديال. سابقت الزمن لتصبح جاهزة وبمبالغ مهولة، تطلبت بناءها مئات الآلاف من العمال الأجانب، لساعات طويلة، وفاتورة ضحايا باهظة. 

حذت قطر حذو دول أخرى مثل كندا والبرازيل. عام 2010 نظمت كندا الأولمبياد الشتوية لتأخذ مدينة فانكوفر نصيبها من الكعكة، إذ صرفت الكثير وسط اعتراض الأحزاب المعارضة والسكان الأصليين، في مدينة عدد مشرديها هو  الأعلى في كندا. كذلك البرازيل، التي قامت حكومتها بإنفاق أموال طائلة من أجل إظهار البرازيل “بأفضل حلة”، بينما يعاني أبناء العشوائيات على مقربة من الملاعب من سائر أنواع الأمراض والعوز الاقتصادي. ما يثير الجدل، أن قطر لم تمتلك أدنى مقومات البنية التحتية، فسباق الزمن دفع ثمنه العمال الأجانب. المقارنة هنا لا تبرئ قطر من الاتهامات الموجهة لها، وإنما تضع الفيفا أيضاً في دائرة المساءلة.

عندما سئُل أرماندو دييغو مارادونا، قبل وفاته، عن المونديال قال: “لا أعرف إذا كانت قطر مستعدة لاستضافة كأس العالم، ولكن بأية حال أنا أهنئ قطر، لكنني أعتقد أن تلك تجارة أخرى لبلاتر والفرنسي ديفيد أيولا”. لم يركز مارادونا على الجانب المرتبط بقطر كلّما سُئل عنها، بل ركز بشكل كبير على الفيفا بوصفها الحاضنة لهذا الحدث الكبير. ولطالما انتقد مارادونا الفيفا واتهم رئيسها جوزف بلاتر “بالخوف من افتقاد السلطة، وتفويت قطعة من الكعكة في كل كأس عالم”.
بالنسبة إلى الأرجنتيني الراحل المسألة ليست تحول اللعبة إلى صناعة فحسب، ولكن استغلال اللاعبين ضمن هذه الآلة الكبيرة. فلاعبي كرة القدم اليوم، ورغم المبالغ الخيالية التي يتحصلون عليها، فهم أدوات مُستغلة يتحصلون على جزء بسيط مما تدره هذه اللعبة على المستثمرين أصحاب رؤوس الأموال، وعلى مسؤولي الفيفا الفاسدين. “لا يمكن لهم أن يأكلوا الكافيار [يقصد جوزف بلاتر ومسؤولي الفيفا]، ونحن نلعب الساعة الثانية عشر ظهراً، تحت أشعة الشمس الحارقة” يقول مارادونا. 

رغم كل هذا، لم نحب هذه اللعبة إذاً؟ 

كلما تطورت كرة القدم، وتحولت إلى صناعة، ابتعدت عنها المتعة والعفوية، ومُنع اللاعبين من أن يلعبوا لأجل المتعة، بل يجب أن يتبعوا قوانين، خطوط، منحنيات ورسم هندسي يقرّه المدرب منهجاً للفوز باللعبة، ربما حتى أبعد من الخطط الحربية، فقد تكون للجندي المساحة للارتجال وإنقاذ نفسه بينما يُمنع اللاعب من المراوغة أو التسديد من بعيد. يتوجب على اللاعب أن يحذر في لبسه ماركات مغايرة كيلا تخسر الشركات الراعية نقوداً، عدم شرب الكوكاكولا أيضاً يُعتبر حدثاً كبيراً، أزمة قلبية يتعرض لها لاعب بسبب ضغط المباراة تتحول لحالة عرضية، يتضامن معها الجمهور، ثم تستمر الفيفا في جدولة المزيد من المباريات ويتدخل رؤساء دول لمنع صفقة أو إكمالها. ورغم كل هذا، لا نزال نحب هذه اللعبة؟ 

هناك ألعاب جماعية عديدة، منها متطلبة، تحتاج إلى ملابس، صالات، شبكة أو عمود في حالة كرة السلة. أما كرة القدم كل ما يحتاجه الطفل أن يعرف كيف يهرب من المنزل أثناء غفوة والديه ليلعب مع أطفال الحي بالحجارة أو علب كونسروة فارغة مرمية على الطريق. تُلعب بعد إيهام الأهل بانتهاء الواجبات الدراسية، وتلعب أيضا بركل أي شيء تصادفه في طريق الوصول إلى المدرسة. كانت دوما لعبة الفقراء، وستبقى كذلك. أكثرنا، محبي اللعبة، كنّا لاعبين سيئين في صبانا. ربما كنّا مثل إدوارد غاليانو الذي يعترف في مستهل كتابه الشهير، “كرة القدم في الشمس والظل” برغبته أن يكون لاعباً محترفاً: “لقد رغبت مثل جميع الأورغوايين في أن أصبح لاعب كرة قدم. وقد كنت ألعب جيداً، كنتُ رائعاً، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي”. هي اللعبة الأكثر شعبية وتوفراً، لكن ليس هذا وحده ما يشدنا للعبة، بل وجود الآخر جزء رئيسي منها، وجود تيارات سياسية وطبقية تحكم أي طرف نختار. يصبح للتباري معانٍ أخرى. 

يقارب غاليانو جمال مشاعر تسجيل الهدف للنشوة الجنسية، وهو ليس الوحيد الذي شبهها بذلك. مؤخرا تشافي هيرنانديز مدرب فريق برشلونة شبّه اللعب والفوز على السانتياغو برنابيو ملعب الغريم ريال مدريد، بالنشوة الجنسية أيضاً. بالنسبة لتشافي (الكتالوني)، الفوز على ريال مدريد هو استحقاق يتجاوز لعبة كرة القدم، بل هو استحقاق كتلوني على أرض نادي العاصمة الملكي، الذي كان مدعوماً من الفاشي فرانكو لعقود طويلة. ربما تراجعت أو تلاشت التدخلات السلطوية التي وُجدت أيام حكم فرانكو، لكن يبقى انعكاس الصراع السياسي بين كتالونيا والحكومة المركزية في إسبانيا من خلال لعبة الكلاسيكو موجوداً. فالكتلان لازالوا يعتبرون أنفسهم خارج اسبانيا، مطالبين بكيانهم المستقل، رافضين الهوية الإسبانية. 

مناسبات عديدة رفع خلالها المشجعون الكتلان في ملعب الكامب نو شعارات داعية للاستقلال وإطلاق سراح السجناء السياسيين، كما حدث في كانون الأول/ديسمبر 2019. كلاسيكو إسبانيا يُعد الأشهر في السنوات الأخيرة لما له من شهرة إعلامية تاريخ طويل بين الفريقين، لكن صراعات مشابهة موجودة في الكثير من الدول، مثل كلاسيكو الأرجنتين، مصر وغيرهم. 

 “In! In-de! In-de-pen-den-ci-a!” [الاستقلال]
“حرروا السجناء المنفيين” 

المشاحنات الإثنية، الطائفية والسياسية المرافقة للعبة ليست مجرد نظرية، بل تصبح جلية إذا ما تمعنا في الشعارات والأغنيات لبعض هذه الفرق. في الأرجنتين لم يتقبل المستعمرون والسلطويون في بوينس آيرس وجود مهاجرين، ريفيين، وذوو بشرة ملونة. فغنوا ضد فريق بوكا جونيور الأرجنتيني الشهير بشعبيته ضمن المهاجرين والفقراء.

“الكل يعرفون أن البوكا في حداد
جميعهم سود، جميعهم قِحاب
لا بدّ من قتل هؤلاء الروث
لا بدّ من رميهم في نهر رياتشويلو “

 في إيطاليا يظهر كره الشمال المتسلط لأهل الجنوب وناديهم الشهير نابولي خلال الثمانيات عندما مرّ الفريق بفترة انتصارات ذهبية، مع مارادونا ورفاقه، من خلال كلمات بالغة العنصرية… 

يا للرائحة الكريھة،

حتى الكلاب تھرب،

النابوليون قد وصلوا.

آه للملونيين، للمزلزلين،

لا يمكن حتى للصابون أن ينظفكم.

نابولي أيتھا البراز نابولي أيتھا الطاعون،

أنت عار على إيطاليا كلھا”

عندما سجل مارادونا هدفه الشهير “بيد الله” ضد الإنكليز في مونديال ١٩٨٦، قيل إنه مثل ” طفل يركض بعد سرقة محفظة جندي إنكليزي” في إشارة إلى ما كان يفعله أطفالٌ ارجنتينيون بالجنود الإنكليز عندما احتلت بريطانيا جزر المالوين الأرجنتينية. ويصف غاليانو هدفي مارادونا بأنهما أعادا الكرامة الوطنية للأرجنتينيين. 

لا توجد إجابة واحدة على سؤال مقاطعة مونديال قطر، لكن المقاطعة ربما يترتب عليها مقاطعة اللعبة أو رياضات عديدة وليس فقط مونديال قطر. مستفزٌ ربما إعطاء قطر حق التنظيم لهذه البطولة، خاصة مع مشاهدة استغلالها السياسي، ومستفزٌ إصرار قطر الكبير في التركيز من خلال إعلامها على محاربة المثلية، الترويج الديني والتقاليد وعدم اكتراثها بقضايا حقوقية بحجة الثقافة العربية المختلفة. وبالرغم من كل ذلك، من الضروري النظر إلى الفيفا كمؤسسة مظلة لتنظيم هذا الحدث الكبير، وللفساد الموجود ضمنها. وانتقاد تنظيم قطر للمونديال في ضوء تاريخ تنظيم الدول لأحداث مشابهة سواء في كرة القدم أو غيرها. 

يحب الفقراء لعبتهم، وينتقمون من خلالها. يحبون أن يهزموا خصومهم من السلطويين والأثرياء من خلال لعبة كرة القدم، فعلى العشب الأخضر، وحدها المهارة تحكُم، لا أسلحة ولا قوة، مثل العدائين السود الأميركيين الذين أحرجوا هتلر بالجري في أولمبياد 1936. لذلك سنظل نحب كرة القدم. وهذا الحب ذاته ما يوّلد الغضب لدى جماهيرها حين تؤخذ منهم لعبتهم. 

مشجعين في دورتموند ـ قاطعوا قطر 

كاتالونيا ليست اسبانيا – ملعب كامب نو A group of people holding a banner Description automatically generated with medium confidence