fbpx

سلمان رشدي وآخرون… لغز الدمى التي يحركها “العدو” في أميركا وإيران وسوريا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انتقاد أميركا وتفكيك سلوكياتها وأخطاء القائمين السياسيين فيها، من النقاط التي تميز النظام الأميركي عن الأنظمة التي نعيش فيها، فكل الأنظمة تفرض على الأفراد قيماً بدون مبررات منطقية لكن إمكانية السخرية والانتقاد أوسع في الولايات المتحدة منه في منطقتنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ما نحن إلا دمى، تشد خيوطها قوى مجهولة، ما نحن إلا عدم. لسنا نحن أنفسنا، بل السيوف التي تتصارع بها الأشباح، لكن المرء لا يستطيع أن يرى الأيدي التي تحركها، كما في حكايات الأطفال”، دانتون من شخصيات الثورة الفرنسية (موت دانتون، جورج بوشنر).

مع كل حركة تمرد شعبي أو ثورة اجتماعية، يتكرر رد فعل القائمين على الأنظمة الشمولية التي ثارت عليها، فدوماً ما تعجز السلطات القمعية والمفكرون الموالون عن تخيل تحرك الشعوب من تلقاء ذاتها، ودوماً ما يبحث الفكر الحاكم عن مؤامرة أو محرضين من الخارج. 

يجد الحاكم نفسه في حال من العجز الكامل عن تفهم تمرد الشعوب لأجل مطالبها. “من أنتم” قال القذافي، أما الرئيس السوري فأطلق على المحتجين وصف “مندسون”، الحاكم الإيراني تحدث عن دمى يحركها الغرب وتحديداً إسرائيل. 

محاولات تتكرر لإسباغ وصمة المؤامرة على الراغبين والراغبات في التغيير ولا شك، ولكن بشكل أساسي لاتهامهم بالخيانة والعمالة. لذلك، كتبت الفيلسوفة حنة أرندت عن صعوبة نجاح الثورات في ظل الأنظمة التي تملك عدواً سيهدد مستقبل التغيير، كما هو حال العدو الأميركي والإسرائيلي الدائم بالنسبة إلى السلطة الإيرانية. 

لكن هل حقاً هي تقنية سلطوية لمحاربة المطالبين بالتغيير أم أن الفكر الحاكم المتسلط يضيق في قدرته على تخيل المعارضة، التنوع، والاختلاف، ويصبح كل أداء ورأي مغاير نابعاً من أصابع داخلية أو خارجية تحرك أصحابه وصاحباته؟

لا شك في أن الفرضية الثانية محتملة أيضاً، لقد سبقت الاحتجاجات الإيرانية بشهر أو شهرين حادثة رمزية في توقيتها، حين نفذ أحد أتباع والمتأثرين بفتوى الخميني بإهدار دم الكاتب سلمان رشدي، وأقدم على طعن الروائي بغاية القتل في أحد التجمعات الثقافية في نيويورك – الولايات المتحدة، إن المهاجم التابع والمخلص لفتوى بعد 3 عقود من صدور الرواية، طعن جسد الكاتب مرات عدة، ففقد الروائي سلمان رشدي عينيه، وأصيب بأضرار كبيرة. 

ألا يمكن توقع أن أحد مسؤولي السلطة الإيرانية ما زال يعتقد أن سلمان رشدي وراء الاحتجاجات الإيرانية التي تلت الحادثة بأسابيع أو أشهر على أبعد تقدير؟ قد يتلهف المحللون السياسيون المولون للنظام الإيراني معلومة وقوف سلمان رشدي وراء التظاهرات الشعبية، لا بد من متهم خلف الحرية التي يطالب بها الشعب.

على إثر الاعتداء على الكاتب المتميز، سارعت مجلة “الأخبار” اللبنانية إلى إصدار ملف بعنوان “بعد 3 عقود على آيات شيطانية سلمان رشدي مطعوناً في نيويورك”، في مقدمة الملف، يؤيد القائمون عليه حق الكاتب في التعبير عن رأيه، ويدين الملف محاولة تصفية الكاتب جسدياً، مع التحفظ على عدم استعمال قضية رشدي من قبل القوى الاستعمارية: “لزيادة التنكيل بالشعوب المستضعفة والنظرة الدونية لها كشعوب متناحرة أو ذات نزعات انتحارية، في حين أن جلها صنيعة دوائر استخبارات غربية لإلهاء الشعوب عن صوغ أي مشروع تنويري وتقدمي يطرد الكولونياليات التقليدية والحديثة من منطقتنا”. 

حملت شخصيات الدمى مضامين سياسية منها دمية آزادي، دمية الشبيح. وحملت أبعاداً اجتماعية وثقافية كما في العرض المسرحي “خيال كورديللو”.

يبدو واضحاً من نص المبادرة المشكورة، أن حرية التعبير أو الاعتداء على كاتب ليس أولوية النص التقديمي، بل هي عدم استغلال الحادثة الجريمة لزيادة التنكيل بالشعوب في المنطقة التي تجري كل أحداثها بناءً على مؤامرة “صنيعة استخبارات غربية”. وفق المنطق الاتكالي ذاته، فإن ما يحدث معنا نتاج تخطيط غربي، يمنعنا من “مشروع تنويري وتقدمي”، كيف يمكن قلب الحقائق على هذه الدرجة من التعارض، فالفتوى بقتل الكاتب والمتظاهرين والتشديد على تحليل دمه بسبب أعماله الأدبية هي السلوكيات القاتلة لأي احتمال مشروع تنويري أو تقدمي. 

مجدداً، لا شك، في أن مبادرة جريدة “الأخبار” بنشر الملف قرار مهني ويتضمن التعاضد العميق، لكن الفكر الكامن وراء النص يعود مجدداً إلى فكرة أن دوائر في البعيد تصنع مصيرنا الواقع في كل لحظة. “إننا مجرد دمى في يد العدم” يقول (دانتون) لكن في سياق آخر، دمى في حال لم نتمرد على الفساد والعنف الذي نشهده من حولنا، فالتحول بين الإنسان والدمية مرهون بفاعلية أخلاقية، يتابع دانتون: “ما هذا الذي يكذب فينا، ويفجر، ويسرق، ويقتل؟ ما نحن إلا دمى يحركها العدم”.

نحن أيضاً ديمقراطيون في انتقاد الولايات المتحدة…

تلعب الدمى دوراً مركباً ومبدعاً في الحضارة الإنسانية، وخصوصاً في فنون المسرح والأداء، واستعملها الفن لإعطاء القدرات التعبيرية مدى أوسع وأكثر تعقيداً من الجسد أو الحضور الإنساني، وفي مسرح الكابوكي الياباني يبقى محرك الدمية حاضراً على المسرح كإنسان، فيما هو يخدم حركة الدمية وانفعالاتها في الحكاية. في روايته “غضب”، وهي روايته الأولى بعد انتقاله في فترة الاختفاء من لندن إلى الولايات المتحدة، يختار الروائي سلمان رشدي شخصيته الأساسية ميلان سولانكا، رجلاً أكاديمياً في الخمسين من عمره، من أصول هندية يدرس في جامعة كامبريدج، ضاق ذرعاً من حياته وأفكاره، فابتكر دمية لاقت نجاحاً واسعاً، ترك على أثرها التدريس الأكاديمي، ليدخل عالم التلفزيون والشهرة. اسم الدمية Little Brain، بمعنى العقل الصغير الذي يلعب بعقول المشاهدين/ت ويلقى نجاحاً تلو الآخر. تتركز الرواية على نقض النظام الرأسمالي الأميركي، وعالم الشهرة والتلفزيون، وعالم الدمى في الولايات المتحدة. وهذا ما تهمنا الكتابة عنه، توعية القارئ العربي على الكاتب الذي ينقض كل الأنظمة، وليس الإسلام فقط، وخصوصاً أن كل من تهجم وحلل قتل رشدي لم يقرأوا أدبه بتاتاً. ولكي نبرهن للأنظمة الشمولية أن النقد مستمر في الأدب على أي نظام سيخطط للحكم، وأن سلمان رشدي قدم رواية رائعة في نقد الولايات المتحدة كما هو الحال في نقد باكستان والهند والإسلام.  وهذا ما يختلف فيه الروائي المنتمي إلى نظام ديمقراطي، حيث ينتقد النظام الذي يعيش تحت حكمه، ما يغيب في ممارسات المثقفين/ات في الأنظمة الشمولية القمعية حيث يجب فقط انتقاد النظام العالمي، وإيجاد أسباب المؤامرات لتبرير التراجع في المستوى السياسي والاقتصادي.

تاريخ الفلسفة في حوارات الدمى التلفزيونية

ينتقد رشدي من خلال روايته هذه، القيم الأميركية خصوصاً في مدينة نيويورك التي وصلها من لندن في خيار يتعلق بشعوره بالأمان أكثر خلال الفترة التي عاشها في عزلة بسبب فتوى القتل. وشخصيته ميلان سولانكا تعيش القوقعة على الذات، فتتداخل في النص الروائي على القارئ الشخصيات العائلية لسولانكا وشخصيات الدمى.

ومن هنا تبدأ رحلة الرواية في تشكيل هويات شخصيات وأمزجة للدمى لتحمل كل منها بعداً ومضامين متنوعة. الدمى الفلسفية، والدمى الفكرية، وهناك “سرافيليت” الدمية القادرة الانتقال والسفر عبر الزمان، ورحلت لأجل حوارات مع الفيلسوف برتراند رسل والفيلسوف اسبينوزا.

أميركا: الآلهة الجديدة القابلة للانتقاد

الكتاب الأول الذي ألفه سولانكا في الجامعة، كان بعنوان “ما نحن بحاجة إليه” الذي يعالج الأوضاع المتغيرة في التاريخ الأوروبي في مشكلة الدولة ضد الفرد: “ستحل الثقافة في العقود المقبلة محل صناعة الأيديولوجيات التي أصبحت بدائية على الشكل الذي كان عليه الاقتصاد وستظهر مصطلحات جديدة لمفوضي الثقافة”. 

بعدها طلبت إليه مؤسسة BBC بأن يقدم مسلسلاً يناقش فيه قضايا فلسفية عن طريق الدمى، سهرة مع الدمى عن تاريخ الفلسفة، وهنا برزت الدمية (سرافيليت) التي بيعت منها آلاف النسح وراحت تحاور كبار الفلاسفة في التاريخ، فاستجوبت غاليلي على طريقة مذيعات الأخبار المبتذلة السوقية، وعرضت عليه إحراق الفاتيكان بوصفه السلطة الدينية التي حاربت ابتكاراته وعلومه. وبرغم النجاحات الجماهيرية والإعلامية، إلا أن سولانكا كان يزداد انعزالاً، وهذا ما يشبه تجربة رشدي مع الناجي من روايته بالتزامن مع تهديد القتل والموت، وكذلك يتعلق الأمر بشخصية المهاجر أو اللاجئ التي تتميز بحضورها الأساسي في كل روايات (سلمان رشدي)، وهنا يناجي المهاجر الولايات المتحدة، لكي تصهره في عنفتها: 

“عمديني يا أميركا، سميني بوذا، شيب، أو سبايك

خذيني في مغامرتك وضعي لي قبعتي، قبعة ميكي.

ارميني في فجوة الذاكرة ودثريني في لا وعيك الجبار.

اجعليني رقماً احمليني بعيداً”.

ويدين الروائي تطبيق حكم الإعدام الذي ما زال قائماً في الولايات المتحدة: “يا أميركا الحلم، أكان لا بد للبحث عن الحضارة من أن ينتهي إلى الربالة والتفاهات. في جشع الألعاب المتلفزة أو التلصصية يوماً إثر يوم، من هدم محل السلطة ليستعيض عنه بالكراسي الكهربائية”. ولقد أصبحت الدمى أيضاً تتناسخ في عالمه كما البشر، فاقدة الخصائص والمميزات لتلبية الجماهير والقنوات الإعلامية. لهذا يفكر سولانكا بصناعة الدمى من الصلصال، في إشارة إلى قصة خلق الإنسان من الطين. وبينما ترتفع معدلات الاقتصاد الأمريكي ومؤشرات النجاح إلا أن سولانكا يميل حنيناً للعودة إلى بومباي في هذه الفترة من حياته، والعودة الأوليسية نسبة إلى حكاية أوليس في الأوديسة الاغريقية ومغامرة عودته إلى منزله بعد حرب طروادة، “العودة” تحدث في نهاية أغلب روايات سلمان رشدي. حيث نتابع حكاية مهاجر أو لاجئ في حال تشتت بين مكان وثقافتين. 

انتقاد أميركا وتفكيك سلوكياتها وأخطاء القائمين السياسيين فيها، من النقاط التي تميز النظام الأميركي عن الأنظمة التي نعيش فيها، فكل الأنظمة تفرض على الأفراد قيماً بدون مبررات منطقية لكن إمكانية السخرية والانتقاد أوسع في الولايات المتحدة منه في منطقتنا، وهذا ما يؤكده ملف جريدة الأخبار عن (رشدي)، فالمقالات المهمة التي يحتويها والتي تركز على الجانب الأبدي، لا تذكر انتقاداً للنظام الحاكم في إيران في أي أمر. وتخبر نكتة عن اختبار تنافس في الديمقراطية بين الأميركي والفرنسي والسوري، حيث بإمكان الأول والثاني انتقاد الرئيس وبهدلته، وكذلك السوري يقول: “أنا أيضاً أستطيع أن أبهدل رئيسيكما”. أي بممارسة الديمقراطية على الرئيس الفرنسي والأميركي وليس على رئيسه. 

الدمى السياسية، الدمى الثورية، ودمى الاستيهامات الجنسية

يعيد الكاتب عبر عالم الدمى إدانة الحروب فيبتكر سولانكا في الرواية دمية الجندي الذي يجبر على خوض المعارك، ممثلاً ضحية الأنظمة العالمية، وسولانكا نفسه يصل إلى قاع العزلة ويدخل في عالم من تخيل التواصل مع الدمى، وتداخل الحقيقة والأداء المسرحي اللعبي، ويشعر بالتقارب الجسدي مع دمية، ميلا: خذل سولانكا خجلاً أشبه ما يكون بعار الزاني، وحين تلعثم لسانه ببعض الاعتذارات، اقتربت منه فحف نهديها بقميصه، وأحس بأنفاسها تلامس شفتيه. ثم غاصا بالاستيهامات يوماً بعد يوم، وفي لعبة البابا وابنته الصغيرة، اضطلعت ميلا ميلو بدور الدمية بأناة، مجسدة مشاهد من برامج سولانكا التلفزيونية، وهو كان يمثل دور ميكافيللي، وماركس وغاليلي. كانت هي تجلس عند كرسيه وتدلل قدميه، بينما هو يولد الحوار بالتنافس.

لقد وظفت الدمى أيضاً بطريقة غير مسبوقة في الأعمال الفنية السورية عام 2011، للتعبير عن الكثير من الموضوعات التي رغب الفنان/ة السوري/ة التعبير عنها، وعرفت مسلسلات دمى مثل (يوميات ديكتاتور، فرقة مصامة متة)، “خلصت وفشلت”، ريكاردو، إخراج عملا بعيج، حملت شخصيات الدمى مضامين سياسية منها دمية آزادي، دمية الشبيح. وحملت أبعاداً اجتماعية وثقافية كما في العرض المسرحي “خيال كورديللو”، كتابة وإخراج عمر البقبوق، وانفتحت احتمالات التعبير عند المسرح التفاعلي مع الطفولة كما في تجربة “فرقة أيد واحدة”، مخيم شاتيلا، حين قدمت إحدى المتدربات مشهداً تتمرد فيها الدمية على المحركة، وتطالب بحقوقها وتحسين شروط عملها.

 وفي عرض “دمى أوتوبورتريه” ينتحل الدمية ريكاردو شخصية محركه، ويسرق هويته ليتحرر من مهنة الدمية المسرحية. كل هذه الحكايات المسرحية تؤكد أن التمرد والثورة متخيل حتى في عالم الدمى. هذا ما يحدث في الفصل الوحيد الذي يحمل عنواناً في رواية “الغضب”، وهو “البقاء للأجدر، ارتقاء الملوك الدمى المتحركة”، فتغير الدمى النظام القائم بينها وتفرض نظام قيمها، فتغير من صفات الخالق ليتناسب مع تكوينها، لكن الجماهير استقبلت الثورة بحمى استهلاكية، وبلغت مشتريات مسلسل (ثورة الدمى المتحركة) على موقع أمازون ما تفوق على كل النجاحات السابقة، إنه عالم استهلاكي حتى في تقديره للأحداث السياسية والقيم الأخلاقية. 

يعجز العالم القمعي، عن تخيل ثورة أو تمرد لأسباب تشكل الوعي الوطني، إلا أن حكايات الدمى عبر التاريخ من رواية “يبنوكيو”، كارلو كولودي، 1883، إلى سلسلة أفلام هوليود الشهيرة عن الدمية القاتلة “تشاكي” في أجزائها المستمرة “لعنة تشاركي”، 2012، و”طائفة تشاكي، 2017” تؤكد أن احتمال تمرد دمى حتمي. لذلك، فليحذر كل من لا يتمتع بروح اللعب، وخصوصاً أولئك الجادين والمتخشبين في أنظمة السلطة!