fbpx

اليوم العالمي لـ”العربية”:
على أساتذة اللغة الاعتذار من تلاميذهم!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أقدّر ما علمتني اياه حصة اللغة العربية لكنني أيضا أحبذ لو لم تكن اجتياحاً آخر للشعور والكلمة الباحثين عن كسر قيود ترعرعنا عليها حتى أمست جزءا منا ومما نكتبه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الصف الخامس يبدأ “تلقين الإبداع” وهي سيرورة قسرية يمتهنها أساتذة اللغة العربية عندما يحولون اللغة الى تقنية لاصطياد العلامات. ترسم استراتيجية يجمع خلالها التلاميذ القليل من العلامات، ما يكفي للنجاح. تطوع اللغة ويروّض الخيال في سبيل نجاحنا الوهمي بالتعبير الكتابي العربي. أحاول أن أتذكر: كيف ننجح بالتعبير، إن كنا لا نعبّر إلا عن رغبات الأساتذة ووزارة التربية واحتياجاتنا إلى علامة أو علامتين زائدتين؟ “هناك من يرسب بسبب علامة”، أعرف الإجابة مسبقا عن هذا السؤال لكنها غير مقنعة.

لكل تلميذ مراده من حصة اللغة العربية لكننا كلنا بحاجة إلى تعلّم التعبير عن أنفسنا. في سلم الأولويات للمدارس العربية، عادة ما تكون اللغة أولوية على المواد التعبيرية الأخرى كالمسرح والرسم والموسيقى التي قد تغيب تماما عن مناهج الكثير من المدارس أو تكون ثانوية في معظم الحالات ولا تشكل علامة فارقة في نجاح الطالب أو رسوبه. لذلك، تعليم التلاميذ التعبير عن أنفسهم هو الواجب الأخلاقي الأول والأهم لمعلمي اللغة العربية. 

لكن علاقتي مع اللغة العربية تمتد الى ما قبل اكتشافي حاجتي للتعبير وتتجذّر بهروبي وعائلتي إلى بلد أجنبي خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 2006. عندها، لم تكن اللغة إلا سبيلا للتواصل البدائي والتعبير عن الحاجات البيولوجية الأساسية لطفلة تبلغ خمسة أعوام. لكن حتى هذا المراد الساذج استحال للاذان الأجنبية التي لم تحتمل وقع أحرف كالقاف والحاء والظاء التي وضعتني في خانة “الترك” بالنسبة لغير العرب. 

تسمية “تركية” جعلني أدرك العلاقة الوطيدة بين اللغة والهوية في عمر صغير. لكن فشلي بتكوين علاقات واحراز علامات وصعوبة التواصل حتى مع عائلتي في المهجر جعلني أتيقن من وجوب تعلم لغة الاغتراب. ترافق تعلم اللغة مع الشعور بالانتماء فاكتملت ثلاثية اللغة-الهوية-الانتماء في ذهني وتجلت في علاقاتي مع الآخرين المنتمين الى “الهوية ذاتها”. 

تعلمت كل اللغات التي أعرفها مكرهة. حتى أننا جميعا تعلمنا اللغة قبل أن نتعلم الاختيار.

الاسبانية ليست لغة معقّدة. تتماهى أحرفها مع الأحرف الإنجليزية التي تعلمتها في المدرسة في لبنان. يضاف إليها حرف واحد “ñ”. بالنسبة إلى عقلي العربي، كان حرف نون عليه مدة الألف ولم يكن نطقه صعباً. لكن تعلمه يعني أنني بدأت أدمج هوية جديدة بالهوية التي امتلكتها لخمس سنوات. والهوية هنا تعني اللغة فكلما تعلمت كلمة جديدة بالاسبانية ازددت يقيناً أنها هويتي الجديدة حتى أمست أحاديثي مع الشق اللبناني من عائلتي تقتصر على“Hi”  بسيطة. 

حاولت عبر كلمة بسيطة سقطت سهوا في قاموس عائلتي العربي أن أمد أواصر الحب الذي بالكاد عرفت لفظ حرف الحاء فيه من أميركا اللاتينية الى لبنان. حاولت عبثا أن أعيد تعريب الكلمات لأعبر عن amor  بلغتي الأم التي تعلمت لاحقا أنها تتضمن 14 لفظاً للحب. لأكتشف أن شظايا الرصاص بعثرت تكدس المشاعر فهوت مع الجثث في لبنان وتطورت عندي مشاعر أخرى تجاه “لغتي الأم”. مشاعر هي أبعد ما يكون عن حنان الأمومة. 

اضطررنا إلى العودة. حملت معي الكثير من الذكريات ولغة جميلة ورقيقة لكنها لا تفيد التعبير في لبنان. دربت قلمي على الكتابة من اليمين الى اليسار مجددا ولساني على لفظ أحرف لم تعد موجودة في قاموسي. الحاء هي h والقاف هي k والثاء لا توجد أصلا في الاسبانية!  ناهيك عن تعقيدات المنهج اللبناني الذي يفرض تعليم الانجليزية والفرنسية.

تعلمت كل اللغات التي أعرفها مكرهة. حتى أننا جميعا تعلمنا اللغة قبل أن نتعلم الاختيار. ما من شخص لا يعرف لغة، وتعلم اللغات أصبح بمتناول الجميع بشكل شبه مجاني وإلزامي في المدارس والجامعات، لم يعلمنا أحد على التعبير. أدق ما فعلته المدرسة هو استبدال لفظ ”التعبير الكتابي” بلفظ “إنشاء”. تيقنت من دقة استبدالها هذا اذ أنها لا تعلمنا التعبير في هذه الحصة من اللغة العربية بل تعلمنا أن ننشئ نصاً كما ننشئ شركة، مكدسين ما يكفي لتحقيق النجاح!

قررت أن أدع اللغة العربية لغيري وتكرر حصولي على علامات رديئة مثل 60/13 التي غالبا ما أخفيتها عن أمي التي لا تعرف العربية أصلا وتجد صعوبة في نطق حروفها. “المهم أن تنجحي ومن ثم تمارسين مهنة لا علاقة لها باللغة” تطمئنني المعلمة. لذلك لم تكن الكتابة شأني قط حتى أصبحت الوسيلة الوحيدة للعلاج المجاني. ألفت الأحرف التي غرقت بغموضها ومكّنتني بعض الكتب من التصالح مع ما خشيته لفترة طويلة. لكن من يصالح تلاميذ جيلي الآخرين مع اللغة؟ من يعطيهم فرصة أخرى ليكتبوا دون أن يقيمهم أحد ويتصالحوا مع بياض الصفحة الناصع بلا الخوف من الفشل؟ من يعلمهم، أن حقهم في كتابة قصتهم الرديئة التي لن تربح جائزة نوبل، يجب أن يكون محفوظاً؟ 

اليوم، أكتب لأن كتاباتي التي قد تكون رديئة أحيانا هي تذكرة العبور الوحيدة التي أملكها إلى بلاد أكثر استقرارا. هي الملجأ الآمن الذي لا تهدد فيه أخطائي العبثية ولا فكرتي التي أتّكئ عليها ولا اللاوعي المتجلي بين الأسطر. هي الطريق الوحيد للسفر عبر الزمن الى طفولة أكثر أمانا لا يباغتها لجوء قسري مهدد باطلاق النار. ولا تسخر منها بسمات بلهاء لتخبّطها بين لغات عدة. ولا يحكم عليها أستاذ وفق معايير موحدة وقوالب جاهزة تطلب منا سرد قصص بسيطة لا حرية فيها للخيال. 

“أخبرنا عن العطلة الصيفية/ أعد صياغة قصة النملة والدبور/ صف فصل الشتاء/ أخبرنا عن نزهة قمت بها مع أصدقائك” تتكرر هذه الأسئلة وغيرها كل عام مانعة أي محاولة للخيال أو للفهم العميق لما نشعر به ونواجهه. ماذا لو لم أستطع حل مشكلة في طفولتي؟ ماذا لو لم أستمتع بالعطلة الصيفية أو بالإجازة الشتوية؟ ماذا لو لم يكن لدي أصدقاء أذهب معهم في نزهة؟ يأتي الرد سريعا: “تخيلي لو أن ذلك حصل واكتبي عنه”. 

الأسئلة العبثية توقظ بكل شخص منا ذكريات لا تضمن “النجاح” وقد لا تقولب في الشكل الأمثل للنص الذي تحدده وزارة التعليم. لكنها حتما تعني شيئا لكل تلميذ لا يستطيع التعبير عنها حفاظاً على قدسية معايير الكتابة الإنشائية. 

أقدّر ما علمتني اياه حصة اللغة العربية لكنني أيضا أحبذ لو لم تكن اجتياحاً آخر للشعور والكلمة الباحثين عن كسر قيود ترعرعنا عليها حتى أمست جزءا منا ومما نكتبه. حبذا لو لم تكن قيداً آخر يطلب منا بازدواجية الكتابة التي يجب أن تكون تحرراً من كل قيد. لكنني أيضا مدينة بالاعتذار للنظام التعليمي بأكمله ولمعاييره المثيرة للشفقة التي يعتمدها لقياس “نجاحنا بالتعبير الكتابي” فإنه، على الرغم من القيود الاعتباطية التي فرضها، جهّزني أتم تجهيز لمواجهة رئاسة التحرير.     

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.