fbpx

24 ساعة من الاعتقال…
اختبار سريع لسيولة السلطة والدولة الرخوة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تتناول مئات الدراسات والأبحاث القوة بالشرح والتعريف والتقسيم والتصنيف، ولكن ما يهمنا هنا هو القوة من حيث قدرة الدولة على حيازتها واستعمالها لبسط سلطتها وسيادتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ شهرين، تعرضت للاحتجاز القسري التعسفي لأكثر من 24 ساعة، أثناء عملي كمحام. وعلى رغم كوني محامياً، أعرف القانون وأستخدمه، لم أكن قادراً على مساعدة نفسي؛ كنا تحت مظلة أخرى غير القانون، من دون ضوابط أو قواعد، كان استخداماً خاماً للقوة… 

فور خروجي، دفع بعض زملائي من المحامين نحو ضرورة اتخاذ إجراء قانوني ضد ما حدث، ولكنني رفضت.

ما شغلني مسألة أخرى، مسألة عن السلطة. نحن الحقوقيين نحمل وحدنا عبئاً، أولى بالسلطة أن تحمله كله وحدها. سأحاول في هذه المقالة  طرح أزمة حقوق الإنسان وسيادة القانون باعتبارها تهديداً مباشراً للسلطة.

نستخدم أحياناً مصطلح “سيولة القانون” لوصف الحالة التي يمكن فيها تطويع القانون على أي شكل لتحقيق أي غرض أو لموافقة أي هوى، بحيث يفقد القانون معناه ويصبح وجوده كعدمه، وهو أمر محبط طبعاً لأنصار القانون والمجتمع عموماً.

وجود فكرة سيولة القانون مسبقاً لدي، جعلني أفكر في حالة مقابلة، تُعتبر انعكاساً تلقائياً لمفهوم سيولة القانون، وهي حالة سيولة القوة. فإذا لم يكن هناك قانون أو وعاء لتنظيم ممارسة القوة، فالبديل هو انفراطها من قنواتها الشرعية وجريانها في غير مساراتها، وبالتالي ضياعها وتفتيتها وفقدان القدرة على استخدامها كوحدة واحدة. كنت واثقاً من أن هذا المفهوم قد تم بحثه ودراسته وتغطيته من أحد الباحثين، بشكل أو آخر.

وضعت على محركات البحث كل مشتقات لفظ سيولة القوة أو سيولة السلطة، لكنني لم أجد بحثاً بهذا الاسم. وأثناء حديثي مع زميل متخصص في العلوم السياسية، شرحت له فكرتي عن سيولة القوة، فدلني على مصطلح the soft state، وهو مترجم على “ويكيبيديا” بـ”الدولة الرخوة”… الدولة الرخوة مصطلح صكه عالم الاجتماع السويدي جانر ميردال (1898-1987) ليصف به حال بعض الحكومات في جنوب آسيا، حيث تفتقر هذه الحكومات الى قدرة فرض سياسات أو إحداث تغيير أو تحقيق أهداف عامة بسبب الأزمات.

القوة كما يصفها الباحثان هاغ وهاروب Hague & Harrop المحاضران السابقان في جامعة نيو كاسل في إنكلترا، هي العملة الخاصة بالسياسة، فحكومة من دون قوة، تشبه سيارة من دون وقود على حد تعبيرهما. البعض يصف التاريخ الإنساني بأنه تاريخ الصراع على القوة. لذلك لا عجب في أن تحظى القوة باهتمام الفلاسفة والمفكرين والأكاديميين، وبالطبع السياسيين.

القوة هي عملة الحكومة، واستعمال القوة في حاجة إلى سلطة، واستدامة السلطة في حاجة إلى إدارة.

تتناول مئات الدراسات والأبحاث القوة بالشرح والتعريف والتقسيم والتصنيف، ولكن ما يهمنا هنا هو القوة من حيث قدرة الدولة على حيازتها واستعمالها لبسط سلطتها وسيادتها.

يفرِّق عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر Max Weber (1864-1920) بين القوة، وبالألمانية macht، وبين السلطة herrschaft وتُترجم أحياناً “الهيمنة”. فالقوة ببساطة هي القدرة على حمل الأشخاص على تنفيذ إرادة صاحب القوة، أما السلطة فهي “الحق” في ممارسة هذه القوة. فالعدو مثلاً قد يستطيع ممارسة القوة على خصمه وإجباره على الخضوع والانصياع، لكن هذا لا يعني أن له الحق في ممارسة هذه القوة، أو أن الخصم قد خضع لها طوعياً. أما حائز السلطة فيستند في ممارسته القوة إلى حق، كما هي الحال مع الدولة، فنحن نقبل الخضوع  إلى سلطة الدولة الجبرية طوعاً، لقناعتنا بأنها تمتلك هذا الحق.

ويقسِّم ماكس ويبر Max Weber السلطة، من حيث طبيعتها، إلى ثلاثة أنواع: السلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية والسلطة القانونية العقلانية، ويرى أن الأنظمة تتشكل عادة من مزيج من السلطات الثلاث.

ومن أمثلة السلطة التقليدية: الأنظمة الملكية وسلطة القبيلة والدين ورب الأسرة والعادات والتقاليد والأيديولوجيا إلخ… وكما هو واضح من الأمثلة، تستمد السلطة التقليدية شرعيتها من رموز تحظى بقدسية واحترام لدى الناس، وهذا هو مصدر شرعيتها: يخضع الناس لها لاعتقادهم بأنها تمثل رمزاً يقدسونه ويحترمونه، وبالتالي يخضعون طوعاً لها. ومن عيوب هذه السلطة، أنها جامدة ويتم تحدِّيها وتبديلها والتمرد عليها، إذا تعارضت مع مصالح الناس في وقت ما. 

أما السلطة الكاريزمية، فتستمد شرعيتها من مواصفات شخصية استثنائية، تحمل الناس على الخضوع تأثراً وإعجاباً بهذه الصفات، ومن أمثلتها في سياقنا المصري المعاصر، السلطة التي حظي بها أشخاص مثل الرئيس جمال عبد الناصر والشيخ الشعراوي والبابا شنودة… ويرى ويبر أن هذه السلطة هي أقل السلطات استدامة وأقصرها عمراً، فهي من جهة، تنتهي بموت صاحب الكاريزما أو رحيله، ومن جهة أخرى يشكل الحفاظ على الصورة الكاريزمية لشخص ما تحدياً إذا طالت فترة بقائه.

والنوع الثالث والأخير هو السلطة القانونية العقلانية، النموذج الأمثل والأقوى والأكثر استدامة للسلطة. فالناس يخضعون لها لأنهم يعتقدون أنها تمثلهم وتعمل لمصلحتهم، والقواعد نفسها تسري على الجميع، وحتى إن اعتقد البعض أنها لا تمثلهم، إلا أنها تبقى بالنسبة إليه الخيار الأفضل.

وتبقى السلطة هي وسيلة توليد القوة وضمان استخدامها، لأن القوة من دون سلطة يسهل تحدّيها وزوالها، تماماً كما يحدث في الدول التي تكثر فيها الانقلابات كلما سنحت الفرصة لأحد الجنرالات، وهو أمر طبيعي، لأن دورة إفراز الأقوياء سريعة وقصيرة، بينما شرعية السلطة ممتدة ولا يمكن تحدّيها بسهولة. 

السلطة إذاً هدف كل الأنظمة، لا فرق في هذا بين نظام دكتاتوري ونظام ديمقراطي. ذَكَر الدكتور خالد فهمي في كتابه “كل رجال الباشا”، أن محمد علي، وعلى رغم استتباب حكمه منفرداً في البلاد، إلا أنه ظل ساعياً طيلة الوقت إلى الحصول على اعتراف بسلطته من الأستانة، لاعتقاده أن شرعية حكمه لن تكتمل إلا به… وأنا أعتقد أن محمد علي كان ساعياً لتنويع مصادر سلطته بكل الوسائل الممكنة: بالاعتراف تارة وبالحرب تارة أخرى وبالتأسيس البصير أحياناً… هكذا حكمت الأسرة العلوية لأكثر من 150 عاماً.

لكن يبقى التحدي الأكبر للنظام هو التحكم في هذه القوة بحيث تبقى ضمن الإطار الذي رسمته السلطة، وإلا أصبحت القوة تمثل نفسها وتعمل لها، وليس لصالح السلطة. وهي مهمة ليست سهلة.. فكما قال المؤرخ والسياسي الإنكليزي لورد أكتون (1834-1902) عبارته الشهيرة: “القوة تميل إلى الفساد، والقوة المطلقة مفسدة مطلقة”… 

حرصت أنظمة الحكم في مصر على مر العصور، على توزيع القوة بأشكال وأنماط مختلفة لضمان السيطرة عليها وعدم خروجها عن طوع السلطة. وهناك نوعان من توزيع السلطة: توزيع أفقي متوازٍ على مؤسسات الدولة، وتوزيع رأسي أو عمودي كما الحال في الفيدراليات، حيث توزّع القوة بين سلطة الاتحاد وبين الأعضاء فيه.

خلاصة ما سبق: القوة هي عملة الحكومة، واستعمال القوة في حاجة إلى سلطة، واستدامة السلطة في حاجة إلى إدارة.

وبهذا، يمكن تصوير السلطة على أنها خطاب القوة للمجتمع، الخطاب السياسي بالطبع، لكن ليس وحده، الممارسات والأداء والقرارات والقوانين والأحكام والنتائج ومدى استجابة الناس وتفاعلهم وتصوّرهم عن هذا الخطاب. والهدف النهائي منه هو إقناع الناس بحق السلطة في ممارسة القوة الجبرية.

درس الثورة (غير) المستفاد

التاريخ حلقات، كل حلقة تُطبق على ما قبلها وما بعدها. والثورة مجرد حلقة في التاريخ، يحسن إدراكها في سياقها الأكبر. لا أقصد بالثورة يناير تحديداً، ثورتنا المصرية بدأت في 1919. هذه هي اللحظة التي دخل فيها الشعب معادلة الشرعية وأصبح لزاماً على كل سلطة أن تشمله في تبريراتها. فعندما يتعلق الأمر بالوعي، لا يمكن الضغط على زر “إعادة السابق”… والوعي هو العنصر الأهم في سؤال السلطة، إذا قامت بتجاهله، لم تعد سلطة شرعية، قوة قانونية ربما، لكنها ليست سلطة شرعية.

بعد ثورة 1919، كان لزاماً الاستجابة لمحدّد الشرعية الجديد، الشعب.. فكان دستور 1923، وازدهرت الحياة السياسية والحزبية والتشريعية، ما أدى إلى نشأة السلطة القانونية العقلانية التي موَّلت الجزء الأكبر من نظام يوليو لاحقاً. لكنَّ فشل الملك في تبرير سلطته أو دمجها مع السلطة القانونية العقلانية، أدى الى الإطاحة به في 1952.

وبعد ثورة 1952، استمدت السلطة شرعيتها من فكرة استرداد السيادة والكرامة الوطنية والعزوة العربية. وهي الشرعية التي مثّلها الرئيس جمال عبد الناصر وأضاف إليها من سلطته الكاريزمية، فمكَّنه ذلك من التوسّع في استخدام القوة والوصول بها إلى مستويات جديدة. لكن استنزاف السلطة وإنفاقها على القمع، أديا إلى سقوط سلطة ناصر في 67 مع الهزيمة.

تمكَّن الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل من تقديم وصلة قصيرة للشرعية في خطاب تنحّي ناصر الشهير عقب الهزيمة، لكنها كانت سقطت في كل حال. وللرئيس السادات كاريزما قوية وأفكار جذابة أيضاً، ليس كناصر، لكنه كان محظوظاً بشرعية نصر أكتوبر 73، وأيضاً كان أكثر حكمة من ناصر في إنفاق القوة، وأعمق اندماجاً في اللعبة. 

الحرب والاغتيال والدماء والطائفية، منحت الرئيس مبارك سلطة التهدئة والاستقرار والمواءمات، فبقليل من السلطة القانونية العقلانية والسلطة الكاريزمية وكثير من السلطة التقليدية، تمكّن مبارك من “تقييف” نموذج مصغّر للسلطة، فمارس القمع في شكل انتقائي، وأتقن لعبة الكتل الحرجة، فعاقبه الشعب بأكبر كتلة حرجة في التاريخ المصري.

يناير كانت صيحة في خطاب ممتد من الشعب إلى السلطة منذ 1919: عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية… لم تكن يناير طالبة القوة، بل الشرعية. في صباح 26 شباط/ فبراير 2011، خرج علينا المجلس العسكري ببيانه الشهير “اعتذار، ورصيدنا لديكم يسمح” تعقيباً على ما سموه “احتكاكات غير مقصودة مع أبناء الثورة” أمام مجلس الوزراء، وذلك في بادرة إدراك أولى من السلطة لمحددات الشرعية الجديدة…

إلا أن ظهور الإسلام السياسي في المشهد كمنافس على القوة- بما يحمله من أفكار وتوجهات أقلقت المجتمع- منح النظام القدرة على جمع القوة كلها مجدداً، ثم إعادة ضخّها بكثافة على خريطة جديدة من التحالفات التي اجتمعت على الثأر أكثر مما اجتمعت على السلطة.

وبدلاً من محاولة صياغة سؤال السلطة من جديد، أعتقد أن التحدي الذي أخذه النظام على عاتقه في 2013، كان إنهاء الحالة الثورية التي قضّت مضاجع السلطة على مدار الثلاثة أعوام السابقة. بالطبع هو لا يملك من القوة ما يكفي للقمع، فالسلطة عليها قيود، فكان البديل سحب القوة من مراكزها وإعادة ضخّها بكثافة على خارطة جديدة من التحالفات التي اجتمعت على الثأر أكثر مما اجتمعت على السلطة.

السلطة والاقتصاد أزمة واحدة

يمكن القول إن النظام المصري الحالي يعتمد على اقتراض القوة بشكل أساسي من مصدرين: السلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية. 

ومن أبرز نماذج اقتراض القوة من السلطة التقليدية، الاستناد الى رموز مثل الوطن والدين والعادات والتقاليد وقيم الأسرة. بالطبع يدرك النظام الحالي مدى هشاشة هذه الرموز وتآكلها، لذلك يلجأ الى الاقتراض من السلطة الكاريزمية لتغطية هذا العجز، فينفق أكثر وأكثر على الإنجازات والبطولات والحرب على الإرهاب وتجديد الخطاب الديني وللحفاظ على صورة مكلفة ومرهقة عن هيبة الدولة وصرامتها. 

بقائمة التحالفات المناسبة، تمكّن النظام من تجميع القوة وفرض سيطرته على المجتمع، لكنه أخفق في سؤال السلطة. وأنفق النظام الحالي القوة التي جمعها على القمع، فشن حملات شرسة باسم الحرب على الإرهاب وحماية الأمن والنظام وقيم الأسرة… بالطبع خضع المجتمع، خوفاً وليس طوعاً، فتاهت السلطة وأصبحنا أمام استعمال خام للقوة.

سياسة النظام في إنفاق القوة واستعمالها، أدت إلى نتيجتين، الأولى هي الاتجاه نحو الدولة الرخوة، لأن إنفاق القوة على الأجهزة الأمنية بهدف رفع كفاءة القمع من دون تمييز بين التشريعي والقضائي والتنفيذي، كان على حساب نزع القوة من مؤسسات الدولة وأذرعها الحكومية، فمهما دانت الأجهزة بالولاء إلى النظام، ستظل عاجزة عن أداء دور الحكومة المعقّد والمتشعّب. كما أن القوة أصبحت تخدم نفسها الآن ولم تعد الرقابة ممكنة، فمن الذي سيراقب؟

النتيجة الثانية لإنفاق القوة هي الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وهي نتيجة حتميّة للقوة المطلقة كما يبيّن الواقع. لأزمة الفساد وحقوق الإنسان بالطبع آثار سلبية خطيرة على المجتمع، لكن تركيزنا هنا على أثرها على السلطة، فالأخيرة حكاية يحكيها النظام ليقنع بها المجتمع بالحق في ممارسة القوة. لكن أي عقد أو شرعية ستُبنى على استخدام القوة في الفساد وانتهاك حقوق الإنسان؟! بالطبع مستحيل، ونحن عرضة الآن للانفجار أو الانقلاب أو الاحتلال أكثر من أي وقت مضى…  

الخروج من الأزمة يتطلب السيطرة على القوة، لا أعرف على وجه الدقة كيف يمكن ذلك الآن، لكنني أعرف أن علامات نجاح السيطرة على القوة هي احترام حقوق الإنسان والقضاء على الفساد. فإذا تمكنا من تحقيق هذه النتيجة، يمكن القول أن القوة الآن تحت السيطرة، والناس أكثر انفتاحاً للاعتراف بالسلطة…

الفرصة الوحيدة أمامنا هي الاتجاه نحو السلطة القانونية العقلانية. صحيح أن البنية القانونية والتشريعية الحالية لا تسمح بتأسيس سلطة قانونية عقلانية عليها، فهي الأخرى فقدت قيمتها وهيبتها أمام الناس، لكنّ هناك بصيصاً طفيفاً من الأمل في مشروع الحوار الوطني القائم الآن، وحتى هذه اللحظة لم تظهر منه أي بوادر تنمّ عن جدية في التعامل مع الأزمة.

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!