fbpx

مباراة فرنسا – المغرب وتوظيفها سياسيا من اليمين المتطرف

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

جميع التقارير التلفزيونية والتحقيقات الصحفية التي رصدت تفاعل أبناء المهاجرين المغاربة والمغاربة المجنسين، أكدت أن هذه الشريحة منحازة للفريقين على حد سواء، لا بل انتشرت في أوساطهم عبارة موحدة: “لا تطلبوا منا الاختيار بين الأب والأم”. ولو أن بعضهم أبدى ميولاً للمغرب كونها لم تدخل نادي حاملي اللقب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يزال الرأي العام الفرنسي يذكر المباراة الودية التي جمعت في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2001 منتخبي فرنسا والجزائر في باريس. أريد لهذه المباراة أن تكون خطوة على درب مصالحة الذاكرة الفرنسية – الجزائرية. لكن اجتياح الجمهور الجزائري لأرضية الملعب، وإيقاف المباراة من قبل الحكم، بعثا برسائل سياسية مغايرة في اتجاهات عدة: إن لجهة التساؤل عن مدى استعداد الرأي العام الشعبي للتفاعل إيجاباً مع جهود المصالحة المنشودة أو عن مدى فعالية سياسة اندماج المهاجرين في فرنسا. وذهب البعض أبعد من ذلك ليضفي على الحدث بعداً أمنياً: فالجزائر الخارجة للتو من العشرية السوداء من جهة وأحداث 11 أيلول/ سبتمبر التي وقعت قبل شهر من جهة أخرى، دفعت للتساؤل عن مدى تغلغل الأفكار الجهادية في أوساط الشباب. 

انطلاقا من استحالة فصل السياسة عن الرياضة، انطوت مباراة المغرب وفرنسا الأخيرة على أبعاد رمزية بطبيعة الحال: فالمغرب واجهت البلد الذي انتدبها، كما أن وصول أسود الأطلس إلى المربع الذهبي مؤشر على صعود منتخبات دول العالم الثالث وقدرتها على مقارعة من احتكر كأس هذه البطولة. علاوة على ذلك، وجود جالية مغربية كبيرة في فرنسا إلى جانب أجيال من أبناء المهاجرين المغاربة يدفع للتساؤل، أقله من باب الفضول، عن منتخبهم المفضل خلال اللقاء المذكور. 

لا يمكن مقارنة نصف نهائي كأس العالم 2022، باللقاء الذي جمع فرنسا بالجزائر قبل 21 عاما، لاعتبارات عدة: اللقاء المغربي – الفرنسي لم يكن ودياً بل أتى في سياق البطولة الرياضية الأكثر شعبية في العالم، وفي مباراة في النصف نهائي. بالتالي، الاعتبارات “غير الكروية” كانت تلقائيا أقل حضوراً، على عكس المباراة الودية بين الجزائر وفرنسا التي نظمت خدمة لأغراض غير رياضية. 

انطلاقا من استحالة فصل السياسة عن الرياضة، انطوت مباراة المغرب وفرنسا الأخيرة على أبعاد رمزية بطبيعة الحال.

بالمقابل، استقلال المغرب عن فرنسا لم يعمّد بالدم ولم تتخلله مآس إنسانية ما تزال جرحا نازفاً لغاية اليوم. وعليه، الحساسية التي تطبع العلاقة بين فرنسا والجزائر، لا يمكن اسقاطها على الحالة المغربية، مسألة أكدت عليه الصحف الفرنسية التي اشارت، عشية المباراة، أن ما بين البلدين من صراعات يحمل طابعا سياسياً – دبلوماسياً بحتاً. 

المقصود في هذا الصدد قرار باريس، في أيلول/سبتمبر 2021، بتقليص عدد تأشيرات الدخول الممنوحة للمواطنين المغاربة لحث الرباط على التعاون لاستعادة مواطنيها الذين صدرت في حقهم مذكرات ترحيل،  وإصرار المغرب على انتزاع اعتراف فرنسي بسيادته على الصحراء الغربية. خطوة تمتنع باريس عن الإقدام عليها تجنباً لاستفزاز الجزائر.

على خط مواز، أرادت الصدفة في أن تجري المباراة عشية زيارة، كان مخططاً لها، لوزيرة الخارجية الفرنسية إلى الرباط.  وهنا أشار أكثر من مصدر صحفي إلى أن نجاح الزيارة يرتبط في جانب منه بآلية تعامل الشرطة الفرنسية مع المشجعين المغاربة، بعد الحديث عن إمكانية اندلاع أعمال شغب.  

لكن اليمين المتطرف الفرنسي قارب الحدث الرياضي من زاويته الخاصة. بطبيعة الحال تعالت أصوات من قبل بعض مشجعي المنتخب المغربي لتضفي على المنافسة طابعاً سياسياً كالحديث عن الانتقام من المستعمرين (الإسبان والبرتغال والفرنسيين) أو اعتبار الإنجاز المغربي محطة لرفع لواء الإسلام والعروبة. لكن تلك الشعارات انحصرت في الإطار الفردي ولم تأخذ طابعاً سياسياً.

جميع التقارير التلفزيونية والتحقيقات الصحفية التي رصدت تفاعل أبناء المهاجرين المغاربة والمغاربة المجنسين، أكدت أن هذه الشريحة منحازة للفريقين على حد سواء، لا بل انتشرت في أوساطهم عبارة موحدة: “لا تطلبوا منا الاختيار بين الأب والأم”. ولو أن بعضهم أبدى ميولاً للمغرب كونها لم تدخل نادي حاملي اللقب

بالرغم من ذلك، تمسّك اليمين المتطرف بتصدير روايته المكررة. عدد من الشخصيات السياسية المتطرفة استهجنت نزول مشجعي المنتخب المغربي للاحتفال عقب تأهله للدور النصف النهائي: المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، إريك زمور، تساءل عن ردة فعل الملك المغربي في حال نزول آلاف الفرنسيين إلى شوارع مراكش للاحتفال. برأي زمور، سيشعر المغاربة بمصادرة بلدهم، ليكمل تصويبه على مزدوجي الجنسية المنحازين للمنتخب المغربي. 

من جهته، بادر السناتور الفرنسي الموالي لزمور، ستيفان رافييه، إلى نشر مقطع مصور لجماهير غير فرنسية وهي تحتفل من على جادة الشانزليزيه، مصحوبة بالمعزوفة المكررة: هل ما زال هناك شك بحتمية الاستبدال الكبير؟

رئيس حزب التجمع الوطني، جوردان بارديلا، حاول التمايز ليبدو أقل استفزازا: خرج على إذاعة RMC متناولا أحداث الشغب المفترضة حتى قبل انطلاقة المباراة. فيما أظهرت الوقائع الميدانية مبالغة وتهويلاً على هذا الصعيد، علاوة عن توقيف الشرطة الفرنسية لعشرات اليمينيين المتطرفين المنتمين لمجموعات عنصرية غايتها افتعال الشغب.  

لكن تغريدة سابقة لبارديلا نشرها بعد فوز منتخب بلاده ضد انكلترا كشفت مدى تماهيه مع زمور: اكتفى بارديلا بتوجيه الشكر لأوليفيه جيرو الذي أحرز الهدف الثاني وللمدرب ديديه ديشان دون أي ذكر لاورليان تشواميني صاحب الهدف الأول لأنه من أصول كاميرونية.   

بطبيعة الحال لم يكن بارديلا الوحيد الذي تناول هذه المسألة، إريك زمور انتقد ضم لاعبين من أصول أجنبية إلى المنتخب الفرنسي الذي لا بد أن يكون انعكاساً لمجتمعه. وامعاناً في المقارنة، تساءل زمور عن ردة فعل ملك المغرب لو ضمت تشكيلة بلاده عشرة لاعبين يحملون أسماء فرنسوا وجان كلود. 

إلى جانب هذه المواقف السياسية، غرقت وسائل التواصل الاجتماعي بالعديد من التغريدات لأنصار اليمين المتطرف، كان أبرزها مقطع مصور من داخل سجن فرنسي يظهر احتفال السجناء بتأهل المنتخب المغربي في تكرار لمعزوفة قديمة تربط بين الهجرة وخرق القانون. 

أمثلة أظهرت مرة إضافية جوهر مشروع اليمين المتطرف الفرنسي القائم على نبذ التعددية والتنوع واعتبار المهاجرين تهديداً ثقافياً لفرنسا. 

عدد من الأكاديميين المختصين في علم الاجتماع بادروا إلى شرح خلفيات وأبعاد هذا الانتماء المزدوج: الباحث في معهد CNRS والمختص في قضايا الشباب، مروان محمد، اعتبر في مقابلة مع موقع Mediapart الاستقصائي، أن هيكلية اليمين المتطرف تجعله عاجزاً عن استيعاب طبيعة هذا الانتماء المزدوج المبني على “الرغبة في فوز المغرب دون تمني خسارة المنتخب الفرنسي”. 

وأضاف الباحث الفرنسي ذي الأصول المغربية، أن الروابط الأسرية هي التي عززت الانتماء المذكور واضعاً إياه في إطار الإرث العائلي الذي تتناقله الأجيال بصورة تلقائية، وهو ليس حكراً على المغاربة. برأيه، يسعى اليمين المتطرف إلى توظيف الأمر سياسياً عبر دفع مزدوجي الجنسية و/أو أبناء المهاجرين “لاختيار خصم”.  

من جانب آخر، كثر الحديث، في الأيام الماضية، عن لاعبي المنتخب الـ 16 من مزدوجي الجنسية الذي نشأ بعضهم في الضواحي الأوروبية وترعرع رياضيا في أندية غير مغربية، ليصف البعض أسود الأطلس “بمنتخب المهاجرين”. هناك من  قارب هذه الإشكالية من زاوية الانتقاص من الإنجاز المغربي  لكن مروان محمد وجد في الخلفية الاجتماعية لعدد من لاعبي المنتخب المغربي امتداداً لظروف الكثير من أبناء المهاجرين الذين يعانون من التمييز والتهميش. من جهته، وصف الباحث المختص في قضايا الهجرة، مهدي علوية، اللاعبين المذكورين بأبناء العولمة حالهم حال مختلف المهاجرين المغاربة خاصة وأن بلدهم على تماس مع باقي العالم. 

وأضاف عليوة أن الظروف والتحديات الشخصية التي عرفها عدد من اللاعبين المغاربة في طفولتهم وعلى رأسهم سفيان بوفال وأشرف حكيمي أو حتى مسيرة المدرب وليد الركراكي، تروي جانباً من حكاية الهجرة المغربية إلى أوروبا والعيش في الضواحي الفرنسية والاسبانية والايطالية والهولندية. فتشجيع المغاربة المجنسين أو الفرنسيين من أصل مغاربي لأسود الأطلس، ينطوي كذلك على أبعاد عاطفية بحسب عليوة الذي توقف عند المقطع المصور للاعب سفيان وهو يرقص مع والدته. وفقاً لعليوة، هذه اللفتة أشبه ما تكون بتكريم للسيدات المهاجرات اللواتي عانين من التمييز والوصم. حديث عليوة عن مساهمة المنتخب المغربي في كتابة فصول من الهجرة المغربية، يتقاطع مع مقطع مصور إنتشر على تويتر، بعد تأهل المغرب إلى النصف النهائي، وفيه يظهر مشجع يحمل العلم المغربي معتبراً هذا الإنجاز تكريماً لعمال المناجم المغاربة الذين هاجروا إلى فرنسا منتصف القرن الماضي. 

لم يكن صعبا التنبؤ بحملة اليمين المتطرف هذه، لذا بادرت شخصيات وجهات رسمية إلى التصدي لها مسبقاً. الأكثر نشاطاً كانت سفارة فرنسا في المغرب: عبر حسابها على تويتر، غردت لبث أجواء التآخي. أبرزها صورة نشرتها، صبيحة مباريات الربع النهائي، تجمع كيليان مبابي وأشرف حكيمي في جلسة ودية مصحوبة بالتعليق التالي “نتمنى التوفيق للجميع، هيا أيها الزرق، هيا أسود الأطلس”. كما سارعت السفارة إلى تهنئة المنتخب المغربي بعد تأهله إلى النصف النهائي.

أحد الناشطين السياسيين والنقابيين اليساريين نشر صورة تعكس حالة الود بين مشجعي المنتخبين مطالبا بتجاهل تصريحات السياسيين العنصريين وتهويلهم بالحرب. من جهته حث الكاتب الفرنسي – اللبناني جاد دهب على تجنب الوقوع في الفخ الذي ينصبه اليمين المتطرف

حتى إيمانويل ماكرون لم يتردد في تهنئة “الأصدقاء المغاربة” على ما أنجزوه. ومستعيناً بصورة تجمع مبابي بحكيمي، غرد الرئيس الفرنسي، بعد المباراة، قائلا إن المنتخب المغربي ترك بصمة في تاريخ كرة القدم. كذلك فعل رئيس معهد العالم العربي، جاك لانغ، معتبراً في أحد منشوراته أن وجود بطاقة تأهل يتيمة للمباراة النهائية لا ينتقص من انتصار المنتخب المغربي.