fbpx

“لو تعرفي…” :
مازن الشاهد على جرائم النظام السوري عاد إلى الجحيم 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

آخر المعلومات عن مازن كما ترد في الكتاب وما نعرفه من وسائل التواصل الاجتماعي أنه اعتقل في مطار دمشق، ونقل إلى المخابرات الجويّة في دمشق، ذات المكان الذي انتهك إنسانيته، هناك أرادوا منه أن يشهد مرة أخرى على شاشة التلفزيون الرسميّ بأنه كاذب، هذا آخر ما وصلنا عنه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لو تعرفي..!” هي العبارة التي تكررت على لسان السوري مازن آل حمادة (1977- غير معروف) في مقابلاته المتعددة مع الصحافية الفرنسية غارانس لو كيزن، التي التقت بمازن أول مرة عام بداية 2015، أثناء إنجازها الكتاب المرعب “عملية قيصر” الصادر في العام ذاته، والذي توثق رحلة المصور العسكري الذي انشق عن النظام السوري، وسرب آلاف الصور للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب. 

“لو تعرفي..!” تتكرر بالفرنسية، لا بلهجة مازن ابن دير الزور، الذي هرب من سوريا عام 2014 عابراً الحدود حد هولندا، بعد أن اعتقله النظام السوري وعذبه بما مجموعه 18 عشر شهراً. كلمة عذّب لا تفي العنف الذي تعرض له مازن حقه، فهو دليل حيّ على “التوحش” والرغبة العمياء بالقمع وكم الأفواه وتهشيم الإنسان، ليتضح المعنى المأساوي لعبارة “لو تعرفي!”، إذ استنزف مازن عقله وجسده كي “يعرف” العالم. شهد مرات عدة في المحافل الدوليّة على وحشية النظام السوري مكرراً الكلمات ذتها، الذكريات ذاتها، التي رددها أمام صحافيين، وسياسيين، وفضوليين، ليكون نفسه شاهداً حياً على خراب الإنسانية ووحشية النظام في سوريا، وفي كل مرة يتحدث فيها، تلتهمه ذاكرته التي تحاول لو كيزن أن تسردها أمامنا وأمام العالم في الكتاب الصادر بعنوان” انس اسمك-مازن آل حمادة مذكرات مختف”. 

اكتشف مازن أننا نعيش في عالم مهزوم، إرادة التغيير الفرديّة بلا نفع في الحالة السوريّة، هي حلم من نوع ما، وإرادة النجاة لا تكمن بالإصرار والمثابرة في عالم يراقب فقط. وُثَّقَ كل شيء بحسب تعبير مازن، كل ما يريده العالم من أدلة موجود، هنا تبدو “لو تعرفي..!” عبارة ساخرة، فمن لم يعرف إلى الآن ما الذي حصل في سوريا؟

المُحيّر في حكاية مازن هو عودته عام 2021 إلى سوريا، إذ ضجت فجأة وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الصحافية بخبر اختفاء مازن، الذي ترك أوروبا، وعاد إلى “الجحيم” مرة ثانيّة ليختفي إلى الآن.  هناك الكثير من التفاصيل حول عودته ولحظة اختفائه، لكن كل هذا لا يهم. مازن قرر العودة إلى المُعتقل. لا نمتلك سلطة التحليل النفسي للتشكيك بصحته العقلية كما فعل كثيرون، لكن هل نحن أمام متلازمة الناجي بأقسى أشكالها؟ هل عجز عن تصديق حقيقة أنه حيّ و أقرانه موتى؟ لا نعرف، ولا توضح كلمات مازن المصرّ على الإدلاء بشهادته في كل مناسبة قراره هذا. لكن اليقين، هو أن عودة مازن علامة على العطب الذي أصابـ”ـنا”. 

الكتاب بحسب لو كيزن وعد تفي به أمام مازن وأسرته، إذ تخبرنا عن اللقاءات المتعددة معه لتدون حكايته، تلك التي يتخللها النسيان والتشويش والبكاء. هو “عينة” بحسب قوله، والعنف الذي تعرض له يهدد سرد حكاية خطية متماسكة كما نقرأ في الكتاب، الذي يبدو محاولةً لضبط الشهادة/ الحكاية ضمن منطق زمني، مع الحفاظ على ما قاله مازن، هو الذي ظن أن العالم سيتحرك إن “عرف” ما يحدث في سوريا. 

تضع لو كيزن شهادة مازن إلى جانب نصوص شارلوت ديلبو  1913-1985 (كاتبة فرنسية سجنت في أشوفيتز بين 1943-1945) وفارلام كالوموف 1907-1982 (كاتب وصحافي سجن في الغولاك الروسي بين 1937-1951) وبريمو ليفي (كيميائي وكاتب إيطالي قضى في أسر في أوشفيتز بين 1944-1945)، فمازن أجبر أن ينسى اسمه ويتحول إلى الرقم 1858، لكنه رفض، ومذ خرج من حفرة الجحيم، هو يتحدث ويخبر العالم عما رآه واختبره، فالشهادة واجب أخلاقي بحسب كلامه، حِملٌ لم يتخلّ عنه أبداً. 

 لن نكرر الوصف المثير للقشعريرة الذي يحويه الكتاب عن التعذيب و”فنونه”، ولن نكرر الشهادة التي سردها مازن عشرات المرات لعلّه يستطيع إنقاذ أهله وأبناء بلده. ولن نحاول التعامل مع الكتاب كـ”نص”، علماً أن غواية هذا الشأن لا يمكن إنكارها، فتقطّع كلام مازن، وذاكرته التي تومض وتختفي، والكلمات التي يستخدمها، التعابير المجازية والوصفيّة، النسيان كأداة قمعية وسردية، كل هذا، لن نخوض به. فلا جديد في ذلك سوى حذلقة أكاديميّة. خصوصاً أن مازن نفسه يؤكد أنه كرر الحكاية والكلمات ذاتها، لكن بعكس القارئ (أو أنا في هذه الحالة) لم يسقط في اللاجدوى واليأس، فبعد أن يحكي ويعبّر، يطلب أن يستلقي قليلاً، أن يرتاح، ليعاود السرد بعدها. 

في معنى الهزيمة 

يخبرنا مازن كيف شَهد في أنحاء العالم، صحيح أن النظام السوري “دمر ذاكرتنا” لكنه ما زال يحتفظ بكل المعاناة والألم، على رغم أنه متعب طوال الكتاب، لكنه رفض الهزيمة التي اعترف بها الكثير من السوريين بعد عام 2015، ولم يُصرَح عنها علناً إلا نادراً.  مازن، لم يعترف بهزيمة الثورة، وكأنه ما زال مُعتقلاً ينتظر أن يغادر قبو فرع الأمن ليتابع نشاطه. يخبرنا أنه في مخيم اللاجئين كان يحلم بأن يُعلق وتشد أطرافه كي يختفي الألم الذي يسكنه، لعله بعد ذلك يتمكن من المتابعة، فالثورة ما زالت تحافظ على زخمها بعيني مازن، وكأننا ما زلنا في الأشهر الأولى من ثورة 2011. 

اكتشف مازن أننا نعيش في عالم مهزوم، إرادة التغيير الفرديّة بلا نفع في الحالة السوريّة، هي حلم من نوع ما، وإرادة النجاة لا تكمن بالإصرار والمثابرة في عالم يراقب فقط. وُثَّقَ كل شيء بحسب تعبير مازن، كل ما يريده العالم من أدلة موجود، هنا تبدو “لو تعرفي..!” عبارة ساخرة، فمن لم يعرف إلى الآن ما الذي حصل في سوريا؟ مع ذلك مازن الذي استنزف ذكرياته، لم يتردد في الرد على رسالة أو سؤال، شهد على خراب العالم وأكاذيبه وأشار إليها وإلى نفسه كعلامة على هذا الخراب. مازن متعب، يريد الاستلقاء. 

آخر المعلومات عن مازن كما ترد في الكتاب وما نعرفه من وسائل التواصل الاجتماعي أنه اعتقل في مطار دمشق، ونقل إلى المخابرات الجويّة في دمشق، ذات المكان الذي انتهك إنسانيته، هناك أرادوا منه أن يشهد مرة أخرى على شاشة التلفزيون الرسميّ بأنه كاذب، هذا آخر ما وصلنا عنه. الآن هو مُختف، لا أثر لمازن ولا خبر عنه. 

أترنح خجولاً، محاولاً الفهم والتفسير، مفترضاً أن مازن رفض أن “يَنسى”، وأن يسعى في المنفى لبناء حياة جديدة هشة لتكون نجاته فيها، مازن كرر آلامه وأعاد سردها مراراً، وكأنه مازال هناك، في قبو في فرع الجويّة في دمشق، لم يغادره حتى حين تركه، ذاكرته توقفت هناك. أتحذلق أكثر وأقول أن ذاكرته قسمت إلى ما قبل الاعتقال، وأثناء الاعتقال، أما ما بعده فليس إلا إعادة سرد لما مضى، وكأنه يقول، إلام يحتاج العالم أكثر من جسدي المعذّب وكلماتي ليصدق أننا نموت؟ لا نعرف الجواب إلى الآن. وتبقى عبارة “لو تعرفي..!” تتكرر على ألسنتنا جميعاً، ربما لو عرفوا، لما حصل ما حصل. 

“لو تعرفي..!” تلك التي يكررها مازن، حولت الكثير من النتاج السوري، أدباً وشهادةً وفناً إلى خطاب موجه إلى “الآخر” الغربي، لعله يمتلك خلاصنا، أو يوظف قدرته لإيقاف القتل والعنف. “كلنا” نكتب، نحن الذين نجونا، لا لأجل من هم في الداخل، ولا لأسباب جمالية أو فنية، بل لأجلهم، أولئك الذين يترجمون كلماتنا وأعمالنا ويعرضونها لتدخل تاريخ العذاب والنضال العالمي. نكتب “كي يعرفوا”، نوثق “كي يرى العالم”، وكي نخلق “سرديّة” أو صيغة سحرية ما يمكن عبرها أن يتغير شيء، لكن، الحكاية السورية الآن جزء من التاريخ، وما تبقى صراعات سياسيّة أو صراع لأجل عدالة مؤجلة. 

تنهي غارانس لو كيزن الكتاب بحديث عن بريمو ليفي، الذي انتحر عام 1987، وتقتبس الفقرة الأخيرة من كتابه “الهدنة” الصادر عام 1963، الذي يخبرنا عن حلم راوده، إذ يرى نفسه مع أسرته على طاولة العشاء، ثم فجأة يسقط في عدم يفقد إثره كل شيء، الأسرة، الذاكرة، الكلمات، يقول، “أنا مرة أخرى في المخيم، ولا شيء مررت به حقيقي سوى المخيّم، الأسرة، الطبيعة المزهرة، المنزل، لم تكن إلا إجازة، وهم خلقته الحواس، حلم”. 

تنهي لو كيزن الكتاب بكلمات على لسان مازن، تبدو أقرب للشعر، نترجمها هنا إلى العربيّة الفصيحة بأسلوب تقطيعها في الكتاب، لا نعلم كيف نطقها مازن بلهجته، ولا تواترها، لكن هذا ما قاله: 

أريد أن أعود إلى منزلي. 

اكتشفت العالم. اكتشفت العالم وأكاذيبه ورأيتها. حين أكون وحيداً، أفكر في ما مضى، بالحزن والأسى. أعود إلى ذكرياتي مطمئناً محبوساً داخل ذاتي. 

أريد العودة إلى سوريا، أريد رؤية عائلتي، أريد أن أعيش. 

حين أكون وحيداً، أعود إلى سوريا بأفكاري، أجد مشهداً طبيعياً، الفرات. الصحراء. الرغيف المخبوز على السطح. رائحة اللحم المشوي. 

أتخيل نفسي أمشي على حافة النهر. 

أمضي السهرة مع أخوتي على الجسر 

جالساً في الصحراء. 

أريد العودة إلى منزلي 

بعدها 

سأذهب لأتمشى في الريف.