fbpx

شمال شرق سوريا: من زمن البعث إلى زمن الكوليرا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تنتشر الكوليرا بشكلٍ سريع في المناطق التي تُعاني من تلوث مياه الشرب، والصرف الصحِّي، بالإضافة إلى المناطق التي تنتشر فيها المجاعات، والحروب، والازدحام. وكل هذه المحفزات هي الأكثر شيوعاً في أغلب مدن وبلدات شمال شرق سوريا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يقول طبيب أطفال في إحدى مشافي القامشلي لصديقي بعد أن أسعف ثلاثة من أطفاله، “نشك بالكوليرا، ولا نعرف حقيقة الوضع، سنكتفي بالمضادات الحيوية، والسيرومات، هي أعراض المرض لكن لا نملك “رفاهية” الكشف عنه، وصلتنا بعض الحالات الإسعافية من دير الزور، وليس لدينا شيء مميز لفعله”. من جهة أخرى، يقول مُسّن يقتني بعض الخضروات في إحدى المحال التجارية في القامشلي، إنه يفضّل “شراء خضار رخيصة الثمن حتّى لو كانت ملوثة بالكوليرا، على الاستمرار في الحاجة أو الجوع، فهو سيغسلها جيداً، ليُسكت نداءات معدة أبنائه”. وهو بذلك يؤكد على فعل ترجيح تناول السلعة الرخيصة على إمكانية المرض، فالناس يائسة من سياسة الاحتمالات و الاحتراز.

أرضية خصبة لانتشار المرض 

تنتشر الكوليرا بشكلٍ سريع في المناطق التي تُعاني من تلوث مياه الشرب، والصرف الصحِّي، بالإضافة إلى المناطق التي تنتشر فيها المجاعات، والحروب، والازدحام. وكل هذه المحفزات هي الأكثر شيوعاً في أغلب مدن وبلدات شمال شرق سوريا. بل ان تلك المنطقة تخلق بيئة آمنة لانتعاش وانتشار المرض. ولا غرابة في انتشار الكوليرا في هذه البلاد؛ فكل شيءً فيها مهيّأ لانتشار مختلف أنواع الأمراض. أعداد ضخمة من قاطني شمال شرق سوريا، يعانون من انعدام الأمن المائي وضعف مستوى تعقيم مياه الشرب، واستخدام مياه الآبار الملوثة في غسيل السيارات وخطره على العمال، وضعف الأمن الغذائي والصحي، خاصة وأنه بسبب الانقطاع الدائم للمياه وعدّم توفر البديل، يوفرون ما يلزمهم من مياه الشرب، للطهي، للاستحمام، وغيرها عبر شرائها من  صهاريج نقل المياه، وغالبيتها ملوثة، وكنتيجة للانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي فإن شراء الأهالي لقوالب البوظة المنتشرة بكثافة في غالبية الأماكن هي الأخرى يُشك أن تكون مصنوعة من مياه غير نظيفة. زاد من تعقيد الوضع انخفاض مستوى نهر الفرات، فزاد من نسبة التلوث في المياه المستخدمة للشرب، ويتم سقاية المواشي وغسلها قبل موجة البرد، في قنوات الري المتفرعة عن نهر الفرات ونهر البليخ، أما نهر الجلاب فيعد حالياً قناة للصرف الصحي أكثر منه نهراً بسبب ارتفاع نسبة التلوث فيه، كل ذلك نتيجة لعدم توفر المياه وغياب الخطط البديلة لفقدان الماء. ومع عدّم وجود ثقافة صحية كافية، فإن القواعد الاجتماعية تعتقد أن مجرد تسخين المياه وتبريدها قبل الاستخدام كافية لتعقيم المياه، وهو اعتقاد خاطئ وفق العديد من الأطباء.  

وعلى الرغم من إصدار “هيئة الزراعة والري في الإدارة الذاتية لإقليم الجزيرة” تعميماً تؤكد فيه على “منع الريّ بالمياه الملوثة، وازالة وإتلاف كامل المحصول المروي به”، إلا أن غالبية الخضار المزروعة وصلت إلى حد النضج وبيع قسم كبير منها في الأسواق، والباقي سيُطرح على دفعات، أو المتوقع أن يلجأ التجار إلى بيع المنتجات بسعر التكلفة، وستشكل فرصة للفقراء لاقتناء الفواكه والخضار، وتم تسويق كميات كبيرة من القطن المرويّ من تلك المياه.

ومن أكثر الأماكن المهيئة لانتشار المرض هي المدارس التي تشهد اكتظاظاً بعدد الطلاب، كحال مدارس الحكومة السورية التي تشهد الصفوف في بعض المدارس أكثر من 90 طالب، ومع استمرار اغلاق الادارة الذاتية للمدارس والمعاهد الخاصة فإن أعداد الطلاب في المدارس الحكومية مرشحة للازدياد للضعف، والمعلوم أن البنية التحتية للحمامات ومياه الشرب في تلك المدارس تفتقد لأبسط الظروف والشروط الصحية، وستكون أكبر مصدر ومرتع لانتشار المرض. وبحث البعض في حاويات القمامة بما تشكله من بيئة خصبة لكل الأمراض والأوبئة. يُضاف إليها المرافق الصحية في المخيمات والحدائق العامة الغير صالحة للاستعمال، وبل تفتقد لأدنى معايير النظافة. بالإضافة إلى الأشخاص الذين يعيشون في ظروف مزدحمة بدون مرافق صرف صحي مناسبة، وغياب الأدوية أو المراكز الطبية الكافية في كامل المنطقة، وضعف الصرف الصحي في الأحياء الشعبية في شمال وشرق سوريا، وأحياناً تجاورها مع أنابيب مياه الشرب، نتيجة غياب التخطيط وهندسة المدن والأحياء، وضعف ثقافة تعقيم مياه الشرب بالكلور والفلتر والتعقيم، وصعوبة تمكن غالبية الناس من شراء المياه المعقمة  نتيجة للضعف المادي، والكميات الكبيرة التي تحتاجها المنازل يومياً.   

ويزيد من الوضع تعقيداً بشكل عام، بؤس القطاع الصحي لعموم شمال شرق سوريا، وافتقاد أغلب النقاط/المراكز الصحية للمعالجات من الكوليرا. واقتناء القواعد الاجتماعية للمواد الغذائية المجهولة المصدر أو ربما المخالفة لبعض المواصفات، والأسواق أساساً مكتظة بالمنتجات المخالفة للمعايير الصحية، والأدوية المهربة الفاقدة للقيمة الدوائية، والمازوت المسرطن المستخرج بطرق بدائية. بمعنى أن الكوارث الصحية المختلفة من كوليرا أو غيرها في طريقها للتوسع وهو خطر محدق، وكُلها تشكل تهديداً لحياة ملايين الناس، وكأن لسان المجتمع المحلي يقول “كلوا صاير متل بعض”، أو هي رسالة اليأس الشعبي التي تقول: ما الذي ستغيره الكوليرا من نمط ونوعية التغذية للقاطنين في شمال شرق سوريا بعد ما جربوا أغلب صنوف الحاجة والنظام الغذائي غير الصحي. 

بيانات دولية وإحصائيات غائبة

سبق وأن أصدر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية الأممي “أوتشا”، بياناً حول تقييم سريع أجرته “السلطات الصحية والشركاء. ويُعتقد أن مصدر العدوى مرتبط بشرب الأشخاص مياها غير آمنة من نهر الفرات واستخدام المياه الملوثة لري المحاصيل، مما يؤدي إلى تلوث الغذاء” وأوضح البيان أن تفشي المرض “مؤشر على النقص الحاد في المياه في جميع أرجاء سوريا”. وربما هي تعرية للمنظمات الدولية ومنسقي الإغاثة والاستجابة السريعة، وحجم الفساد الضخم في عمل المنظمات المدنية، وحجم الفراغ الذي تركوه في كل سورية وكامل الشمال السوري أيضاً، وضرورة الاستفسار عن عمل المنظمات المدنية المحلية ودور الإدارة الذاتية في مراقبة واقع العمل الصحي لديها. والمؤسف إنه لا إمكانية للوصول إلى إحصائيات دقيقة لكل سورية، ولا لشماله الشرقي؛ لإنها تخضع لسياسات خاصة بكل جهة تتحكم بقسم من سورية، لتتحول تلك الاحصائيات والأرقام المطلوبة إلى طرف في الصراع السياسي والأمني والعسكري التي تشهده البلاد. ففي حين أن الجهات المعنية في الإدارة الذاتية تتحدث عن أرقام خجولة، فإن تسريبات إعلامية تؤكد على أن العدد أكبر بكثير، وفي المجمل فإن الأعداد مرشحة لازدياد مرعب، خصوصاً في أرياف دير الزور والحسكة؛ لبؤس الواقع المعيشي والصحي.

التباكي على السوريين في الخارج ونسيان الداخل

مساكين نحن السوريون، لا سند حقيقياً لنّا ولا معيل. تتشدق الصحافة الدولية والمنظمات الإنسانية بالتحذير من مخاطر زيادة غرق السوريين عبر قوارب الموت في البحار، أو فقدانهم وموتهم ونهش الحيوانات المفترسة لجثثهم في الغابات، أثناء الهجرة الغير شرعية صوب أوروبا، لكنهم لا يبحثون في أسباب الهجرة، ولا الوضع الصحي للمقيمين في الداخل، وتالياً فإن الأزمة الأخلاقية والإنسانية تكبر لتلفح وجه الجميع. كما أن شكوى شرائح مجتمعية من استضافة للاجئين السوريين وخطاب الكراهية والعنصرية ضدهم، وتحميل السوريين اللاجئين أسباب فشلهم الاقتصادي والتعليمي، دون معرفة حجم الخدمات التي قدمها اللاجئ السوري لدول اللجوء، هو انحياز لفعل القتل والتجني على السوريين.

وتتحدث المنظمات والهيئات الدولية عن الكوليرا ومخاطر انتشارها، لكن تلك الجهات نفسها لا تهتم بالمطلوب والحاجات اللازمة لمواجهة الكوليرا في كل سورية، وخاصة شماله الشرقي والغربي، فبقاء القطاع الطبي/ والصحي للإدارة الذاتية براهنيتها منذ أعوام يدفع إلى طرح العديد من الأسئلة مع الأرقام الكبيرة للأموال التي صرفتها الإدارات الأمريكية على المنطقة منذ بداية تشكيل التحالف الدولي، وبقائه دون المستوى المطلوب وغياب آليات الاستجابة الفورية والمواجهة المباشرة للأمراض والأوبئة وضعفه من حيث المخابر والمعدات والاعداد الكافية للأطباء والمشافي الميدانية يترك أكثر من إشارة استفهام؛ نتيجة ضعف البنية التحتية لقطاع الصحة في عموم شمال شرق سوريا، وفشله الأكيد في مواجهة الكوليرا وهي لا تزال في بدايات انتشارها، وهو ما يذكرنا بواقع الحال أثناء جائحة كوفيد 19. أمام هول ما يجري أو ما ينتظر المنطقة صحياً وطبياً، فإن الدور الأكبر يقع على عاتق منظمات المجتمع المدني في رفد شمال شرق سوريا بما تحتاجه من توعية، ومعدات، ومواد تحلية للمياه، ومعقمات وغيرها.