fbpx

مونديال 2022… سؤال الهوية والأنظمة والتبعية للغرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

شكراً لقطر التي جعلت ذلك ممكناً فيها، بأجمل ما يمكن، مع التمنيات أن تعطي اولوية في المستقبل، مع امكانياتها المادية، ليس للرياضة والعمران فقط، وانما في اتاحة صروح للعلوم والتكنولوجيا أيضاً، بحيث نصبح منتجين لا مجرد مستهلكين لإنجازات الحداثة، أو المواءمة بين الحداثة والتحديث.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يسبق أن كان لدي أي اهتمام بأولمبياد كرة القدم، أو بأي أولمبياد رياضي آخر، وربما هذه مسألة سلبية عندي، لاعتقادي أن مشاغلي، أو همومي، ليس فيها ما يتسع، أو يسمح، بذلك، لذا فهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أجد فيها نفسي فجأة مشدوداً إلى مونديال قطر، كحدث، وكمباريات، وكمعنى. 

ربما تفسير ذلك يكمن في أن ذلك الحدث الشعبي الأممي العظيم يجري في بلد عربي، لا سيما أنه صغير بمساحته وعدد سكانه، وأنه أثار، مع منافساته الرياضية، مجادلات سياسية وثقافية وهوياتية. كما أن الهوس في هذا المونديال طغى على تعليقات الأصدقاء في “فيسبوك”، أكثر من أي مونديال سبقه، ويأتي ضمن ذلك افتتاح الكاتب السوري فاروق مردم بك المونديال الفيسبوكي بـ”مقامة فطبولية” لافتة وجميلة، داعب فيها بعض الأصدقاء، وقيام زياد ماجد بتخصيص مقالات تحليلية للمباريات والاشتباكات الكروية، أضاف فيها ما يغني رصيده في الكتابة السياسية. وطبعا لا بد من مناكفات وغمزات يومية، كالعادة، بين يحيى جابر (كاتب مسرحي لبناني) (البرازيلي) ويوسف بزي (صحافي لبناني) (الألماني)، تضفي المزيد من المرح والمتعة في متابعة المونديال.

هكذا شعرت بانجذاب شديد لهذه اللعبة الرائعة، ومشاركة عشرات، وربما مئات، من الملايين، بهذه المتعة، وبالمشاعر الفياضة والمشتركة التي تظهر عند المسحورين بتلك الكرة، في تعبيرهم عن خيبتهم، أو فرحتهم، في انكسارهم، أو ابتهاجهم، في انبهارهم أو غضبهم، وكذلك في متابعة اللاعبين، الذين يدركون أنهم محط أنظار البشر في عموم الكرة الأرضية، لكل حركة، وكل ركلة، وكل رمشة عين، مع الكثير من اللقطات الفنية المميزة.

لكن كما يقال، فـ”لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ”، إذ تحول كثر في “فيسبوك”، من محللين، أو مفتين، سياسيين، إلى محللين ومفتين رياضيين، بحيث باتت الرياضة عندهم سياسة أو امتداداً للسياسة، على طريقة كلاوزفيتر، “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”، في رفض مطلق للفصل، أو للتمييز، بين المجالين، مع أن شيئاً قليلاً من كل منهما يشوب الآخر من دون أن يطغى عليه، أو يهمشه، على طريقة المبالغات العاطفية المتسرعة والآنية المتفشية في التفكير السياسي السائد في بلادنا. 

هكذا أسبغ البعض مصطلح “موقعة” على بعض المباريات، في مقاربة تاريخية وعسكرية، مع المصطلحات التي سادت زمن بزوغ الإسلام، وكأن فوز مباراة يعوض هزائم ونكبات. وثمة من رأى في فوز فريق لدولة ضعيفة، أو غير مرئية، في الرياضة الكروية، على فريق لدولة أقوى، دلالة على أننا في زمن انهيار قطب وبزوغ أقطاب آخرين، وضمن ذلك كسر الاحتكار الغربي، في استعارة لفكرة فلاديمير بوتين البائسة عن أن غزوه أوكرانيا يستهدف استعادة روسيا مكانتها، وإنهاء الهيمنة الأميركية، في عالم متعدد الأقطاب، كأن ذلك يحصل بمجرد معركة، لا بمدى إسهام دولته في تطورات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والثقافة. وطبعا ثمة من رأى في بعض المجادلات الإعلامية، والأطروحات الغربية، بأن ما يحصل هو دلالة على صراع بين حضارة وحضارة أخرى، دون أن يدري أنه يستحضر، أو يتبنى، مقولة صموئيل هنتنغتون عن صدام الحضارات، متناسياً أن الحضارة أكبر من مجرد فوز فريق، وأن هذه أيضاً تتطلب رقي المجتمعات، وتطورها، ومدى ما تقدم للبشرية في العلوم والتكنولوجيا، وهي قاطرة التطور البشري في هذه الحقبة.

إضافة إلى ذلك، ثمة من أخذته العزة كثيراً، أو حالة التصفيق والهياج الجماهيري، والشعور الجمعي العربي، احتفاء بمونديال في أرض عربية، واحتفاء بفوز فريق عربي على فريق أجنبي، مؤكداً أن هذا زمن القومية العربية، بما يدل على أننا “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ساهياً عن أن ذلك كان شعار حزب البعث، منذ 7 عقود، وهو الذي لم يستطع التوحد في بلدين شقيقين سيطر عليهما أكثر من نصف قرن، بل إن أياً منهما لم يوحد بلده، بل قاده إلى كارثة. لم يميز أصحاب هذه القناعة بين مشاعر عربية هوياتية طبيعية، ومشروعة، ومألوفة، تظهر في الملمات، وبين عدم تحولها إلى قوة مادية، أو فعلية، علما أن عديد من الكوارث والمآسي حصلت في هذا البلد أو ذاك، في فلسطين، أو لبنان، أو العراق، أو سوريا، أو السودان، أو اليمن، أو أي بلد عربي أخر لا تجد صداها في مجتمع بلد أخر، بل ولا في البلد ذاته، بين مدينة وأخرى، أو بين قطاع اجتماعي واخر.

استمتعوا بالاولمبياد، في فن اللعبة، او فن اللعب باللعبة…فلكل حادث حديث، فللكرة سحرها

الأكثر بؤسا في تلك المجادلات تمثل بالتنكر للواقع الذي ترزح في ظله المجتمعات العربية، منذ عقود بحكم النظم التسلطية، في دول تفتقد لمكانة المواطن، وحقوق المواطنين، الأحرار والمتساوين، وهي الكلمة التي تكاد تكون مفقودة، أو محرمة، في الخطابات السياسية ليس للحكومات فقط، بل لدى الأحزاب والتيارات السياسية والأيدلوجية العربية. هكذا استطاعت الأنظمة السائدة أن تأخذ “الجماهير”، وحتى بعض المحسوبين على النخب السياسية والفكرية، إلى ملعبها، فيما تروج له لصد ما تعتبره محاولات غربية لتغيير القيم العربية، أو بدعوى الخصوصية العربية، للتغطية على رفضها أي تدخل خارجي في الشأن الداخلي، الذي هو عند الأنظمة يتعلق فقط بكيفية إدارتها سلطتها إزاء شعبها، علماً أنها أنظمة تابعة بكل معنى الكلمة للغرب. وهكذا حولت الأنظمة فكرة التدخل، أو الضغط، من أجل تعزيز حقوق الإنسان، وحرية الرأي، وهي لمصلحة تطوير المجتمعات العربية، إلى مجرد فكرة لفرض سلوك معين (المثلية)، معروف أنه ليس موضع إجماع، حتى في التسامح معه، في الكثير من البلدان الغربية ذاتها.

المشكلة كانت فاقعة، ولافتة، في موقف بعض ممن كانوا يوماً من أشد دعاة “التدخل الخارجي” (في سوريا)، حتى ممن توافقوا على تسمية أحد أيام الجمعة، في بداية الثورة السورية، بجمعة طلب “التدخل الخارجي”؛ وعندي فإن رأيهم في السابق خطأ، والحالي أيضاً، ولا ينم عن تبصر أو بصيرة، ما أضر بهم وبصدقية ادعاءاتهم. 

هذا ينسحب على من أخذ حركة معينة على فريق ألمانيا، في الملعب، مفادها تحريم حرية الرأي، في بلداننا، واختصارها بحرية المثليين، ليقوم بشن حملة على ذلك البلد الذي استضاف مئات آلاف اللاجئين، مع تمكينهم من العيش الكريم، رغم الفاتورة الباهظة، في وقت أقفلت فيه أبواب دول عربية وإسلامية في وجه اللاجئين السوريين، وعملت بعض الدول على توظيف هذا اللجوء تبعاً لأجنداتها السياسية. الأنكى من كل ذلك هو ما فعله لاجئون (مغاربة) في العاصمة البلجيكية بروكسيل، إذ قام بعضهم وسط حالة هيجان بتخريب ممتلكات عامة وخاصة، في بلد احتضنهم وقدم لهم أسباب العيش. 

ولعل هاتين الرسالتين (إزاء ألمانيا وبلجيكا) تنمان عن تنكر لتلك الدول، وللمجتمعات التي يعيش اللاجئون بين ظهرانيها، بدل الامتنان لذلك، مع كل الملاحظات لما يشوب تعاملات بعض الدول مع اللاجئين، إذ لا توجد دولة مثالية، ولا تستحق النقد، لكن المقارنة هنا هي مع معظم الدول العربية والإسلامية التي لا تقدم أي شيء، حتى لمواطنيها، بل إن امتهانها لهم ومصادرتها حقوقهم، هما ما يدفعهم للهجرة، ناهيك بأنها لا تقبل لاجئاً بين ظهرانيها.

في الغضون، مع الاحتفاء بتقدم فرق عربية في الرياضة بيد أن الفرحة تكون اكمل حين يرتبط ذلك بالتقدم في مجالات التطور البشري قاطبة. وبخصوص الحديث عن هزيمة فريق وانتصار فريق، فهذه تعابير ليس محلها هنا، وهي دلالة على تسطيح وتطرف، فليتنا نهزم في مباراة رياضية وننتصر في المباريات الأخرى، فالخسارة إزاء فريق رياضة ليست هزيمة والفوز ليس انتصاراً. وفي السياق، لم أفهم لماذا يقوم لاجئون بالتنكر لدولة احتضنتهم، لدرجة تحطيم ممتلكات، وبرغم فوز فريق بلدهم (فماذا كان سيحصل لو خسر؟!) فهذا لاعلاقة له بالحضارة ولا بالاعتزاز بالهوية، هذا أيضاً خارج صراعات الهويات والحضارات، وهذا غريب عن الروح الرياضية التي يجوز فيها فوز وخسارة دائماً. السؤال من كل ذلك، ما النموذج الذي تقدمه دولنا ومجتمعاتنا إلى العالم؟ او ما الرسالة او الصورة التي نرسلها لتعبّر عنا؟

شكراً لقطر التي جعلت ذلك ممكناً فيها، بأجمل ما يمكن، مع التمنيات أن تعطي اولوية في المستقبل، مع امكانياتها المادية، ليس للرياضة والعمران فقط، وانما في اتاحة صروح للعلوم والتكنولوجيا أيضاً، بحيث نصبح منتجين لا مجرد مستهلكين لإنجازات الحداثة، أو المواءمة بين الحداثة والتحديث.

شكراً للبرازيل على لعبها الرائع، وعلى “الغول” الرائع، أثر الفراشة… رائعة ريتشارليسون… 

تحية للفريق الإيراني لامتناعه عن ترداد النشيد مؤكداً انتماءه لشعبه، متحدياً سلطته.

لافت ورائع ومعبر هذا التعاطف الجياش مع قضية فلسطين…

استمتعوا بالاولمبياد، في فن اللعبة، او فن اللعب باللعبة…فلكل حادث حديث، فللكرة سحرها…