fbpx

“أصرف منين؟”… الاقتصاد المصري والسقوط الحر على رؤوس الفقراء؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد نحو عشر سنوات من التغييرات العاصفة التي تشهدها مصر، يبدو أن الأزمة الاقتصادية مستمرة ولا بوادر لاستقرار قريب، وربما الضربات الاقتصادية المتلاحقة ستكون أكثر عنفاً وعصفاً بالمجتمع المصري في الفترة المقبلة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أنا كنت قلت لكم قبل كده احنا مهمتنا نطمن الناس ونحاول نعلمهم ازاي ينوروا شمعة بدل ما يلعنوا الظلام. انسى. اتضح إن العتمة شديدة لدرجة إنك مش هتعرف تشوف الشمعة أصلاً علشان تولعها، ودورنا الحقيقي لو كنا شرفاء إننا نواجه الناس بإن مصر داخلة على كارثة تاريخية لو فضلت الأمور تُدار بهذا الشكل. أنا عن نفسي دلوقتي خارج أقدم استقالتي، أما انتوا للأسف مستقبلكم مظلم”.

تحدث حسن، أستاذ علم الاجتماع، إلى طلابه الجامعيين بتلك الكلمات في المشاهد الأولى من فيلم فبراير الأسود، إنتاج النصف الأول من عام 2013، أي قبل بضعة أشهر من استلام الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر.

الاقتصاد المصري: إلى أين؟

بعد نحو عشر سنوات من التغييرات العاصفة التي تشهدها مصر، يبدو أن الأزمة الاقتصادية مستمرة ولا بوادر لاستقرار قريب، وربما الضربات الاقتصادية المتلاحقة ستكون أكثر عنفاً وعصفاً بالمجتمع المصري في الفترة المقبلة، لا سيما بالنسبة إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة. 

نشرت وكالة “رويترز” تقريراً أشارت فيه إلى وضع مصر المالي المحفوف بالمخاطر، على رغم خفض الحكومة قيمة الجنيه مرتين بشكل كبير خلال العام الجاري، وما سمته “حزمة إنقاذ جديدة” من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار.

تلك الخطوات التي اتخذتها الحكومة لجعل سعر الصرف أكثر مرونة ورضوخاً لمطالب صندوق النقد الدولي حتى يُسمح لهم بالحصول على قرض جديد، لم تكن كافية أو مرضية للإفراج عن دفعة جديدة من النقد الأجنبي، على رغم ارتفاع سعر الجنيه في مقابل الدولار من 15.60 إلى نحو 19.70 في شهر آذار/ مارس 2022، ثم ارتفاع آخر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي من 19.70 إلى 24.60. طالب صندوق النقد بسعر صرف أكثر مرونة مرة أخرى للإفراج عن حزمة الإنقاذ المُشار إليها، في ظل عجز الدولة عن توفير العملة الأجنبية. اعترف رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي بأن التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة هو توفير العملة الصعبة.

تحديات صندوق النقد

علّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، على اتفاق مصر للاستدانة من صندوق النقد، بأن التحدي الأكبر يتمثل في توفير مدفوعات الديون الخارجية المستحقة خلال سنة، والتي ارتفعت لتصل في آذار الماضي إلى 42.1 مليار دولار، بحسب بيانات البنك المركزي، بما يتخطى قيمة احتياطي مصر من النقد الأجنبي البالغ 37 مليار دولار في الشهر نفسه، وأن الحكومة تلجأ إلى حل القروض من أجل سداد فوائد الديون السابقة، وهو حل غير فعّال ويفاقم الأزمة.

بنك “نومورا كابيتال” الياباني، يؤى أن الاقتصاد المصري هو الأكثر عرضة لمخاطر أزمات العملة خلال العام المقبل، وفقاً لنموذج “داموكليس” الخاص بالبنك للإنذار المبكر لأزمات أسعار الصرف في الأسواق الناشئة، ويعتمد النموذج متغيرات عدة لتحديد نتائجه، أهمها، احتياطات النقد الأجنبي، وحجم الديون الخارجية قصيرة الأجل، ونسبتها إلى الصادرات، ونسبة الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى الديون الخارجية قصيرة الأجل، ومعدل التغير في الاستثمار الأجنبي، وعجز الموازنة العامة.

وتشير وكالة “فيتش” الأميركية للتصنيف الائتماني، إلى أن مصر بحاجة إلى إنفاق نحو 40 في المئة من الإيرادات الحكومية على مدفوعات الفائدة، ولا توجد دولة في العالم تنفق أكثر من 41 في المئة من الإيرادات الحكومية على مدفوعات الفائدة باستثناء سريلانكا التي تخلفت بالفعل عن السداد، وغانا التي سرعان ما ستلحق بها؛ ما يجعل مصر عرضة للخطر.

يتعرض سوق الذهب أيضاً لارتفاع غير مسبوق في الأسعار لا يتناسب مع سعر صرف الدولار الرسمي الذي أقره البنك المركزي.

ويصل سعر الدولار اليوم في المعاملات الرسمية نحو 24.60 جنيه مصري، إلا أن سعره الفعلي في الأسواق السوداء يتجاوز حاجز الثلاثين جنيهاً. يقول محمد، وهو شاب مصري في أواخر العشرينات، يمارس أعمالاً حرة “الدولة حددت سعر الدولار بـ24.60 لكنها لا تستطيع توفيره، راهناً اضطررت إلى شراء الدولار بـ29 جنيهاً من السوق السوداء”.

ويعلق عماد، وهو مواطن مصري في بداية الثلاثينات ويعمل طبيباً، أنه عندما تعجز الدولة عن توفير النقد الأجنبي، سيلجأ الناس إلى الأساليب غير القانونية، ونبدأ في سيناريو مشابه لوضع لبنان. “الحكومة تقول سعر، والواقع حاجة تانية خالص. لو أنا مثلاً معايا 10 آلاف دولار، وحولتهم في أول سنة بالمصري 160 ألف جنيه، واستثمرت واشتغلت وكسبت 100 في المئة ولميت 320 ألف جنيه، وجيت أحولهم النهارده دولار فأنا ماكسبتش حاجة، هما الـ10 آلاف بردو. أنا خسرت وقت ومجهود.. ايه يخليني أحط فلوس في بلد بالشكل ده؟”، يسأل عماد.

يتعرض سوق الذهب أيضاً لارتفاع غير مسبوق في الأسعار لا يتناسب مع سعر صرف الدولار الرسمي الذي أقره البنك المركزي، فإذا أخذنا نموذج عيار الذهب 21 الأكثر تداولاً في مصر، نجد أن سعر الغرام 891 جنيهاً (36.22 دولار) قبل قرار تحرير سعر الصرف في آذار/ مارس الماضي، ثم ارتفع إلى 1262 جنيهاً (51.30 دولار)، قبل أن يسجل 1630 جنيهاً (66.27 دولار) في الأيام الأخيرة، بزيادة تتجاوز الثلاثين دولاراً في الغرام الواحد. 

يعلق محمد على هذا الأمر “مؤخراً لما بفكر في قرار الارتباط أو الزواج، القرار صعب جداً. أي حد لو مش عنده الدهب بتاعه أو مش عنده مدخرات يقدر يتسند عليها من قبل كده، قرار شبه مستحيل. الأجهزة الكهربائية لوحدها مثلاً هتتكلف أقل حاجة فوق الـ 100 ألف جنيه (4065 دولاراً). منظومة الجواز هتتأثر جداً”.

تفسخ الطبقة الوسطى… الفقراء يزدادون فقراً

تتوالى هذه الصدمات الاقتصادية في توقيت يعاني فيه الشعب المصري في الأساس من تدنى مستوى المعيشة وانخفاض الأجور، فحتى أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كان الحد الأدنى للأجور 2700 جنيه مصري بما يوازي 144 دولاراً، بحسب سعر الصرف في وقتها (18.70). قرر مجلس الوزراء المصري في 26 تشرين الأول 2022، زيادة الحد الأدنى للأجور ليصبح 3000 جنيه (155 دولاراً) ولكن ما حدث أنه تم تحرير سعر الصرف في الأيام التالية ليصل الدولار بشكل رسمي إلى 24.60، وبالتالي ينخفض الحد الأدنى للأجور من 155 إلى 122 دولاراً.

تعلّق فاطمة على الظروف المعيشية، بأن الوضع “زي الزفت” ولا تدري ما الذي يستوجب فعله لتجنب التدني في الوضع الطبقي “توجد علامة استفهام كبيرة، ومش عارفة نعمل ايه، المرتبات لا تكفينا، كل المنتجات أسعارها زادت والدخل ثابت، بالنسبالي مابقتش أشتري غير الأساسيات، واستغنيت عن أي وسائل ترفيه زي الخروج أو الأكل بره البيت، بقيت أعتمد على الطبخ في المنزل، وطبعاً مش بقدر أدخر أي مبلغ من المرتب زي ما كان بيحصل قبل كده، المرتب مش بيكمل لآخر الشهر أصلاً”.

كيف يستطيع المواطن المصري أن ينجو من المصير المحتمل بالفقر المدقع والسقوط الحر بين الطبقات الاجتماعية.

توضح الدكتورة ريم سعد، باحثة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، أن الحديث عن احتمالية “إفقار مفاجئ” قد يتسبب في إرباك المجتمع، مشيرة إلى أن الخوف من فقد الإنسان استقراره الطبقي قد يأتي بنتائج عكسية، فبدلاً من محاولة التوفير والاقتصاد في النفقات، ربما يلجأ إلى خيار زيادة الإنفاق من أجل الحفاظ على موقعه الاجتماعي. وإذا كنّا نتحدث عن الطبقات الدنيا والعمالة غير المنتظمة، التي تشكل غالبية الشعب المصري، فهي الطبقات الأكثر تضرراً وسبل تطبيعها مع المتغيرات السريعة تكون مؤسفة من أجل التوفير، كتقليل كميات الأكل وخفض جودته، أو الاستغناء عن تعليم الأطفال، بخاصة الإناث، أو اللجوء إلى تشغيل الصغار من أجل زيادة الدخل.

وقاحة الحديث عن الأمل والفئات الآمنة

في 4 شباط/ فبراير 2010، تعرضت أسرة حسن، باحث في علم الاجتماع، إلى حادث غير مجرى حياتهم وتفكيرهم، ففي أثناء رحلة إلى صحراء مصر، هبت عاصفة صحراوية وعلقوا في بحر من الرمال المتحركة. أخبرهم حسن أن الحكومة لن تتركهم للموت. 

وبالفعل أتى 3 رجال بملابس عسكرية وأخبروهم بإنقاذ العالقين على مجموعات ومرحلة تلو الأخرى، في كل مرحلة يتم إنقاذ 4 أفراد. سأل العسكري فيما يقرأ على ورقة بيده، “انتو معاكم اللواء عباس أبو زيد بتاع أمن الدولة؟” تبدأ عملية الإنقاذ بسيادة اللواء وزوجته وأبنائه الاثنين. عاد العساكر مرة أخرى “انتوا معاكم المستشار سيد أبو المكارم، رئيس محكمة جنوب؟”، ثم “انتوا معاكم كمان الأستاذ عبود الجمل، رئيس جمعية رجال الأعمال؟”. يتم إنقاذ المستشار وزوجته ورجل الأعمال وزوجته، بينما تُترك أسرة حسن لتواجه خطر الموت في الصحراء، وفي المساء تأتي كلاب وتخرجهم من الرمال في مشهد سريالي.

كان هذا المشهد الافتتاحي لفيلم “فبراير الأسود” وعلى إثر الحادث، قرر حسن ترك وظيفته كأستاذ جامعي، ثم دعا عائلته إلى اجتماع عاجل ليبلغهم ما توصل إليه، “أي كلام عن الأمل يبقى نوع من الوقاحة، دي خريطة للأوضاع الاجتماعية في جمهورية مصر العربية. في ظل المأساة اللي بتعيشها البلد مفيش حد يقدر يعيش متطمن على كرامته وحياته وأسرته إلا الأفراد في هذه المنظومات الثلاث. أولاً: منظومة الجهات السيادية (الحكومة، أمن الدولة، المخابرات بأنواعها). ثانياً: منظومة العدالة (القضاء، النيابة، الشرطة). ثالثاً: منظومة الثروة، وفي الحقيقة المنظومة دي تكاد تشتري المنظومتين دول. الناس دي بس هي اللي بتقدر تنام وهي متطمنة إن محدش هيقدر يؤذيها ولا يبوظ لها حياتها، ولذلك نقدر نسميهم الفئات الآمنة إلى يوم الدين”.

برغم مرور نحو 10 سنوات على إنتاج الفيلم، و13 سنة من تاريخ الأحداث التي يتناولها، إلا أن الظرف لم يتغير وإنما ازداد سوءاً وتحققت النبوءة بدخول مصر ما تمكن تسميته “بالكارثة التاريخية”، لأن السلطة المصرية تصر على إدارة الأمور بالشكل المُشار إليه. وبرغم أن الفيلم يتناول الوضع المصري من منظور سياسي- كوميدي مرتبط بظرف الثورة المصرية 2011 وما تلاها من أحداث، إلا أنه لم يغفل الوضع الاقتصادي الذي لا ينفصل عن الوضع السياسي، فتأتي “منظومة الثروة” ضمن الفئات الآمنة في مصر، بل الأكثر أماناً، لأنها تسيطر على المنظومات الأخرى.

كيف نتجنب الفقر المدقع في مصر؟

حاولنا التفكير في إجابة عن هذا السؤال، كيف يستطيع المواطن المصري أن ينجو من المصير المحتمل بالفقر المدقع والسقوط الحر بين الطبقات الاجتماعية. أشعر بالتزام تجاه أسرتي وأصدقائي، هل من فرصة لإنقاذهم؟ فكانت الإجابة الأولى كما جاء في فيلم “فبراير الأسود”، إما محاولة الهجرة إلى بلد غني ومستقر أو محاولة الانضمام إلى إحدى الفئات الآمنة في المنظومات الثلاث. وإذا كان الأمر مستعصياً، وهو كذلك، فهل من حلول بديلة؟

يوضح محمد أنه تأثر كثيراً بالزيادات الأخيرة في الأسعار نتيجة خفض قيمة العملة المحلية، ويعتقد أن أفضل طريقة يواجه بها الزيادات السريعة هي شراء بضائع أو منتجات لها عمر طويل، كي يحافظ على أمواله، ويروي أنه وضع مدخراته في أكثر من “وعاء ادخاري”، بحسب تعبيره، “جزء كوديعة بنكية، وجزء حولته لدهب لكن مش بالسعر المجنون بتاع دلوقتي، وجزء اشتريت به أرض زراعية، وجزء مش كبير اتحول لدولار”. 

يسأل محمد عن الطريقة التي يحافظ بها على مستواه الاجتماعي، يقول إن الظروف تعزز لديه قرار الهجرة يوماً بعد يوم، “الهجرة في أسرع وقت وبأي طريقة ولأي دولة. السنين الجاية الوضع مش هيكون مستقر، ومش هقدر أكمل في المستوى المعيشي ذاته”.

يتفق عماد على عدم وجود حل لتجنب انخفاض مستوى المعيشة “إذا لم تتغير السياسات الاقتصادية، فإن انخفاض الجنيه سيستمر وسنواصل الانحدار”.

يستطرد حديثه في انفعال “كنت شغال في الخليج وقدرت أدخر مبلغ واشتريت شقة. دلوقتي عايز أبيعها ومش عارف، لأن سوق العقارات فيه كساد، فيه شقق كتير جداً معروضة للبيع والمدن الجديدة اللي اتبنت، وفي نفس الوقت كل الناس عارفة إن الجنيه قيمته بتقل، فمحدش عايز يدفع كاش، عايزين يدفعوا مقدم والباقي تقسيط، طب المالك عايز فلوسه كاش عشان ما يخسرش أكتر. العقار مابقاش قيمة ثابتة تحافظ على فلوسك زي الأول، إلى جانب إنك كمالك ما تقدرش تزود سعر العقار بما يتناسب مع زيادة الدولار لأنك مش هتلاقي مشتري، فبتخسر وقيمة الشقة بتقل، مثلاً لو شقتي كانت قيمتها 40 ألف دولار على السعر القديم، فالنهارده مش هعرف ابيعها بـ30 ألف دولار على السعر الجديد”.

يستكمل بالحدة ذاتها، “من له وديعة في المصرف، خسر قيمتها. ومن استثمر ماله في عقار، أيضاً خسر. الوحيد الذي لم يخسر هو من يملك دولاراً أو ذهباً”. ويسأل، “طب أنت هتجيب دولار منين أصلاً، إذا كانت الدولة مش قادرة توفره وبتقوم بدور رقابي شديد جداً على تداول العملة الأجنبية؟ مفيش قدامك حل غير إنك تحط فلوسك في البنك وتخسر من قيمتها، يا إما تجيب دولار سوق سوداء ولو اتمسكت تتسجن. طيب هنجيب دهب؟ عايز أصرف من الفلوس وآكل وأشرب، أصرف منين؟ وهشيل الدهب فين؟ مفيش حل”.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.