fbpx

عبد العزيز المقالح: رحيل في الزمن اليمني الحالك

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قضى المقالح السنوات الأخيرة بعد سقوط صنعاء في يد السلطة الطائفية حزيناً على بلد لم يعد بلد الأغنيات والأمنيات الذي حلم به. وبدأ يكتب مرثياته الحزينة متذمراً لأن الموت تأخر أكثر من اللازم ولأن القبر صار أوسع من زمن الخرافة الطائفية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شكّل رحيل الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح فاجعة لليمنيين في زمن الحرب. فهو آخر الكبار شعراً ونقداً، وثاني وجه ثقافي قدّم ثقافة اليمن إلى القارئ العربي، إلى جانب عبد الله البردوني. لكن رحيله يكتسب شكل الحزن العام، فها هو نموذج آخر يرحل ويترك اليمنيين ضحايا للموت والخراب وانعدام القدوة وضياع المعنى.

لم يكن المقالح شاعراً وناقداً فقط، فهو مشارك في أهم ثورتين في اليمن الحديث ثورة 1948 وثورة 1962. وهو حارس الذاكرة الثورية بعمله الدؤوب لتوثيق تاريخ الثورات اليمنية خلال 5 عقود. في هذا المقال استذكار لأهم مواقف حياته وإبداعه.

المقالح والشعر العربي الحديث

حمل المقالح راية القصيدة العربية الحديثة وعاصر جيلها الثاني كصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي… كانت رؤية المقالح للشعر العربي الحديث تدور حول الانتقال من البيت إلى القصيدة بحسب عنوان أحد كتبه. كانت القصيدة العربية العمودية القديمة هي قصيدة البيت الشعري التي تفتقر إلى موضوع يوحدها، فينتقل الشاعر من موضوع إلى آخر، فيبدأ بالغزل وينتقل إلى الهجاء أو المدح أو الفخر. 

 أما القصيدة العربية الحديثة، بحسب رؤية المقالح، فهي قصيدة الموضوع المتماسكة شكلاً ومضموناً. القصيدة الإنسانية التي تتجاوز أغراض المديح والهجاء والغزل والفخر إلى التعبير عن معاناة الإنسان العادي وأحلامه. وكانت القصيدة العربية العمودية قصيدة النخبة، الفرسان والملوك والأمراء والشعراء المداحون. أما القصيدة الجديدة فهي قصيدة الإنسان العادي في عصر الجماهير.

لكن حمله راية الدفاع عن الشعرية الجديدة لم يمنعه من عشق الشعر القديم وخاصة شعر المتنبي. وظل مثقفاً حداثوياً بثقافة تراثية أدبية واسعة، وسعى دائماً لشعرية جديدة ومجتمع جديد من دون أن يمنعه ذلك من الافتتان بالثقافة العربية في عصرها الكلاسيكي. لكن المجتمع الجديد لم يأت والقصيدة الجديدة اختنقت بأزمة التجديد. 

المقالح والسلطة

لطالما أثارت علاقة المقالح بالسلطة الجدل وسوء الفهم. ولا يفك غموض وذكاء علاقته بالسلطة غير مقال مطول كتبه عن الإمام الشوكاني (رائد الإصلاح الديني اليمني المولود في 1759 والمتوفي عام 1839). خدم الشوكاني كوزير وقاض للقضاة حكاماً من أشد الأئمة الزيديين استبدادا. ورغم اختلاف رؤيته الدينية الأقرب إلى السنة عن الرؤية الرسمية للدولة بتشيعها الزيدي، إلا أن هذا لم يدفع الشوكاني إلى اتخاذ مواقف معارضة أو موقف المقاطعة او موقف الانغماس الكامل مع السلطة. وعمل الشوكاني من داخل السلطة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، ومحاربة التعصب العنصري الهاشمي، وتقديم رؤية دينية وسطية لمواجهة التعصب الزيدي الجارودي. 

نشر التنوير والتحديث من خلال مؤسسات السلطة هو النموذج الذي اتخذه المقالح طوال عمره المديد رئيساً للجامعة ومستشاراً لرئيس الجمهورية ومسؤولا عن مركز الدراسات والبحوث. فقد رفض المقالح توجه اليسار للخروج على السلطة، وهو الخروج الذي كلفها كثيراً وشتّت قواها. وابتعد عن نزوع اليمين إلى استغلال السلطة لإعادة إنتاج ثقافة التخلف. ومضى في معادلته الصعبة والمركبة للعمل من داخل السلطة من أجل نشر ثقافة لا تحبها السلطة وتتوجّس منها.

فضّل المقالح المشي على الحبال فوق واد من السكاكين والبراكين والسيول الجارفة. وحوّله موقفه هذا إلى ملاذ للمثقفين والمفكرين الشباب المتمردين على السلطة الذين يبحثون عنده عن مهرب من الجلاد أو مخرج من السجن أو إنصاف لفرصة مستحقة حرموا منها.

لم يكن المقالح شاعراً وناقداً فقط، فهو مشارك في أهم ثورتين في اليمن الحديث ثورة 1948 وثورة 1962. وهو حارس الذاكرة الثورية بعمله الدؤوب لتوثيق تاريخ الثورات اليمنية خلال 5 عقود.

لم يبتدع المقالح هذا الطريق وحده. فقد سبقه إليه احمد بهاء الدين وصلاح عبد الصبور وقد جمعته بهما صداقة قوية. وعرفت الثقافة العربية مثقفين كباراً اختاروا العمل من خلال المؤسسة الرسمية وخدموا الثقافة بتفان مثل ثروت عكاشه وسعد الدين وهبه وعبدالرحمن الأبنودي وصلاح عيسى.

وهاهي الطبيعة المركبة للمقالح تجعله صديقا أيضا للمثقف النقيض أمل دنقل الثوري الفوضوي المتمرد الذي كتب له مقدمة ديوانه الشعري وصاحبه في تشرده وتصعلكه خلال سنواته في القاهرة. 

المقالح والتكفير

كفّر الإسلاميون المقالح أربع مرات أولها في 1984 وآخرها في 2004!

كانت قضية التكفير الأولى بسبب قصيدة “الاختيار” التي نشرت في ديوان “الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل”، والتي يختار فيها المقالح اختياره الشعري المشهور “بينَ الحزنِ الرّاكعِ والموتِ الواقفِ..أختارُ الموتْ. بينَ الصمتِ الهانئِ والصوتِ الدّامي..أختارُ الصوتْ. بينَ اللَّطْمَةِ والطَّلْقَةِ.. أختارُ الطلقةْ”.

والدافع لهذا الاختيار أن القيم العظمى تم تشويهها على يد آلهة العصر التي اختطفت وصادرت كل الأفكار الجميلة وشوهتها بما فيها فكرة الله. يقول المقالح في القصيدة المثيرة للجدل:

كانَ الله – قديماً – شمساً،

كانَ سَحابةْ

كانَ نهاراً في اللَّيلِ،

وأغنيةً تتمدَّدُ فوقَ جبالِ الحزنْ.

كانَ سماءً تغسلُ بالأمطارِ الخضراءِ

تجاعيدَ الأرضْ.

أينَ ارتحلتْ سُفُنُ الله،

وأينَ الأغنيةُ / الثَّورةُ؟

صارَ الله رماداً

صمتاً

رُعْباً في كفِّ الجلاّدينْ.

لم يستوعب الفقيه والداعية السياسي أن الله في القصيدة ليس الله في السماء. وأن الشعر يقوم على الرمز لا على الخطاب الفقهي المباشر. وأن الله في القصيدة ليس الله الحقيقي كما يفهمه المتدينون، ولكنه مفهوم الله كما شوهه المتاجرون باسمه.

ولعل جزءاً من محنة التكفير يكمن في عجز القصيدة الجديدة عن شرح آفاقها الإبداعية وأساليبها التعبيرية غير التقليدية للعامة. لهذا عاشت ستة عقود من الصراع على المكانة لتزيحها القصيدة العمودية من جديد على يد شعراء الفضائيات. نتيجة محنة التكفير صمت المقالح شعريا من 1986 وحتى 1998 لكنه استمر في اصداراته النقدية التي ترجمت عشقه للشعر نقداً وتحليلاً وتقديماً.

سيعود المقالح للشعر عام 1998 عبر ديوان “أبجدية الروح” الذي سيصبح أشهر دواوينه وستصبح قصائده من أكثر القصائد تداولا بين الجيل الجديد من الشباب المتعطش للشعر وأخص بالذكر قصيدتا “ابتهالات” و”قصيدة الروح”.

المقالح وعبد الله البردوني

للصديقين البردوني والمقالح حكاية مع الخصومة.

 فقد ظلا أشهر ناقدين وشاعرين يمنيين داخل اليمن وخارجه. وكان من الطبيعي أن تشتعل حمى التنافس على المقعد الأول في قلوب وعقول القراء. وقد زاد في تأكيد فكرة الخصومة أن الشاعرين كان لهما صفحتان كاملتان من القطع الكبير في صحيفة ” 26 سبتمبر” ينشران فيهما كتاباتهما أسبوعياً. وكان تقابل الصفحتين وتباري الأديبين الكبيرين في تقديم مضمون يجذب القراء دليلا عند المتابعين على فكرة الخصومة.

“بينَ الحزنِ الرّاكعِ والموتِ الواقفِ..أختارُ الموتْ. بينَ الصمتِ الهانئِ والصوتِ الدّامي..أختارُ الصوتْ. بينَ اللَّطْمَةِ والطَّلْقَةِ.. أختارُ الطلقةْ“.

لكن الغريب في أمر هذه الخصومة أنها سرية، على ما يبدو، أو وهمية ،على الأرجح، وصناعة من صناعات المعجبين المتعصبين الذين لا يهدأ لهم بال إلا بتأكيد وجود حرب سرية بين حزبي المقالح والبردوني. ولو حاولت تشبيه هذه الخصومة المدّعاة بالخصومات الأدبية الشهيرة مثل الخصومة بين الرصافي والزهاوي، أو الخصومة بين طه حسين والعقاد، أو الخصومة بين صادق العظم وأدونيس فلن تساعدك الوقائع. فقد صرح الزهاوي بخصومته مع الرصافي، وأوضح طه حسين خصومته لعبقريات العقاد، وبالغ العظم في إعلان خصومته لأدونيس. لكن لم نسمع تصريحاً واحداً أو تلميحاً بالخصومة بين البرودني والمقالح.

أراد المتعصبون لحزب البرودني اصطناع بعد سياسي للخصومة فقالوا ان البرودني أديب المعارضة وحاولوا إلباسه لباساً قوميا حيناً وناصرياً أحياناً أخرى. لكن البرودني كان كياناً قائما بذاته وأكبر من أن يكون شاعر معارضة. وأرادوا أيضا وضع المقالح في خانة مثقف السلطة وهو من أكبر الناقدين لفقهاء السلطة ومثقفيها والذي عاش قريباً من المثقفين الثوريين وداعما لهم. 

كانت هناك أجنحة تسعى لصناعة خصومة لم تنجح. فالمقالح هو كاتب مقدمة أول ديوان شعري للبردوني وهو أنشط من حرص على نشر شعر البرودني والكتابة عنه بعد وفاته. كما أن البردوني الذي نقد أغلب الشعراء نقداً لاذعاً كان معجباً بشعر المقالح وناقداً إيجابياً له. وقد أنكر المقالح في ديوانه “كتاب الأصدقاء” هذه الخصومة وقال انه والبردوني اتفقا على “جوهر الشعر” واختلفا على “زبد المشكلات” بسبب فعل الوشاة الأغبياء!

المقالح والحزن والموت

قضى المقالح السنوات الأخيرة بعد سقوط صنعاء في يد السلطة الطائفية حزيناً على بلد لم يعد بلد الأغنيات والأمنيات الذي حلم به. وبدأ يكتب مرثياته الحزينة متذمراً لأن الموت تأخر أكثر من اللازم ولأن القبر صار أوسع من زمن الخرافة الطائفية.

عمل المقالح عبر السلطات التي حكمت اليمن منذ 1962. لكن تلك السلطات كانت سلطات وطنية رغم ما فيها من عيوب. أما سلطة الحوثية الطائفية فجاءت سلطة عنصرية طائفية ساعية لبناء أسوار عبودية أبدية حول عقول وقلوب وأجساد اليمنيين. رفض قطعياً العمل معها أو استغلال اسمه لترويج اجندتها الفاشية. وجاء رحيله إيذاناً برحيل عصر الأحلام الناقصة وقدوم عصر الكوابيس الكاملة. 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!