fbpx

“الجديد” و”حزب الله”: المسافة بين استخدام الإعلام واستباحته

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تصب جوانا كركي في نكتتها، كانت سمجة، ذكورية، بل ومبتذلة، لكن “حزب الله” قرر مصادرة النقاش حول حرية التعبير وتحويله إلى حرب انتقام و تهديدات، وهنا المفارقة، نكتة واحدة قادرة على هز مشاعر كل “المقاومين”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لم أتعرّض للتهديد بشكلٍ مباشر، لكن الخوف يرافقني كل يوم وأنا عائد إلى منزلي في الضاحية”، يقول أحد الموظفين (رفض كشف اسمه) في قناة “الجديد” في اتصال معه تعقيباً على الحملة الشرسة التي شنّها مناصرون لـ “حزب الله” على القناة وموظفيها، والتي وصلت إلى استهداف مركز المحطة برصاص وقنبلة “مولوتوف”، في مشهدٍ يُكرّس استباحة الإعلام على مرأى ومسمع قوى الأمن. 

تفاعلت أزمة قناة “الجديد” والـ”سكتش” الساخر الذي تناول نساء الجنوب بشكل سوقي ليصل الأمر إلى حملة شعواء ضد القناة وموظفيها، فبلغ مستويات من المواجهة تجاوزت الحدود الكلامية. وصلت الحملة إلى حدود إطلاق النار على مبنى “الجديد” في بيروت بشكل متكرر، رافقها تهديد و”تحليل دم” وحملات تخوين على مواقع التواصل الاجتماعي. 

وفق مسؤول العلاقات العامة في القناة إبراهيم الحلبي، “الجديد” تشهد اعتداءات متكررة كان أعنفها فجر الجمعة، إذ تعرّضت القناة لأكثر من 14 طلقة، معظمها أصاب مكتبات “دار الفرابي” الموجودة في المبنى ذاته. يؤكّد الحلبي لـ”درج” أن “تلك الحملات والاعتداءات لن تمنع القناة من ممارسة رسالتها الإعلامية”، مضيفاً، “إذا في أي اعتراض من الأجدى للجهة المُعترضة أن تنشر بياناً أو حتى تعتصم أمام مبنى القناة… العنف ليس حلاً، ونحن ملتزمون بالمسار القضائي”. 

لم يحتمل أنصار حزب الله مُزاح قناة الجديد “السمج”، فبدأ التخوين والتهديد وهدر الدم، نسأل: أيهما أخف دماً، نكتة أم “مولوتوف”؟

أزمة “الجديد” مع “حزب الله” ليست مفاجأة، الإشكال عمره سنوات، تكررت خلاله حملات شرسة لم تخلُ من انتقادات وكشف قضايا متعلقة بالحزب، مُقابل حملات شنّتها جيوش إلكترونية محسوبة على “حزب الله” على القناة، شاركت فيها شخصيات عامة مناصرة للحزب ولسياسته. وصل الأمر إلى منع موزعي الكابل من بثّ القناة في الضاحية الجنوبية في بيروت عام 2019 على خلفية تغطية القناة لقضايا فساد وانتهاكات تورط فيها محسوبون على “حزب الله”. وهو ما يعتبره الحلبي “ضريبة الرأي المختلف”. 

مشكلة “حزب الله” مع “الجديد” أعمق من “سكتش” ساخر أو تغريدة تُعارض فيها مديرة الأخبار مريم البسام، نجل حسن نصرالله، جواد نصرالله، الذي شارك في انتقاد القناة بشكل لاذع يصل إلى حدّ التهديد أكثر من مرة. 

نكتة فـ… رصاص

انزلق الهجوم الممنهج إلى مستوى يُعدّ فيه هذا التصعيد الأخطر إثر الأزمة الناتجة عن مشهد ساخر عرضته القناة ضمن برنامج “فشة خلق” الذي تقدمه داليا أحمد، إذ قالت مقدمة الـ”سكيتش” الممثلة جوانا كركي إن “الطليان والإنكليز فاتوا فينا”، ما أنتج جنوبيين بعيون خضر وزرق وشعر أشقر، وهي نكتة سمجة ومعلوكة وتنميطية للنساء يُفترض أنها انقرضت منذ وقتٍ بعيد. 

أثارت هذه النكتة انتقادات واسعة في محيط الحزب وحلفاءه، إذ جاء أبرزها من رئيس لجنة الإعلام والاتصالات النيابية النائب إبراهيم الموسوي وهو ممثل لـ”حزب الله”، ومن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي طالب القناة بالاعتذار، وتوعّد بتقديم دعوى قضائية ضدها عدا عن شخصيات معروفة بولائها للحزب شنت هجوما لاذعاً انحدر الى مستوى الشتم والبذاءة والتخوين.

تضامن مع “الجديد” معارضو الحزب، وفي مقدمهتم تيار “العزم” الذي أسسه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ونواب في “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”.

 تحولّت قضية “الجديد” و”حزب الله”، التي من المفترض أن تكون نقاشاً حول معنى حرية التعبير وتنميط النساء، إلى شمّاعة حزبية ترمي عليها الأطراف السياسية نزاعاتها، وسط غياب وزير الإعلام ووزير الداخلية، وفق مصادر من “الجديد”. هكذا إذاً أصبح التضامن مع القناة أو الدفاع عن سلامة موظفيها في ظل الانفلات الأمني الحاصل، اصطفافاً ضد الجنوبيين والطائفة الشيعية ونساءها و”حزب الله”.

تطوّر الهجوم الإلكتروني إلى اعتداءات على المحطة، ارتكبها مجهولون (حتى الآن)، تمثّلت في إطلاق نار على مبنى المحطة ليومين متتالين (علماً أن القوى الأمنية متواجدة في محيط المبنى)، بعد رمي قنبلة “مولوتوف” حارقة عليها في الليلة السابقة. كما إلى تهديد موظفي القناة و”تحليل دمائهم”. 

يأتي إلقاء قنبلة الـ”مولوتوف” على القناة بعد تهديد مُبطّن من نجل الأمين العام لـ”حزب الله”، جواد نصرالله، الذي قال في تغريدة بأن “مزحنا (حزب الله) ثقيل”، رداً على من برّر تصرف “الجديد” بأنّه مجرّد مزاح لا أكثر. وبعد رد مريم البسام على نصرالله ورفض كركي للاعتذار عما بدر منها، يبدو أن الأمور بين الطرفين آخذة في التصاعد، ولا شك أن إلقاء القنبلة كان بمثابة تحذير من أن مزاح “حزب الله” الثقيل قد يطاول القناة وأمن موظفيها. 

“مولوتوف” ورصاص… من دون فاعل!

“الناس هون مش فارق معها مش هاممها غير لقمة عيشها”، يقول عامر (اسم مستعار) وهو موظف في القناة ويعيش في الضاحية. ويضيف، “يمكن غيري حاسس بخطر بوجوده بالضاحية خاصة إنه أغلب الموظفين ساكنين هون، بس أنا ما حدا هدّدني لهلأ”. 

لم تصب جوانا كركي في نكتتها، كانت سمجة، ذكورية، بل ومبتذلة، لكن “حزب الله” قرر مصادرة النقاش حول حرية التعبير وتحويله إلى حرب انتقام و تهديدات، وهنا المفارقة، نكتة واحدة قادرة على هز مشاعر كلالمقاومين“.

يبدو أن الحملة الشرسة والجيوش الإلكترونية يقودها، على الأغلب، جواد نصرالله على “تويتر” ومواقع تواصل اجتماعي أُخرى، إذ من المعروف أن نجل نصرالله يتولى مباشرة نشاط الجيوش الالكترونية الخاصة بالحزب. أما بشأن الاعتداءات على مبنى الجديد فإن التحقيقات لم تكشف عن هوية مطلقي النار أو القنبلة بعد، و”على الأغلب لن تفعل”، وفق أحد العاملين في خدمة الأمن في القناة. 

انتشرت على هامش ما سبق  في بعض القرى الجنوبية لافتات تهاجم الممثلة جوانا كركي، وتدعو لإغلاق ما يطلق عليه جمهور “حزب الله” اسم “دكانة الجديد”، كذلك انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي رسالة موقعة من آل كركي، تبرؤوا من خلالها من أفعال المسماة “جوانا زهير كركي المشينة” بحسب تعبيرهم. حاولنا التواصل مع كركي، إلا أنها فضّلت عدم التصريح، خصوصاً أن مقدّمة البرنامج، داليا أحمد، اعتذرت في حلقتها الأسبوعية عن النكتة.  

ثمن “الالتصاق” الباهظ؟

على رغم أن “الجديد” تمكنت من فرض موقعها كقناة جريئة تعرض قضايا أساسية وتكشف ملفات فساد وانتهاكات وتتناول قضايا اجتماعية بشكل جريئ، إلا أن ذلك لم يعفها من مسؤولية الوقوع في سقطات إعلامية عدة وخطابات عنصرية وأخرى تمييزية وذكورية، لكنّها، أفسحت هامشاً من الحرية أوسع من قنوات لبنانية أُخرى. البعض يضع هامش الحرية هذا في سياق تكتيك يتعمّد فيه صاحبها رجل الأعمال اللبناني تحسين الخياط توظيفه لمصالحه.  

كان الخياط، منذ شرائه القناة من مؤسسة إعلامية تابعة للحزب الشيوعي في عام 1992، خصماً لرئيس الحكومة الأسبق الراحل رفيق الحريري، وبسبب المصالح المشتركة، تعدّل هذا الميل حتى بتنا نرى مريم البسام، وهي تكاد تكون الوجه الأساسي للقناة، في مقابلة حصرية مع سعد الحريري، وذلك بعدما جمعت “المصالح” ذاتها أولاد تحسين الخياط بنجل رفيق، أي سعد. 

في المقابل كانت القناة حاضرة لدعم “حزب الله” بكل ما هو مرتبط بالمقاومة على نحو بدت فيه لسنوات وكأنها الذراع التلفزيونية للحزب، إلا أنها تركت هامشاً من الحرية للعاملين فيها، تجلّى بعد أحداث 7 أيار 2008، في انتقادها سياسة “حزب الله” الداخلية. في عام 2011، علت الأصوات المناهضة للحزب أيضاً، ولم يقمعها الخياط. علماً أن “الجديد” لم تخف ارتباطات واضحة بمصرفيين مثل مروان خير الدين ولا هي نقدية تجاه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يتحمل مسؤولية كبرى عن الانهيار المالي والمصرفي الذي يعيشه لبنان منذ 2019. لكن هنا لابد من تسجيل أن رياض قبيسي، الصحافي الاستقصائي في القناة، كان أول من كشف ملفات فساد وتهريب أموال مرتبطة بسلامة. كذلك الإعلاميين جاد غصن وآدم شمس الدين وغيرهما من الصحافيين الذين عبروا عن آراء مناهضة لسياسة القناة عبر تحقيقات وتقارير إخبارية عُرضت في النشرات لكن ذلك لم يخفف من سياسة تحريرية بدت أكثر سلاسة مع سلامة.

التطورات الأخيرة تكشف مجدداً معنى التقاطع المباشر بين المصالح السياسية والإعلام ومدى ضيق أصحاب النفوذ بأي صوت إعلامي يخرج عن دائرة الطاعة والتوظيف مهما كان هذا الخروج محدوداً.