fbpx

مهنيو مصر يرفضون “الفاتورة الإلكترونية”… بوابة جديدة للفساد؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بموازاة التعويم الذي يهدد مستوى معيشة المصريين، لا تجد الدولة سبيلاً لتقليل عجز الميزانية سوى فرض مزيد من الضرائب وتوسيع الوعاء الضريبي ورفع كفاءة التحصيل، إذ وصل عجز الموازنة إلى نحو 5.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 436.6 مليار جنيه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كل يوم يطلع قرار، والأسعار بتولع نار، الحكاية مش أتعاب، الحكاية فساد على الباب”. 

هكذا هتف محامون مصريون أمام نقابتهم في تجمعات حاشدة وسط القاهرة على بعد خطوات من ميدان التحرير. استمرت احتجاجات المحامين، بينما نظّم زملاؤهم وقفات أمام مباني النقابات الفرعية في عدد من المحافظات، تعبيراً عن رفضهم الخضوع لمنظومة الفاتورة الإلكترونية. وعلى إثر تلك التظاهرات، شهد البرلمان تحركاً لمناقشة وحل الأزمة.

في آذار/ مارس الماضي، استيقظ المصريون على خبر رفع سعر صرف الدولار من 15.74 جنيه، إلى 19.60 جنيه، خلال اجتماع استثنائي للبنك المركزي. حينها، أُعلن عن تحرير كامل لسعر الصرف تحت ضغط تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، لكن البنك المركزي عاد في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ليخفض قيمة العملة من 19.60 إلى 24.62 جنيه، والآن ينتظر المصريون تعويماً ثالثاً خلال أيام سيقضي على ما تبقى مكتسباتهم.

بموازاة التعويم الذي يهدد مستوى معيشة المصريين، لا تجد الدولة سبيلاً لتقليل عجز الميزانية سوى فرض مزيد من الضرائب وتوسيع الوعاء الضريبي ورفع كفاءة التحصيل، إذ وصل عجز الموازنة إلى نحو 5.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 436.6 مليار جنيه.

مصلحة الضرائب دعت أصحاب المهن الحرة (المحامون، الأطباء، الفنانون، المحاسبون) الذين لديهم تعاملات مع المستهلك النهائي للتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية في موعد أقصاه 15 كانون الأول/ ديسمبر 2022، ضمن اتجاه الحكومة للتحول الرقمي.

ونتيجة ذلك، تجمع المئات من المحامين أمام نقابتهم في وسط القاهرة ، تعبيراً عن رفضهم الخضوع لمنظومة الفاتورة الإلكترونية، كما أعلنت نقابة الأطباء رفع دعوى قضائية حملت رقم 16759 لسنة 77 قضائية شق مستعجل في مجلس الدولة، لوقف قرار وزارة المالية بإلزام الأطباء بالتسجيل في منظومة الفاتورة الالكترونية.

وبالتوازي، أرسلت نقابة الصيادلة خطاباً لوزير المالية محمد معيط، تطلب فيه إعفاء الصيدليات من منظومة الإيصال الإلكتروني، مؤكدة أن معظم الصيدليات هي منشآت صغيرة يرتكز عملها على التجارة في سلع مسعرة جبرياً، بناء على فواتير شراء، تتضمن مجمل ربح محدد واعتبار كل المشتريات مبيعات.

وأعلنت نقابة أطباء الأسنان رفضها للتسجيل الإجباري في الفاتورة الإلكترونية، ورفضت النقابة العامة للمهندسين إلزام أعضائها بالتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية؛ مشددة على أن أعضاءها لا يزاولون أي نشاط تجاري، وأنها تشترط حين استصدار السجلات الهندسية وتراخيص المكاتب الاستشارية أن يكون المهندس مسجلاً في النظام الضريبي للدولة، مؤكدةً تضامنها مع النقابات المهنية في موقفها الرافض للتسجيل في المنظومة.

وزارة المالية قالت إن نظام الميكنة أو التسجيل الإلكتروني هو آلية لتحقيق محاسبة ضريبية عادلة، ولا علاقة لها بنوع النشاط، بل يلتزم بها الممول الضريبي أياً كان نشاطه.

يأتي توجه الوزارة، الذي سماه المحامون بـ”سياسة الجباية”، في ظل تمثيل الاقتصاد الموازي نسبةً تُقدر بأكثر من نصف الاقتصاد الرسمي، ولا يتم تحصيل ضرائب كافية من ذلك الاقتصاد، ما دفع الحكومة إلى محاولة دمج الاقتصاد الموازي وتحصيل ضرائب منه، لكن هناك الكثير من المخاوف من تطبيق تلك الضريبة لما لها من أثر سلبي على حياة صغار المهنيين.

“كل يوم يطلع قرار، والأسعار بتولع نار، الحكاية مش أتعاب، الحكاية فساد على الباب“.

تعسف حكومي.. و”توجس” مهني

يقول هاني الحسيني، وهو محاسب قانوني لـ”درج” إن المنظومة الإلكترونية تعمل  منذ عام 2020 على الشركات، وكان من المتوقع أن تطبق على المهنيين في غضون عامين، وفقاً لقرار وزير المالية الدكتور محمد معيط، لكن رئيس مصلحة الضرائب قرر في شهر تموز/ يوليو الماضي أن يشمل جميع الفئات المستهدفة ضريبياً.

ويشير الحسيني إلى أن المادة القانونية التي تنظم تطبيق الفاتورة الإلكترونية أجازت تمديد تطبيق المنظومة حتى عام 2024، وبالتالي كانت هذه المادة تتيح فرصة لتطبيق الفاتورة دون تعسف وتعجُّل وبشمول الحجم الكبير للممولين، خصوصاً أن البيئة الضريبية تضم صغار ممولين أصحاب دخول محدودة.

قرار تطبيق الفاتورة يُحمل الممولين (ومنهم صغار) تكاليف عالية في ما يخص الخدمة الإلكترونية والفواتير، وهذا أمر غير مقبول لأن الممول يدفع ضرائب، فلا يعقل أن يدفع تكاليف تحصيلها أيضاً، بحسب الحسيني. “على الدولة أن تتحمل تلك التكلفة عن صغار الممولين (الحرفيين، المهنيين، الأنشطة التجارية الصغيرة، أصحاب المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر) نظراً إلى حجم العائد، وتحفيز الممولين على التطوع لتقديم بياناتهم، خصوصاً في الاقتصاد غير الرسمي”.

ويشرح الحسيني أن الضرائب هي التزام قانوني، يقترن بطوعية الممول. وإذا كان المسؤولون يعتقدون أن النظم الإلكترونية ستغطي كل الأنشطة التجارية والخدمات، فهذا اعتقاد ساذج، فأي نظام يضم ثغرات، وبالتالي يتطلب تطبيقه مقاربة مختلفة بعيدة من التعسف والعجلة وإلقاء مسؤولية التكاليف على الممول وتهديده بغرامات مالية كبيرة. 

ويعتبر الحسيني أن بعض الأحكام القانونية الضريبية تحتاج إلى تعديل. على سبيل المثال، يفرض على التخلف عن تقديم الإقرار الضريبي غرامات كبيرة تصل إلى مليوني جنيه. حتى لو كان الممول خاسراً، العقوبة هنا لا تتناسب مع حجم المخالفة، التي هي تخلف عن تقديم الإقرار، وليست تهرباً ضريبياً.

لماذا يعترض المحامون؟

لا شك في أن الضرائب لا تزال في مستويات منخفضة مقارنة بحجم الاقتصاد، إلا أن السعي الحكومي لتوسعة الوعاء الضريبي يخلق حالة من التوجس في ظل السرعة التي تتحرك بها الحكومة، فعملية دمج الاقتصاد غير الرسمي تتطلب سنوات لتنجز بسلاسة ودون أضرار غير محسوبة على القطاعات التي تشملها الضرائب.

تطرح توسعة الوعاء الضريبي سؤالاً مهماً: هل يمكن فرض ضرائب بدون خدمات؟ 

يتعامل المواطن مع الضرائب على أنها قدر يصيبه من قوى عليا لا يمكن التنبؤ بسلوكها، ويعود هذا الاعتقاد إلى غياب التمثيل السياسي الذي يشرف على السياسة الاقتصادية للبلاد ويراقبها.

احتكار إدارة الموارد من طرف النخبة الحاكمة وتوجيهها نحو المشاريع الكبرى غير المنتجة لا يجعل من المواطن شريكاً للدولة في عملية التنمية، بل مجني عليه على مستويين: الأول، في المشاريع غير الناجحة يجري تنفيذها بالديون، وبالتالي تضطر الحكومة لنزع العملة الصعبة من البلاد لسداد الفوائد والأقساط.

والثاني، في شعور شعبي بأن الاقتصاد في طريقه لمزيد من التدهور، وبأن قنوات التمويل الخارجية (الخليج وصندوق النقد) لم تعد مفتوحة بالكامل، وبالتالي اتجهت الحكومة نحو جيوب المواطن مباشرة للتعويض، بهدف تمويل مشروعاتها الضخمة في ما يخص البنية التحتية ومدن الأشباح، كما يسميها المصريون، أي المدن الجديدة في الصحراء.

وفي السياق نفسه، يقول المحامي ياسر سعد، لـ”درج”: “الدولة عادةً تُحصِّل الضرائب مقابل خدمات، لكن المحامين خارج منظومة التأمين الصحي الحكومية، وكذلك التأمين الاجتماعي، والمحامي ممنوع من التمتع ببعض الامتيازات في ما يخص البنوك أو تأسيس الشركات أو العمل في وظيفة أخرى”.

ويضيف، “نحن لسنا ضد فرض ضرائب، لكننا نريد ضرائب تتناسب مع ظروف مهنتنا، وتطبيق الفاتورة الإلكترونية كان يستوجب حواراً مجتمعياً ليس مع نقابة المحامين فقط، بل مع جميع النقابات المهنية، لأن القانون يمس حقوق المهنيين ككل”.

ويشير سعد إلى أن الجانب المهني يختلف عن أي ممول آخر لمصلحة الضرائب، وخصوصاً في المسائل التي لا تكون أسعارها ثابتة، كما أن ارتفاع الرسوم يومياً وشهرياً، يتسبب في تغيير أتعاب القضايا.

ويتوقع سعد تأجيل فرض الفاتورة الإلكترونية بعد اعتراض النقابات المهنية كالمحامين والصيادلة، والتظاهر ليس وسيلة الضغط الوحيدة، “بل ما نعول عليه هو الامتناع عن توريد الرسوم للمحاكم، وإذا ما استمر الوضع هكذا سنصل إلى إضراب عام للمحامين”.

يقول أحد المحامين الذين شاركوا في الاحتجاجات لـ”درج” رافضاً ذكر اسمه، إن الفاتورة الإلكترونية تحول المحامي إلى تاجر يبيع ويشتري الموكلين، وتجبره على الإفصاح عن بيانات موكله، وهذا طعن في مهنيته.

ويضيف: “عند تسجيل كل قضية في المحكمة، يدفع المحامي ضريبة لوزارة العدل، فضلاً عن الضرائب غير المباشرة في الدمغات وخلافه”، وبالتالي فإن تحصيل ضرائب إلكترونية يعد ازدواجاً ضريبياً على خدمة واحدة.

يعترض الحسيني على تعبير “الازدواج الضريبي” قائلاً إن “أي نظام ضريبي يتكون من أكثر من ضريبة، ضريبة أرباح، وضريبة قيمة مضافة، وما يدفعه المحامون عن تسجيل القضايا هو ضريبة قيمة مضافة يتحملها المستهلكون، فالأتعاب التي يدفعها الموكل تضم ضريبة القيمة المضافة، أما كل إيرادات المحامي السنوية فعليها ضريبة أرباح هو ما تستهدفه الفاتورة الإلكترونية”.

الحق أم الضرورة… يوميات شعب “محتاس”

يوضح الباحث الاقتصادي محمد رمضان لـ”درج” أن المهنيين يسجلون في منظومة الفاتورة الإلكترونية من أجل حصر الدخل، وهذا أمر ضروري لا غنى عنه في الاقتصاد المصري، مضيفاً: “يمكن تفهم استياء بعض الفئات المهنية التي تضطر إلى دفع رشاوى للجهاز الإداري من أجل تمرير عملها، وبالتالي دخلها المسجل في الفاتورة لن يكون حقيقياً، ومن حقها أن تطالب بإعفاءات ضريبية أو وضع حد أدنى للأتعاب بالنسبة إلى المحامين، ولكن لا يمكنها أن ترفض المنظومة بالكامل لأنها ستقلل من التهرب الضريبي”.

ضرائب الدخل في مصر مهمة جداً في ظل اتساع حجم الاقتصاد غير الرسمي، بحسب رمضان، فمعظم الشركات العاملة في البلاد فردية يملكها أصحاب مهن حرة، كما أن ضرائب الدخل أكثر عدالة من أنواع الضرائب الأخرى، برغم إشكالاتها، لكونها تصاعدية.

يؤكد الباحث أن الحكومة ستضطر لفرض ضرائب استهلاك في حال لم تتمكن من جمع ضرائب الدخل، أو ضرائب على القيمة المضافة، وهي ضرائب غير عادلة، لأن الناس يدفعونها على السلع بغض عن النظر عن مدخولهم، إضافة إلى أن عدم تحصيل ضرائب الدخل يتسبب في رفع نسبة التضخم، وبالتالي إذا أفلت المهنيون من ضرائب الدخل، فسيدفعون ضريبة خفية تسمى التضخم.

يعتبر رمضان أن الحصيلة الضريبية تحتاج إلى إعادة هيكلة لتكون معتمدة على ضرائب الدخل والأرباح والثروة، بدلاً من الضرائب غير المباشرة مثل ضرائب المبيعات.

ويلفت إلى أن معدل الضرائب على المهن الحرة ليس منطقياً. تقديرياً، تجمع الحكومة المصرية نحو 90 مليار جنيه سنوياً ضرائب على الدخل، يدفع معظمها الـ5 ملايين موظف حكومي، ولا تساهم المهن الحرة إلا بـ4 مليارات كل سنة، رغم أنه من المفترض أن يدفعوا 30 ملياراً، بما أنهم يمثلون ثلث القوى العاملة في البلد.