fbpx

التشهير بمنة شلبي وانتهاك خصوصيتها:
هل آن وقت قوننة تداول القنب في مصر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حتى وقت كتابة المقال، لم تطل علينا منة شلبي عبر أي نافذة ولم تدلِ بأي تصريح تعليقاً على الواقعة… لعلها بخير، ولعلها تجاوزت، ولعلها تطل علينا قريباً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تم توقيف الفنانة المصرية منة شلبي بمطار القاهرة الدولي أثناء عودتها من الولايات المتحدة الأميركية، على زعم ضبط مواد يشتبه في كونها من نبات القنب المخدر (المستخدم في إنتاج الحشيش والماريوانا) معها… لا أعلم إن كانت مرًّت ساعات أم دقائق قبل انتشار الخبر في الفضاء الإلكتروني وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، مصحوباً بصورة واضحة من جواز السفر الخاص بمنة الله فلان الفلاني شلبي، القاطنة في المكان الفلاني بالجيزة وتاريخ ميلادها في السنة الفلانية، إضافة إلى صور، مأخوذة عن قرب، للمضبوطات المزعومة.

في التحقيق أمام النيابة، أنكرت منة صلتها بالمضبوطات المعروضة عليها… وأمرت النيابة العامة بإرسال المواد المضبوطة بحوزتها إلى مصلحة الطب الشرعي لفحصها وبيان طبيعتها ومدى احتوائها على أي من المواد المخدرة، وعليه، تم إخلاء سبيل منة شلبي بعد استجوابها وسداد ضمان مالي وقدره 50 ألف جنيه مصري (نحو ألفي دولار أميركي).

في فيديو أعدته قناة “القاهرة 24″، صرَّح نقيب الممثلين الفنان أشرف زكي، أن ما حدث مع الفنانة منة شلبي يعتبر تشهيراً وانتهاكاً للخصوصية، مؤكداً في الوقت ذاته احترامه قرارات النيابة، ودعا إلى الحفاظ على العلاقة الطيبة مع الفنانين. وأطلق فنانون وشخصيات عامة حملات تضامن واسعة مع الفنانة منة شلبي ضد الانتهاكات التي تعرضت لها.

إنكار منة شلبي صلتها بالمضبوطات يُلزمنا بالتحفظ على أية رواية مختلفة إلى حين انتهاء التحقيقات، ولكنه لا يمنعنا من سؤال أنفسنا: ماذا لو كانت هذه المواد فعلاً تخص منة شلبي؟ وماذا لو جاء تقرير المعمل الجنائي ليؤكد أن العينات التي تم فحصها هي لنبات القنب المخدر أو من مستخلصاته؟ 

في كانون الثاني/ يناير 2019 أوصت منظمة الصحة العالمية WHO بحذف نبات القنب والحشيش من فئة العقاقير الأكثر خطورة المدرجة في الجدول الرابع من الاتفاقية الوحيدة للمخدرات 1961، وهو الجدول الذي يضم المخدرات والعقاقير الثقيلة كالهيروين وغيره  من المشتقات الأفيونية. وبالفعل قامت لجنة المخدرات التابعة للأمم المتحدة CND في 2020 بالتصويت لمصلحة هذه التوصية، ما فتح مجالاً للكثير من الدول لتقنين تداول واستخدام نبات القنب ومشتقاته ومستخلصاته.

لقوننة القنب فوائد عدة استندت إليها الدول التي طبقت التجربة. القوننة تتيح لنا حماية القُصَّر والمراهقين من الاستخدام في سن مبكرة.

تعد الخطوة التي قامت بها الأمم المتحدة من أهم الخطوات التي اتُّخذت في هذا الصدد، لكنها ليست الأولى… الطريق إلى إلغاء تجريم استخدام القنب بدأ في سبيعينات القرن الماضي، عند ملاحظة الأثر الطبي للقنب في تسكين الألم والشعور بالراحة لدى بعض مرضى السرطان. وعام 1972 فرَّقت هولندا في جدولين، بين درجتين من المخدر بحسب الخطورة.. وبرغم أنها لم تكن قد ألغت تجريمه في ذلك الوقت، إلا أنها بدأت في اتخاذ إجراءات تسامحية، بل وتنظيمية في ما يتعلق بالحيازة والتعاطي. 

وبالتدريج امتدت حركة تنظيم استهلاك القنب إلى الكثير من الدول، خصوصاً فيما يتعلق بالاستهلاك الطبي… ومع الوقت ظهرت عشرات الأبحاث التي تعدد الآثار الإيجابية لنبات القنب وبالطبع عشرات الأبحاث أيضاً عن الآثار الإدمانية. لذلك تتفاوت التشريعات في طبيعة تنظيمها للأمر.. فمثلاً عام 2013 أصبحت الأوروجواي أول دولة بالعالم تقنن انتاج وتوزيع وتجارة واستخدام القنب بشكل كامل للأغراض الترفيهية وليس العلاجية فقط، تلتها كندا في 2018، ودول أخرى مثل تايلاند وجنوب أفريقيا والمكسيك ومالطة والعديد من الولايات بالولايات المتحدة الأمريكية.

الآن أكثر من 50 دولة حول العالم تتبنى تشريعات تنظيمية لحيازة واستهلاك القنب، تتفاوت في الإباحة بحسب نسب الحيازة وطبيعة الاستخدام.. ولكن حتى الدول التي ما زالت تجرم حيازة واستخدام القنب، لجأ الكثير منها إلى سياسات تساهلية في التعامل مع الحالات المضبوطة، بين الإنذار والغرامة الفورية والتطنيش والإجراءات الطبية الخفيفة.

ومصر ليست استثناءً. أذكر جيداً في النصف الأخير من التسعينات، وبرغم أني لم أكن قد تجاوزت العاشرة حينها، أن حَكَى والدي بعد عودته من مؤتمر لمناقشة آثار المخدرات وطرق مكافحتها، كان هو مدعيّاً إليه بصفته رجل دين، أن مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، أو مسؤولاً شُرَطِيّاً كبيراً بالإدارة، ألقى كلمة وقال فيها إن الإدارة تعلم علم اليقين أن الفنان فاروق الفيشاوي يتعاطى المخدرات بكثافة، ومع ذلك لا تبادر الإدارة أبداً بالقبض عليه لاعتبارات عدة، منها بالطبع أنه فنان كبير ومهم، ولكن الأهم أن الهدف الحقيقي لمنظومة مكافحة المخدرات ليس مطاردة الناس والقبض عليهم بقدر ما هو حصار الآثار السلبية والمدمرة للإدمان. أصبح بإمكاني سرد هذه القصة، لأن فاروق الفيشاوي نفسه أقر في 2015 بتعاطيه للمخدرات في حوار له مع قناة “الحياة”…

فاروق الفيشاوى ليس الحالة الوحيدة؛ عُرف عن الكثير من الفنانين والمبدعين وأحياناً السياسيين في مصر استهلاكهم للقنب.. وفي كتابه “في حب نجيب محفوظ” ذكر رجاء النقاش أن محفوظ أخبره أنه كان يستخدم الحشيش يومياً، قبل أن يقلع عنه لاحقاً خوفاً من القبض عليه.. صحيح أن النظام المصري لم يكن مسالماً طوال الوقت مع مستهلكي القنب من الفنانين والشخصيات العامة، فهناك حوادث تم فيها القبض على بعضهم وحبسهم، كما في واقعتي إلقاء القبض على الفنان سعيد صالح في عامي 1991 و1995، وحبسه لمدة سنة في المرة الثانية، مع تبرئة بقية الفنانين الذين كانوا معه على ذمة نفس القضية، وهو ما يعزوه البعض إلى عدد من مواقف سعيد صالح السياسية.. إلا أن الخط العام للنظام كان التساهل مع قضايا الحيازة والتعاطي…

التساهل ليس فقط في توفير مساحات إضافية للفنانين والمبدعين، بل جرت العادة أن تتساهل الأجهزة المعنية في مصر مع استخدام نبات القنب بشكل عام بغض النظر عن هوية مستهلكيه، وذلك مقابل التشدد في التصدي للبودرة والمركبات الكيميائية الثقيلة… هذا التساهل “العلمي” مع استهلاك القنب هو سُنَّة قانونية دولية كما أوضحنا، فرضها الواقع والاعتبارات الطبية والإنسانية.

لقوننة القنب فوائد عدة استندت إليها الدول التي طبقت التجربة. القوننة تتيح لنا حماية القُصَّر والمراهقين من الاستخدام في سن مبكرة، لأن عملية الشراء والتعاطي ستخضع للرقابة، ولن يُسمح بطبيعة الحال ببيع هذه المواد لمن هم دون السن القانوني المقترح، وبالتالي حمايتهم في مرحلة حساسة من أعمارهم، على عكس ما يحدث في الأسواق السوداء التي لا تبالي بأعمار المستهلكين.

 أيضاً سيصبح بالإمكان التحكم في جودة المنتجات وتنقيتها من المركبات الكيميائية المؤذية التي تُغرق الأسواق السوداء وتهدد صحة المستخدمين المقدرين بالملايين.. وسيساهم في القضاء على الكثير من النشاطات الإجرامية التي تنمو بجوار الأنشطة الظلامية، لكنها تختفي في النور.

وبالتأكيد ستتدفق علينا البيانات الإحصائية عن أنواع ومعدلات وطبيعة وأسباب الاستهلاك، وأيضاً بيانات كَميَّة ونوعية عن الفئات المستهلكة نفسها، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الفهم والتحكم والسيطرة على الآثار السلبية لاستهلاك القنب.

ناهيك بتخفيف الألم عن مئات الآلاف من مرضى السرطان وغيرهم من أصحاب الأمراض المزمنة والمؤلمة ومرضى الاكتئاب وبعض التشخيصات النفسية الأخرى… وبلا شك هناك فوائد اقتصادية عدة ستعود على الدولة من عوائد الضرائب وغيرها.

إذا لم نتمكن الآن من قوننة بيع وشراء واستخدام نبات القنب بمشتقاته ومستخلصاته من أجل الاستخدامات الطبية والعلاجية والتسكينية والاستشفائية والإبداعية والترفيهية والسياحية، على الأقل دعونا لا نجرم حيازته بقصد الاستهلاك، فهؤلاء الذين نجرجرهم على أقسام البوليس، هم إما مرضى أو متألمون أو متعافون أو فنانون أو مبدعون أو هاربون للحظات من واقعهم “المنيِّل” أو – في أكثر النسخ رفاهية- هم مجرد مستمتعون دون أذى. 

إذا تمسكنا بضرورة اتخاذ إجراء ضد مستخدمي القنب، فليكن هذا الإجراء هو تقديم استشارة طبية مثلاً، وليس العقاب.وإذا أصرينا على العقاب، فليكن العقاب إنذاراً أو غرامة فورية بسيطة، وليس الحبس والبهدلة والإذلال.

آن الأوان لنتبنى تشريعات أكثر رحابة وإنسانية وفهماً واتساقاً مع الواقع. نريد لأنفسنا ما لغيرنا، نريد لشعوبنا أن يحظوا بالظروف والبيئات التي يزدهر فيها غيرنا، نريد عدالة في المنافسة، نتطلع إلى الحرية، بما فيها حرية التجربة والإفصاح، دون أن ندفع الثمن من أعمارنا وكرامتنا الإنسانية…

وبالعودة إلى واقعة إلقاء القبض على منة شلبي، وبفرض أن المضبوطات كانت لها بالفعل، إلا أن هناك خصوصية قانونية لهذه الحالة تحديداً. فبحسب المادة الثالثة من قانون العقوبات المصري، لا يُجرَّم الفعل الذي وقع خارج القطر المصري، ولو كان مجرَّماً في مصر، طالما أن القانون المنظِّم في الخارج لم يكن يجرم هذا الفعل وقت حدوثه.

والتوصيف القانوني المقترح في حالة ثبوت حيازة منة شلبي للمواد المضبوطة، هو “حيازة بغرض التعاطي”، فنحن نعلم بطبيعة الحال، أنه حتى ولو كانت المضبوطات تخص منة شلبي، إلا أنها لا تعتزم أن تربح 50 دولاراً من عملية بيعها في السوق المصري، فالمضبوطات ليست بغرض الاتجار، ولا هي مهربة، والحيازة بغرض التعاطي قد وقعت في دولة يبيح قانونها هذا الفعل، وبالتالي فالواقعة غير معاقب عليها بحسب القانون المصري. الإجراء القانوني السليم إذاً، ليس عقاب منة شلبي على الواقعة، ولكن منع دخول المواد للأراضي المصرية على أقصى تقدير.

لكل هذه الأسباب، أثارت واقعة القبض على منة شلبي وانتهاك خصوصيتها، الكثير من الأسئلة والتكهنات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه الإجراءات التعسفية، وهو ما عبر عنه رواد منصات التواصل الاجتماعي عبر منشورات وتغريدات. البعض مثلاً توقع أن ما حدث كان إجراءً عقابياً لها على خلفية لقائها ببعض “المغضوب عليهم” سياسياً أثناء سفرها بالخارج مثل الفنان عمرو واكد وخالد أبو النجا. بالطبع لم يخل الأمر من الإفيهات والكوميكسات؛ فاستحضر البعض مقارنات ساخرة بين يقظة سلطات المطار على غِرامات القنب في حقيبة منة شلبي، وبين غفلتهم عن تهريب قطع أثرية عملاقة إلى خارج البلاد!

منة شلبي فنانة استثنائية تحظى بمكانة خاصة لدى الجمهور العربي ككل؛ على المستوى الفني، حلَّقت منة شلبي في آفاقٍ جديدة بأداء صادق وموهبة عميقة والتزام مهني نادر، الأمر الذي أهلها لتكون أول ممثلة مصرية وعربية يتم ترشيحها للحصول على جائزة الإيمي الرفيعة، وهي المقابل التليفزيوني لجائزة الأوسكار السينمائية، وذلك عن دورها في مسلسل “كل أسبوع يوم جمعة”. وحتى على المستوى الإنساني، يكفي الالتفاف الصادق وتظاهرة الحب الجارف التي أحاطت بها خلال الأيام القليلة الماضية دعماً لها وتهويناً عليها… 

حتى وقت كتابة المقال، لم تطل علينا منة شلبي عبر أي نافذة ولم تدلِ بأي تصريح تعليقاً على الواقعة… لعلها بخير، ولعلها تجاوزت، ولعلها تطل علينا قريباً…

ربما من فوائد هذه الواقعة، أن أتاحت لنا الفرصة لفتح هذا الملف العالق حول قوننة وتنظيم تعاطي القنب بأشكاله المختلفة في مصر ودول عربية أخرى ربما.