fbpx

استيهامات الجنسانية الكويرية في الحرب والدين:
بين “ميغيل” السينمائي و”رندا الترانس” و”رجل من ساتان”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“عندما سمعت كلمة ترانس للمرة الأولى، أحسست أني ولدت مجدداً، لقد صار لي اسم بحثت عنه طويلاً، لقد استقام معناي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتالى الأعمال الفنية والأدبية التي ترصد الجنسانية العربية المغايرة، أو الكويرية، والتي تتطرق إلى تلك العلاقة المركّبة بين الحرب، الدين، والجنسانية المهمّشة أو المغايرة، وآخرها فيلم المخرجة إليان الراهب الوثائقي الأخير بعنوان “حرب ميغيل”، الذي تتابع فيه أسلوبها السينمائي الباحث في السرد الوثائقي لحكايات شخصيات تتقاطع فيها الجوانب النفسية، التعبيرية، السياسية، والجنسانية. 

فالشخصية الأساسية في الفيلم هو “ميغيل”، ثمرة زواج أب لبناني وأم سورية، يشكل الفارق الثقافي والاقتصادي بين الأبوين أول عقدة في حياته ترافقه في تكوينه الفكري عميقاً. فوالدة ميغيل تتفاخر بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها عائلتها في دمشق، وتتصرف على أساس أنها تمتلك من المعرفة واللياقة ما يخوّلها انتقاد واقع زواجها الحالي في لبنان. وتلمّح العلاقة بين الأبوين إلى العلاقة السياسية بين البلدين في مرحلة الوصاية، ويؤكد ميغيل غياب شخصية الأب في وجه السلطة الأمومية. ويبلغ التصادم الثقافي في العائلة مداه، حين ينضم ميغيل إلى حزب الكتائب اللبنانية المعارض الأبرز لسورية، التي تتغنى الأم بهويتها المستمدة منها. وقد قرأ كثر من النقاد انضمام ميغيل إلى الحرب وحمله السلاح، على أنهما بحث عن الذات المركبة وإثباتها في ميدان المعارك، لتصبح الحرب هنا فرصة البحث عن الهوية الجنسانية أيضاً واكتشاف تجارب الجسد، مما سيؤدي بميغيل لاحقاً إلى صناعة هوية ذاتية عصامية يبنيها بنفسه، لكن ليس قبل مرور سنوات عدة وصولاً إلى تحقيق هذا الفيلم.

كما يتداخل السياسي والجنساني في رواية “رجل من ساتان” لصهيب أيوب، وتكون الحرب اللبنانية أيضاً مدخلاً إلى تجارب اكتشاف الجنسانية. وفي فيلم إليان الراهب، يروي ميغيل تجارب وشهوات جنسية كثيرة تجري أحداثها بين وقائع الحرب، من دون أن يتلكأ الراوي في توصيف أعمق التعابير استيهاماً لتلك التجارب. وتعبّر المخرجة عن تلك المشاعر والانفعالات من خلال توظيف فيديوهات تجمع بين الغرافيك والرسوم المتحركة، وتنجح في تجسيد العالم شديد الكثافة البصرية والنفسية، الذي يجمع بين الجنس، الحرب، الدين، وأحلام الجسد. وكما في رواية “مذكرات رندا الترانس” للكاتب حازم صاغية، فإن حكاية الشخصية الرئيسية “رندا”، تتشابك مع أحداث الوقائع السياسية في الجزائر. أما فيلم “حرب ميغيل”، فينتقل بالمتلقي عبر الحرب اللبنانية، الهجرة، الثورة السورية وغيرها من الأحداث السياسية، التي تبقى تتوالى حتى انتقال ميغيل الى العيش في إسبانيا، حيث يولد مجدداً يوم استقراره في برشلونة على حد تعبيره.

تتالى الأعمال الفنية والأدبية التي ترصد الجنسانية العربية المغايرة، أو الكويرية، والتي تتطرق إلى تلك العلاقة المركّبة بين الحرب، الدين، والجنسانية المهمّشة أو المغايرة

الأسماء والذات، الهوية والجسد

“إنها ولادة كاذبة وقائمة على مجرد تغيير الاسم”، تقول الراهب في لقاء إذاعي، ليصبح تغيير الاسم من ميغيل إلى ميغيل رمزاً للثنائية – الازدواجية، وربما التعددية التي تعيشها الشخصية. وفي رواية حازم صاغية، تتحوّل الشخصية جسدياً وجندرياً مع تغيير الاسم أيضاً، فيموت فؤاد لتعيش رندا على حد تعبير الساردة، التي تروي حكايتها عبر صفحات الرواية بصيغة المؤنث، لنتأكد من أهمية الأسماء والمصطلحات الاستثنائية في حياة الاكتشافات الجنسانية وتغيّراتها. وتؤكد الكتابات الكويرية باستمرار، أهمية البحث عن الكلمات والصفات والكلمات غير التمييزية، أو اللا دونية لميولهم/ن الجنسية. يقول “فؤاد-رندا”: “كنت أرغب في أن يتم التخاطب معي بصيغة المؤنث منذ الطفولة”. وكما في نصوص كتابات نساء كويريات يتضمّنها كتاب “بريد مستعجل”، فإن البحث عن صفات مثل “الشاذ، اللواط، المثلية، الكويرية…”، هو بحث عن مدخل لتوصيف الذات وفهمها، تقول “رندا”: “عندما سمعت كلمة ترانس للمرة الأولى، أحسست أني ولدت مجدداً، لقد صار لي اسم بحثت عنه طويلاً، لقد استقام معناي”.

الدين كمساحة لكبت الاستيهامات الجنسانية وإطلاقها

لا يؤدي الدين دوراً مقيداً لتكوين “رندا الترانس” التي تنتمي إلى عائلة جزائرية من الأشراف، لا تولي المحرمات الدينية أهمية كبيرة. وعلى رغم أنها تتكشف بعض النصوص الجنسية العربية، فإنها تروي قائلةً: “أما الله نفسه، فلم يكن من السهل أن أناشده طبعاً للإنقاذ”. بينما يتميز فيلم “حرب ميغيل” بالقدرة على الولوج إلى استيهامات وفانتاسمات جنسانية تتعلق بالعوالم الدينية، وتبرع المخرجة في إيجاد المعادلات البصرية – السمعية لتجسيد الفانتاسم المستمد من الرموز الدينية والحكايات المسيحية، إضافة إلى أن أحد أبرز استيهامات “ميغيل” الجنسانية هو تجربة في سيرة حياة المسيح، تستعيد تجربة مسح القدمين وتقبيلهما من الآخرين، وهذا ما تحققه له المخرجة ضمن مجريات الفيلم موثِّقة التجربة عبر كاميرا الفيلم السينمائية عالية الجمالية، من دون نسيان أن تصوير الجنسانية المستلهمة لعناصرها التخيييلية من الدين وعرضها، يُعتبر جرأة فنية في ظل الرقابة السينمائية العربية واللبنانية.

الشخصية الكويرية بين الرواية والفيلم

في حديث مع الكاتب صاغية، أخبر أنه نقل، في الرواية، سيرة رندا الذاتية كما روتها بدقة، مع التحقيق والبحث في مجال الأحداث السياسية التي تجري بين الجزائر وبيروت وبلجيكا، حيث تنتقل الحكاية وتُسرد على لسان الشخصية الأساسية “رندا” بأسلوب السيرة الذاتية. بينما تتابع الراهب أسلوبها السينمائي المميز في بناء شخصية وثائقية تتشكّل من خلال البحث والتجريب في سرد الذاكرة والحاضر. 

وكما في فيلمها السابق “ليال بلا نوم” الذي يروي حكاية مقاتل تائب، وأم لا تزال في حالة بحث عن ابنها المختفي قسراً، تتناوب علاقة المخرجة والمتلقي، في فيلمها الحالي، مع الشخصية الأساسية في إعادة تركيب ذاكرته البعيدة التي تتداخل فيها الأحداث والأماكن والمشاعر الواقعية بالمتخيَّلة، ليصبح الفيلم بمثابة رحلة البحث في ما هو واقعي، متخيل، ومتواصل بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة والحكاية، وجزءاً من رؤية الشخصية ووعيها لذاتها والعالم، وهو ما يسمح به هذا النوع السينمائي الذي تعتمده المخرجة، تقول: “أردت أن أشكّل من “ميغيل” شخصية نموذجية رمزية لكل مثيلاتها”، وهنا يبرز السؤال الأهم: ما التراكمات والتجارب والخلاصات التي كوّنها ميغيل خلال تجربة تصوير الفيلم ؟. فمثلاً، في فيلم “فعل القتل Act of Killing” لجوشوا أوبنهايمر، يقنع المخرج أحد جلادي الحرب الأهلية الإندونيسية في الستينات، بتجسيد شخصية”أنور كونفو”، أحد زعماء العصابات المسلّحة، ليكون فيلماً عن نفسه وعن ماضيه، متفاخراً بماضيه العنفي وزعامته القائمة على المذابح والقسوة. إلا أن نوعية الفيلم الاستكشافي الوثائقي تحقّق ما ندرت رؤيته في السينما، من حيث أن “أنور”، الجلاد الإندونيسي، يعي خلال تصوير الفيلم، ماضيه الإجرامي، ويكتشف مع تقدُّم أحداثه رويداً رويداً، رؤية جديدة لذاته وسلوكياته. وبينما يدخل في المشهد الأول إلى زنازين المعتقلات متفاخراً ومتعالياً، يعود في المشهد الأخير إلى الزنازين نفسها ويدخل في نوبة تقيؤ حاد، تؤكد وعيه المتبدّل بجرائم ماضيه.

الهجرة والمكان في اكتشاف الذات المغايرة 

تؤدي الهجرة إلى دول تصون حقوق الإنسان، دوراً محورياً في غالبية الحكايات الكويرية السيريّة والأدبية، فتهاجر “رندا” من تونس إلى الجزائر فبيروت، ومن ثم بلجيكا بحثاً عن الخلاص من القيود. كذلك ينتقل “ميغيل” إلى برشلونة، مكان ولادته الجديدة، فيتكرر مصير الهجرة القسرية في حياة المغايرين/ات جنسياً من المنطقة العربية المنغلق على أي اختلاف. لكن فيلم الراهب يعيد “ميغيل” إلى “ميغيل”، إلى أماكن ماضيه وأحداث رواها في سيرته الذاتية، وهو أيضاً أسلوب حمل في الفيلم أبعاداً نفسية وذهنية مكثّفة لشخصيته الرئيسية، وكذلك المتلقّي. فليس المهم هنا، صحة أو ادعاء ما يرويه “ميغيل” بل ما يبتكره من أحداث في ذاته. فمثلاً، يتحدث باستمرار عن تعلّقه العاطفي المثالي بمقاتل، “طوني”، يحميه في فترة الحرب، وتصرّ المخرجة على البحث عنه وترتيب لقاء معه، تنهار خلاله صورة الحب المثالي، وتحلّ محلّه مشاعر من اللامبالاة والذاكرة المنسية. كذلك، تبحث المخرجة عن المربية السورية “تقلا” التي أدت دور الأم العاطفية لميغيل خلال طفولته، وتصوّر مشهداً معها.

الحرب، الدين، الجنس، كويرياً

تقول “رندا”: “لم يتوقف إلحاحي على تغيير اسمي، أحسست ما تحسّه الدول التي تستقلّ، فتبادر إلى تبديل الاسم الذي أعطاها إياه المستعمر”، هكذا أيضاً يشكّل اندلاع الثورة السورية نقطة تحوّل في حضور سورية في حياة ميغيل وفي مجريات الفيلم أيضاً، وكأن التمرد الشعبي أنهى التسلّط القائم على الفرد، وعلى طفولة وشخصية “ميغيل” وتكوينها، وكذلك انتقاله إلى إسبانيا التي كانت تعيش فترة التحرر ما بعد حكم “فرانكو” سنوات النوفوفيدا كما يطلق عليها الإسبان، والتي عُرفت بأفلام “بيدور ألمودوفار” لتميزها ثقافياً. وكذلك يصبح “ميغيل” أكثر تحرراً من قيود الأم المتوفاة، والذي يقوده الفيلم إلى قبر والدته في زيارته الأولى، في مشهد مكثف ودقيق التفاصيل التعبيرية والأدائية.

 الجديد في الآداب والفنون الكويرية العربية، قدرتها على الولوج إلى عالم مغلق ومعقد، حيث “الجيش فردوس المثلية” مثلاً على حد تعبير “رندا”، التي تؤكد أيضاً أنها عاشت شهوات جنسية في فترة إيمانها القصير بالدين والصلاة بين جموع المصلين. وهنا أيضاً، يتجرأ هؤلاء المبدعون والمبدعات على تجريب احتمالات الفن من أدب وسينما، على الولوج إلى عالم الممنوع والمغلق حيث يمكن الرموز العنفية مثل الأسلاك والرموز الدينية والأيقونات، أن تتحوّل باستمرار بين القمع والخيال الحساني، إضافة إلى كل ما تقدمه هذه الفنون والآداب في قدرة اللغة والسينما، في التعبير عن تجارب الجسد سواء من الصراع معه أحياناً، أو في اكتشاف رغباته أحياناً أخرى.

في كتاب “مذكرات رندا الترانس” أو في كتابات النساء الكويريات في “بريد مستعجل”، تطلق معاناة التهميش والحرمان للمغايرين/ات جنسياً رغبة في الناشطية والفاعلية والنضال لتغيير شرط الواقع الاجتماعي والقانوني والسياسي، وتتحول الميول الجنسانية إلى مبادئ تنشط في الدفاع عن حقوق الإنسان وتأسيس جمعيات… فهل يكون فيلم إليان الراهب بداية انطلاق “ميغيل” نحو ذات جديدة تخرج من فردانتيها نحو الحق الجماعي، ليس عن طريق الحرب هذه المرة، بل عبر الفن السينمائي.