fbpx

محمد أبو الغيط… الموت سندعه للموتى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لسنا محمد أبو الغيط، بكل تأكيد، لكن وجوده يصلح أن يكون قبساً لنا، تذكيرا بأن نسعى على الأقل لأن نستلهم شيئاً من تلك الحياة، أن نجد في قوة إرادته المعنى. محمد حي في قلوبنا بأثره العظيم، ما الموت، السخيف، التافه، فسندعه للموتى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“هذا التعاطف هو ما يحميني ويحمي الجميع.

الأصل ألا نؤلم بعضنا.

أحلم بوطن أكثر رقة، لا أكثر قوة، أتمنى أن يكون السياسيون حول العالم أكثر رحمة، لا “ذوو هيبة.”

 محمد أبو الغيط، في سلسلة تدوينات بدأها بعد تشخيصه بمرض السرطان.


عاش المسيح على الأرض 33 عاماً، مات محمد أبو الغيط في الأربعة والثلاثين.

ليس مسيحاً بالطبع، سامحوني على التشبيه، ولا يحتاج أبو الغيط مسحة ملائكية، ما أنجزه كان كافياً، صلباً وقريباً، لا يُحكى عنه عبر أسفار ومعجزات، لقد رأيناه بأعيننا، شهدناه لحظة بلحظة، بدءاً من لحظة التفجر والتحول بعد الثورة، وهو يطلق صرخته التي صارت شعارا “الفقراء أولا يا أولاد الكلب“.

كانت التدوينة غرضها أن تحدد البوصلة الضائعة بعد الثورة، وأثارت نقاشا وجدلا، ما بين الموافقة والرفض، لكن تلك الأصوات ارتكزت في موافقتها أو رفضها إلى شعاره الصلب المنحاز للفقراء. وقد كتب تلك التدوينة، كي نتذكر الشهداء من الفقراء الذين استبعدوا من الاحتفاء، وفضلنا عليهم صوراً لشهداء الطبقة الوسطى تحت عنوان “الورد اللي فتح في جناين مصر”، والتي صارت الصورة الأيقونية للثورة.

يقول محمد معترضاً: “على كل حال هم لم يهتموا طوال حياتهم بالورد، لأنهم اهتموا بالأهم: الخبز”.

تضحيات الفقراء: دماء منسية وخبز منسي. لا نجاة لأحد دون أن ينجو “الفقراء أولا يا ولاد الكلب”، وقد بدأ أبو الغيط حياته الصحفية بتدوينة تذكرنا بالجوهري والمنسي.

التدوينة غيرت من مسار الطبيب الشاب الذي ولد في محافظة أسيوط عام 1988، لينخرط بعدها في العمل الصحفي، من كاتب مقالات هامة في كبرى الصحف المصرية كالشروق والمصري اليوم، إلى معد برامج، إلى صاحب سلسلة من تحقيقات استقصائية عالمية عابرة للحدود من بينها:

التحقيق المتلفز، المستخدم الأخير، الذي بث في قناة “دويتشه فيلله” العربية في نوفمبر 2018، مترجماً إلى الألمانية والأسبانية، وكشف فيه كيف انتهكت عشر دول غربية عقود ثنائية لبيع الأسلحة؛ ما أدى إلى وصولها إلى أطراف الصراع في اليمن، رغم خرق تلك العقود لقوانين دولية. فاز محمد عن تحقيقه، بجائزة ريكاردو أورتيجا للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة، وهي جائزة تنافس عليها 14 صحفياً مرموقاً من جنسيات مختلفة.

وكذلك ساهم في تقرير استقصائي لصالح CNN حول استغلال روسيا لمناجم الذهب في السودان لتمويل حربها في أوكرانيا، وقد فعلها أثناء خضوعه لجلستين من العلاجات القاسية والعلاج الكيميائي.

ثم فاز بجائزة فيتيسوف للصحافة عن تقرير متعلق بالشبكة المالية لقوات الدعم السريع السودانية، وساهم في تقرير استقصائي شارك فيه أكثر من 160 صحفياً حول العالم، وعرف باسم “أسرار سويسرية”، الذي قام على تسريبات خاصة ببيانات حسابات مصرفية من البنك السويسري العملاق كريديه سويس، معظم العملاء كانوا يحتلون مناصب كبيرة في أجهزة المخابرات العامة في دولهم، كعمر سليمان في مصر، ورجال طغاة ما قبل الربيع العربي: حسني مبارك، علي عبد الله صالح ومعمر القذافي، وكذلك بشار الأسد.

ومن قبلها فاز بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن مقال “موسم الموتى الأحياء” المنشور في يناير 2014 بـموقع جريدة الشروق حيث يصف الصدامات العنيفة بين مؤيدي الإخوان ومعارضيهم، في المرحلة التي سبقت الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، وينتقد ذهنية “الانتماء الجماعي الأعمى” التي دفعت بالمصريين من الطرفين إلى اللجوء لأقصى درجات العنف.

وفاز بجائزة هيكل عن تحقيقاته حول انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا واليمن.

11 عاماً فقط احتاجها ليصنع مثل هذا الإرث.

ما الذي كان يحركه؟

البوصلة نفسها التي كتب بها التدوينة التي غيرت مساره، مطاردة عبر الكلمة لـ”أولاد الكلب” الذين أكلوا خبز الفقراء وسكروا بنبيذ دمائهم.

سؤال الألم

ليس مسيحاً، لكننا أيضا رأيناه وهو يصعد بشجاعة على صليب المرض، يواجهه ببسالة نادرة، لم ينس حتى أن يطلق سؤالاً شبيها بسؤال المسيح: “إلهي لماذا تركتني”.

أنا فقط مشوش، أكتب تلك الكلمات وأنا أبكي.

أحاول فقط أن أتبين عبر غشاوة من غيوم تحتشد بالعينين والصدر، كآبة العجز أمام الموت تشبيهاً، يقرب ذلك التأثير الذي يملكه أبو الغيط، عمر قصير وأثر كبير، رجل يتجاوز الخصومة والاستقطاب عبر الهدوء، الثقة، العمل، المحبة، الابتسامة الدائمة، مد يد العون، الجدية، متمسكاً بصفة لن يدعو إليها إلا من يملك صلابة استثنائية: “التغافل عن الشر الصغير”، بحثاً عن ماذا؟

الفهم والمحبة.

يقرب الفهم المسافات الشاسعة بين الفرقاء، تُوحد المحبة البشر، وبموت أبو الغيط يتوحد حتى الخصوم والفرقاء السياسيين، ثم الصامتين العاجزين داخل مصر أو فرقاء شتات النظام السياسي.

يتوحدون على ماذا؟

على محبته، قبل أن ينتبهوا لدقائق أن خلف تلك المحبة هم يتوحدون على معنى، تذكير أن تلك الصفات هي ما نحتاجه، أن الطريق الذي تركه إشارة ما، وأن الموت، السافل، القاتل، قد اختاره، وأن كل ما نملكه إزاء ذلك الموت، كل موت، هو اعتناق ذلك المعنى.

تقول سلمى حسين الباحثة والصحفية الاقتصادية في وداع أبو الغيط: “ربنا يصبر كل من مس مساره بأثر لا يزول”.

لا تحتاج أن تكون صديق عمر ل أبو الغيط، كي يترك فيك الأثر البالغ.

**

قبل أن يذهب إلى منفاه إلى لندن في عام 2015 حيث عمل في قنوات العربي الجديد، كمعد للبرامج، كان أبو الغيط صحفيا في جريدة الشروق المصرية، يقول أحد زملائه الذين عملوا معه في تلك الفترة، عصام شاهين:

أبو الغيط كان العلّامة في الشروق، معاه موبايل أد ايده مرتين ماسكه ليل نهار، عامل زي الصنايعي الوحيد اللي فاهم في الحاجة، كل حاجة نعطل فيها نروحله، تليفونات مصادر، أفكار تقارير، مراجعة مقالات، اقتراح لقصص، يفتح الموبايل ويحل كل حاجة في لحظة!

بالمناسبة دي، جمعني حديث مع أبو الغيط وأنا أراجع الشات بينا، وافتكرت من كام سنة، قالي إنه رغم كل ما عمله لكنه “عنده غصة في الحلق إنه منضمش لنقابة الصحفيين، رغم إن الموضوع كان خلاص على وشك”.

يطالب عصام، بأن يحصل أبو الغيط على العضوية شرفياً، كنوع من التكريم.

تذكر صفحة ” ما تصدقش” المتخصصة في كشف الأخبار والمعلومات المضللة عن دور أبو الغيط في تأسيس الصفحة وإشرافه على فريق التحرير ومساهمته في تطوير منهجية العمل وتدريب الزملاء.

وتذكر صفحة اتكلمي، وهي مبادرة نسوية لدعم ضحايا العنف بكل أشكاله عن دور أبو الغيط في دعم الفتيات القاصرات الذين اغتصبهن الطبيب مايكل فهمي الذي حصل لاحقا على حكم بالمؤبد، في وقت خشي فيه عدد كبير من الناس الكتابة عن القضية.

تنعي مبادرة العمل للأمل محمد أبو الغيط وتنشر صورة له ضاحكاً مع أطفال مخيم البيدر للاجئين السوريين في البقاع في لبنان في يوليو عام 2015.

يقول الصحفي تامر أبو عرب عن رغبة محمد في أن يعود إلى مصر:

“محمد أبو الغيط كان نفسه ينزل مصر، حتى من قبل المرض كان مجهز قايمة مكتوبة بأسماء الناس اللي هيقابلهم والأماكن اللي هيروحها والمطاعم اللي هياكل فيها، كان مستني بس كلمة تطمنه وتقول له إنه هيكون في أمان لما يزور بلده، استنى الكلمة دي سنين ولما جت كان للأسف فات الأوان. محمد – زي كتير غيره – معملش حاجة غلط، صحفي محترف ومهني عمل شغله بكل موضوعية من غير إساءة لحد ولا تجاوز في حق حد، بيحب بلده ومنحاز لناسها وبيتكلم بلسانهم زي ما ده بيحصل بكل بساطة في كل حتة في الدنيا، ليه تمن ده يكون ترويعه هو وأسرته وحرمانه من أهله وحرمانهم منه سنين؟

أنا مكسوف من محمد، كل البلد لازم تكون مكسوفة من مشهد دفنه في أرض غريبة”.

صحفي مصري يضاهي الصحفيين العالميين وينافسهم، هذا ما حلمت به الثورة المغدورة ووعدت به: النباهة والذكاء والتفوق.

أفضل الصحفيين المصريين، في منافي اختيارية خارج البلاد.

لو بقى في مصر، لكان مكانه المعتقل، بأي تهمة كانت.

لم يكن المنفى اختيارياً، وقد شهدت أثناء عملي في صحيفة مصرية مستقلة شهيرة والتي كانت تضم كوكبة مماثلة من ألمع الصحفيين الشباب وكيف كانت الصحيفة تعتبرهم مستقبلها، ثم امتثلت الجريدة في النهاية لتهديدات السلطة، وأُجبر هؤلاء الصحفيين على الاستقالة والسفر خارج مصر.

من يخاف النباهة والذكاء؟

تخبرنا بعض صفحات اللجان الإلكترونية المشبوهة أن محمد أبو الغيط كان صحفياً إخوانياً، ثم تهيل عليه التراب.

كان أبو الغيط بحكم أن عائلته إخوانية منتم إليهم في بداياته، كعدد كبير من المدونين والصحفيين المصريين الذين مروا في مراهقتهم وشبابهم على تنظيم الإخوان الذي كان حضوره قوياً في الجامعات والجوامع وكافة الأنشطة الخيرية بتفاهم مع نظام مبارك والسادات من قبله الذي سمح للتيارات الإسلامية بالتغلغل، من أجل إضعاف اليسار ومنع وجود تيارات مدنية فاعلة.

لكن أبو الغيط ببساطة لم يعد إخوانياً، وتجاوز ذلك الأمر عبر التفكير والمراجعة مبكراً. ربما فعلها كصحفي يطرح الأسئلة ويتحرى الحقيقة، ولم يتورط يوماً فيما تفعله المعارضة الإخوانية في الخارج، والتي يشبه إعلامها إعلام حرب، فيخلط بين خصومته مع النظام والدعوة للخراب الذي سيطالنا كشعب قبل أن يطال النظام. يسيء إعلام الإخوان خارج مصر للمعارضين في الخارج قبل المؤيدين، ويفشل في تحقيق أي أثر يذكر بسبب ظلام الأحقاد الذي لا يعادله في العمى إلا إعلام اللجان الإلكترونية لمؤيدي النظام. موسم الموتى الأحياء، كما وصفهم محمد أبو الغيط.

ما قدمه محمد كان ينتمي إلى الصحافة كمهنة، هدفها الحقيقة لا الحرب، الفهم لا الصراخ أو المغالطة، تتحرى الصدق وتكره الكذب، بل أن وظيفتها هي أن تفند الكذب، حتى لو لم يكن ذلك في صف معركتها.

 قبل عام قدم أبو الغيط عبر برنامج بودكاست 11، واحد من أفضل البرنامج الحوارية مع عدد من رموز ثورة يناير من مفكرين وسياسيين وصحفيين، كخالد فهمي وعمرو حمزاوي وبلال فضل وعز الدين شكري، ورغم أن أغلبهم يعيش خارج مصر، إلا أن هدف أبو الغيط كان عقلانياً ناضجاً، لم يكن يبحث عن هيستيريا ضد النظام الذي طرده، وطرد أغلب من حاورهم، كان هدفه تقديم مراجعة لأخطاء ثورة يناير، ومناقشة هادئة حول المستقبل والتصورات السلمية للتحول الديمقراطي.

لا تشتمه اللجان الإلكترونية فقط، بل أيضاً عدد من الصفحات الإخوانية التي تتهمه بالنقيض أنه ليبرالي.

لا يكره محمد أبو الغيط، إلا من لا يملك في قلبه سوى الغلظة والعتمة.

من يخاف النباهة والذكاء؟

من يخاف الضوء؟

فقط من لا يرى نفسه قوياً إلا عبر بث الظلام، وكذلك من لا يجيد الحياة إلا في الظلام. الموتى الأحياء.

يزداد شغفي بنباتاتي وكذلك تزداد آلامي..

أبنائي الخضر

كدت أن أرفض الكتابة عن أبو الغيط بعد أن تأكد خبر صعوده إلى الضوء، منعت نفسي من النظر إلى دفتر العزاء الكبير الذي تحول إليه التايم لاين على فيسبوك وتويتر، كأني لو خدعت الألم سيمر. لم أعلق، لم أسع حتى للبحث عن كلمات، في منتصف اليوم، استعرت كلمات الآخرين.

كنت قد كتبت قبل شهر ونصف من صعوده إلى الضوء مقالاً عنه، بعد أن قرأت تدوينته “سؤال الألم” ضمن سلسلة تدوينات كتبها بعد تشخيصه كمصاب بمرض السرطان. تحدث فيها عن هذا المرض كأنما يواجهه على أرض يفهمها، أرض لا مكان فيها للكذب، بل تحري الحقيقة، أرض قوته الخارقة. فحص محمد المرض بعين الصحفي الذي طالما كانه، والذي يجمع بين الحكاية واللغة الشاعرية، والذي يستند في كل حرف منه إلى معلومة. 

وفي تدوينة سؤال الألم تحديداً، تبين لي أنه لم يكن يكتب لنفسه بل لنا.

كان النص واحداً من تلك النصوص الإنسانية الكبيرة في تأثيرها، الملهمة والمهمة والقابلة للخلود، للقراءة في أي زمن ومكان وبمعزل عن الحدث الذي حركه، لأنه في الأساس مساءلة لمعنى الألم الإنساني في خصوصيته وعمومه، دعوة لفهم آلام الآخرين مهما كانت ضخامة آلامنا، ربما لأنه السبيل الوحيد لتخفيفها.

حين كتبت مقالي قبل غيابه، كنت متأثراً بشجاعته، أشعر بأن شيئا ماً تغير فيّ لن يجعلني الشخص نفسه الذي كنته قبل قراءة تلك الكتابة الفذة، ولم يكن ذلك شعوري وحدي، لقد تسرب ذلك الشعور نحو كل من قرأ تلك النصوص. لكن عندما علمت بالخبر، لم أكتب حتى حرفاً واحداً على حساباتي على فيسبوك وتويتر، انتابني الشك في المعنى، في تفاهة الكلمات أمام الموت السافل، أن الكلمات لن تصف ما يعنيه لنا موته. تلبّسني ما حذّر منه أبو الغيط: العدم.

يؤمن محمد بالكلمات يقول عن الكتابة:

“أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى منتصبة من بعدي؟.. الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ 14 مليار سنة.

أعرف أني مهما عشت فإن حياتي، والعالم كله، كذرة غبار لا تُرى على شاطئ ذلك الكون الفسيح. لكن الكتابة قد تجعل ذرتي ألمع بين باقي الذرات على الأقل.. هذه صيحتي: محمد أبو الغيط مرَّ من هنا!”.

تلك التدوينات الملهمة سيضمها كتاب سيصدر قريبا عن دار الشروق من تحرير صديقه الصحفي أحمد سمير تحت عنوان “أنا قادم أيها الضوء”.

الآن، أكتب عنك يا محمد من جديد، وأبكي.

**

“أرجو منكم جميعاً، بحق من كان لي عنده لحظة ود، أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها (توفيت قبل عامين بالسرطان أيضاً)، أماكن كثيرة خالية على مائدة عيدها، فليعد لها واحد على الأقل”.

كانت تلك هي آخر أمنيات محمد أبو الغيط، أن تفرج السلطات المصرية عن والد زوجته المعتقل الذي يقضي عامه العاشر داخل السجن بشكل تعسفي. فقدت إسراء زوجة محمد والدتها بمرض السرطان، ثم زوجها.

وكن الدكتور السيد حسن شهاب الدين، والد إسراء، قد شغل سابقًا منصب عميد كلية الهندسة بجامعة حلوان، قد اعتقل في شهر أيلول/سبتمبر عام 2013 من مطار القاهرة أثناء سفره لدولة الإمارات، ليحكم عليه بالسجن 25 سنة في القضية رقم 56460 لسنة 2013 والمعروفة بقضية (الهروب من سجن وادي النطرون).

لاحقًا بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2021 أصدرت محكمة النقض حكمًا ببراءته، ولكن عوضاً عن الإفراج عنه أعادت السلطات تدويره على ذمة القضية رقم 786 لسنة 2020.

حرمته وزارة الداخلية هو وأسرته من حقه في الزيارة داخل سجن العقرب منذ شهر حزيران/يونيو 2015 وحتى نقله من السجن.

**

لا يوجد دليل أن جيلنا هو أكثر حساسية وذكاء من الأجيال السابقة، إذا ما نحينا الغرور وجابهنا الحقيقة بوضوح، إذ نالت الأجيال السابقة على الأقل تعليما أعمق، أنقذهم فيها على الأقل بقايا الإيمان بالمعنى ووضوحه، أما نحن فمطحنة مبارك التي تربينا تحت رحاها ساكنة في جذور كل ما نظنه مثمراً بحيث تترك تشوها في كل إنجاز، وفسادا في كل محاولة للتحرر، وتشويشا لكل نظرة وتسميما للحواس. لكن إذا كنا لا نملك دليلا، فإنما نملك محمد أبو الغيط، لأنه يمتلك الحساسية والذكاء، فيمكن لنا أن نقول إننا أيضا حساسون وأذكياء، يمكن لنا أن نحتمي بمظلة أنه كان بيننا من شمس الحاضر والماضي الجحيمية التي تفضح عورات أنفسنا مقارنة بكل ما طمحنا إليه وحلمنا به.

رغم المرض، دفع محمد بكل ما يملكه من أصالة ومثابرة وشجاعة قلب وإرادة نادرة، سياج حياته إلى ما بعد حدودها القصوى، حيث لا حدّ لعمق الوجود والتجربة، وهذا درس من ألف، درس ثمين لنا عن الحياة ومعناها، من شخص تمكن طيلة حياته من الاتصال الدائم بجوهر حقيقته العميقة، عيش حياة غير منقوصة أو زائفة، لم تضطر يوماً إلى توسل الحب من شيء غير تلك الحقيقة.

لسنا محمد أبو الغيط، بكل تأكيد، لكن وجوده يصلح أن يكون قبساً لنا، تذكيرا بأن نسعى على الأقل لأن نستلهم شيئاً من تلك الحياة، أن نجد في قوة إرادته المعنى.

محمد حي في قلوبنا بأثره العظيم… أما الموت، السخيف، التافه، فسندعه للموتى.