fbpx

الهزيمة في الملعب: نحيب العضلات المفتولة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يمكن إحصاء لاعبي كرة القدم الذين بكوا وانتحبوا بعد الهزيمة، يكفي البحث على غوغل لتظهر مئات النتائج، ميسي، رونالدو، نيمار، مودريك، ساكا، منتخب اليابان مؤخراً حين هزم أمام منتخب كرواتيا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

انتشر في زمن الجمهورية الرومانية المتأخرة (146-31 ق.م) أسلوب جمالي مثير للاهتمام، طبّقه النحاتون على التماثيل الواقعية التي تكرّم الشخصيات البارزة. عُرف هذا الأسلوب باسم “الرياضي الزائف”، أشهر ما بقي من هذه المنحوتات هو تمثال ” pseudo athlete of Delos”، الموجود في المتحف الوطني الأركيولوجي في أثينا. الملفت في هذا الأسلوب، هو التناقض بين شكل الجسد الرياضي المثالي، والوجه الذي تعتليه التجاعيد وملامح تقدّم العمر. واحدة من تفسيرات تبني هذا الطراز، تفترض أن الحكمة تأتي مع العمر، لكن على الجسد أن يبق “نموذجاً”، لذا يبدو ممشوقاً و”رياضياً”، وهنا يمكن فهم نعت “زائف” الذي يُلحق بهذا الأسلوب. 

توظيف الجسد الرياضي كنموذج للرجولة مفتولة العضلات، المفرطة في رشاقتها، وذات المهارات المصقولة، قديم قدم الألعاب الأولمبية، ومنذ ذاك الوقت إلى الآن، الرياضيون تحولوا إلى نجوم ومشاهير، بل يمكن القول عارضي أزياء (وجه كريستيانو رونالدو وجسده مطبوع في كل مكان من علب الشامبو حتى إعلانات البدلات الفاخرة). 

فضاء اللعب، بجمهوره ومشجعيه “مدرسة” لتعلم الرجولة كما يقترح الـفنان والـ transvestite البريطاني غرايسون بيري في كتابه The Descent of Man-2017. 

تقدم مساحة الرياضة ثلاثة نماذج للرجال المفرطين في رجولتهم بحسب غرايسون بيري. هناك اللاعب، صاحب المهارة، الانفعالي، الاستعراضي، من تُعلق به الأعين والآمال. والمدرّب، العصبي، المؤدِّب، صاحب الأمر والخطة، وضابط سلوك اللاعبين وانفلاتهم. وفي النهاية هناك المشجع، المُتماهي مع ما يراه، من يتحرك ككتلة ضمن حشد يستثيره اللعب، ويمثل جزءاً من هويته، من يحدق بالنماذج الرجولية ليكتسب بعضاً من صفاتها أو يصيبه ألقها بعدوى من نوع ما. 

لا يمكن حصر هذه النماذج، إذ تتحرك تصرفاتها بين العنف، كأن يصفع مدرب أحد اللاعبين، إلى الغرابة كالمدرب الألماني يواكيم لوف المعروف بأنه  يستخدم يده كي يشم خصيتيه أثناء المباراة. 

لم يبك ميسي هذا المونديال، لكن دموعه ودموع مارادونا انهمرت في الدورة الماضيّة.

ما يهمنا، وخصوصاً مع زمن المونديال حالياً، هو الهزيمة، أي خسارة اللعبة وما ينتج عنها من سلوكيات نتجرأ على اختزالها بالعنف والبكاء. الأولى، يفيض فيها التستسرون ويتحول إلى رغبة في التحطيم والشجار(نسقت قطر مع الأرجنتين لمنع 6 آلاف مشجع  أرجنتيني من السفر إلى الدوحة بسبب العنف المعروف عنهم). 

الثانية هي البكاء، إذ تتحول كتلة اللاعبين العضلية وحشد الجمهور الذي يشحن الفضاء إثارةً، إلى لحم طفولي يبكي خسارة بعد 90 دقيقة أمضاها اللاعب في استعراض المهارة، واللياقة، والقفزات التي ستتحول إلى إعلانات وصور ستملأ وسائل التواصل الاجتماعي. 

نعود هنا إلى طراز وجماليات الرياضي الزائف، إن كان الوجه والجسد متناقضان في الحالة الرومانية لأسباب سياسة وجماليّة، في الحالة المعاصرة هناك تناقض جديد، يتحول جسد الرياضي ذو العضلات، إلى صاحب وجه طفولي يبكي هزيمته، موزعاً دموعه (تلك التي لا نشكك بصدقها) أمام الجموع وعدسات الكاميرات، أي يتناقض الوجه مع الجسد الممشوق. ينسحب الأمر على المشجعين بأسلوب مختلف، فالإيقاع المنتظم للحركة، وفرط الأدرينالين يتلاشى مع الهزيمة التي تهدد الحكمة والوعي باللعب ودقة المراقبة، لنرى أنفسنا أمام حشد خائب، يبكي متناثراً، أو جمهرة فقدت السيطرة على انضباطها غضباً وإحباطاً وقررت الشجار. 

الهزيمة والبكاء: نحيب العضلات المفتولة 

 لا يمكن إحصاء لاعبي كرة القدم الذين بكوا وانتحبوا بعد الهزيمة، يكفي البحث على غوغل لتظهر مئات النتائج، ميسي، رونالدو، نيمار، مودريك، ساكا، منتخب اليابان مؤخراً حين هزم أمام منتخب كرواتيا. 

يظهر المهزوم كمن خانته مهارته، كل الأدرينالين والتستسرون لأجل المنافسة والمجد الرمزي تلاشيا، وكل الوعود المقدمة والتكريم لا مكان لها، فالهزيمة مشرفة أو غير مشرفة، لا تؤدي إلى صفقات إعلانية، ولا رأس مرفوع أمام المشجعين. 

لا نحاول هنا أن نقلل من صدمة الهزيمة، ولا أثرها العاطفي، لكن الملفت هو التحول الذي يمر به اللاعب، ففي لحظة هو يحتفل بهدف سجله مؤكداً على مهارته ومتباهياً بها. وفي أخرى، يظهر الوجه الطفولي الباكي، المترافق مع دموع الهزيمة المؤلمة التي تتحرك ضمن مستويين: الأول شخصي، يرتبط باللاعب نفسه، ومهارته، وقدرته على التحول إلى نجم. والثاني هوياتيّ، فداخل الخطوط البيضاء وفي مساحة المواجهة، اللاعب نموذج رجولي، عارض أزياء، صاحب أموال، وفضائح جنسية وزوجة جميلة، دوره الرجولي مرتبط بالانتصار والمهارة الفردية. هذه الهوية تنسحب أيضاً على الفريق أو البلد الذي يمثله اللاعب، دموع الهزيمة تعكس خيبة أمل، يتعرض فيها اللاعب نفسه إلى ما يشبه الاهتزازة، وهذه حالة ميسي حين حاول مشجعو الخصوم السخرية منه حين خرج فريقه من المونديال الماضي، وحين هُزم منتخب الأرجنتين أمام المنتخب السعوديّ، تداول العالم بأكمله عبارة “أين ميسي ؟”، 

لم يبك ميسي هذا المونديال، لكن دموعه ودموع مارادونا انهمرت في الدورة الماضيّة. 

الهزيمة والشجار: الحشد الذي فقد إيقاعه 

لا كرة قدم بدون مشجعين، هم ضباط إيقاع الحماس ( شهد مونديال هذا العام تأسيس رابطة الجمهور العربي) محركو الثورات الشعبيّة (سوريا، تونس، مصر)، ضحايا سوء التنظيم ( حوالي 130 مشجع فقدوا حياتهم هذا العام في أحد ملاعب اندونيسيا بسبب التدافع وسوء الفهم)، لكنهم أيضاً واحدة من أخطر الكتل البشريّة التي قد تخرج عن السيطرة في لحظة الحماس، فالمشجع يتماهى مع حماس اللاعبين وحماس الحشد نفسه، كتلة تفرز وتهدر الأدرينالين فرحاً وغضباً، الرجال منهم كتلة تجد هويتها في الفريق الذي تشجعه، هوية قد تتجاوز الانتماء الوطني(المخرج الفرنسي من أصل مغربي محمد الخطيب يناقش هذه العلاقة الهوياتية في عرضه المسرحيّ ستاديوم)،  أما النساء فريسة عدسات الكاميرات، للتأمل، والتصبب والحملقة وإلقاء الشعر أحياناً. 

الهزيمة من وجهة نظر هذه الكتلة البشريّة لا تتجلى في الدموع فقط، العنف وأعمال الشغب احتمال قائم دوماً (استعانت قطر بـأكثر من 3000 شرطي من تركيا لتنظيم الحشود)، لا تقتصر  الهزيمة لا على الأدرينالين المهدور وأجرة الطريق و غيرها متطلبات التشجيع، إذ من الممكن أن يتحول الحماس والتستسترون والأدرينالين إلى عنف، يُوجه ضد مشجعي الفريق “المنتصر” أو المكان نفسه أي المدرجات والمدينة التي تستضيفها المباراة، وأصبح من المعروف حالياً من هم المشجعين الأكثر عنفاً في رياضة كرة القدم،  كمشجعي نادي ليفربول الانكليزي، ومشجعي فريق مرسيليا الفرنسي. 

التحول إلى العنف هنا ذو تفسيرات غير محدودة، كضرورة اختزال الغضب الداخلي وتحويله إلى عنف مادي، محاولة لإثبات التفوق والانتصار خارج الملعب، محاولة للحفاظ على الهوية الجمعية التي “كسرت” مع الهزيمة (بعض الأحيان النصر يسبب ردة الفعل ذاتها)، لكنه في الوقت نفسه، وبكل بساطة، هو علامة على “الرجولة”، إن هزُمنا داخل الملعب، ففي “الخارج” سنصفّي الحسابات، ما نراه عادة من تسجيلات لتحطيم شاشة التلفاز إثر الهزيمة، يتحول “خارجاً” إلى شجار وتحطيم للممتلكات العامة، سواء تحت تأثير الغضب، أو الحماسة، أو الكحول، إذ يتخلى “اللعب” عن قواعده، ويتحول المكان إلى حلبة لا فائز فيها ولا منتصر. 

هذا الحماس الذي أصبح عنفاً، مرتبط أيضاً بالملعب كمدرسة لـ”الرجولة”، يمكن أن يُفسر بفعل الاحتشاد نفسه، والأهم، وخيبة الأمل، والأهم، سوء الأداء، والمقصود بذلك أن المهارة المتوقع من اللاعب أن يقدمها لإرضاء الجمهور والوصول إلى “الانتصار” لم تكن كافية، فخانت صاحبها ولم تلب احتياج المتابع، أي أن النموذج الرجولي فقد صلاحيته مؤقتاً، ولم يعد يمتلك الغواية الكافية للتماهي معه، ليظهر العنف هنا كمعادلة غريبة الأطراف، لا مزيد من اللعب إن هزمنا في الملعب.