fbpx

غُول الاضطرابات النفسيّة يهدد أطفال اليمن

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“حينما ذهبنا لطبيب في المدينة، أخبرني الدكتور أنه بحاجة لزيارة طبيب نفسي لمعرفة إن كان قد تعرض لصدمة ما، لكن لم اقتنع بذلك، فأخذت وائل وعدت إلى القرية بدون استشارة طبيب نفسي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اختارت رؤى (اسم مستعار) ذات الـ14 عاماً الصمت في ظل ما تمر به أسرتها المقيمة في صنعاء. هم سبعة (أب وأم و5 أخوة)  في منزل من غرفتين، لا يحوي مساحة يمكن لرؤى فيها أن تتمتع بخصوصيتها، أو تتوارى وحيدةً. هي حسب والدها الغاضب “عبء عليه”، الشأن الذي لا يد لها فيه، فقررت حين يشتد غضبه أن تختبئ تحت غطائها والبكاء، علّها تصبح عبء أخفّ.

فقد والد رؤى عمله في شركة الشروق للأدوية والمستلزمات الطبية في صنعاء، ولم يعد قادراً على دفع أجرة المنزل ولا تأمين المصاريف اللازمة لرؤى وأخوتها من أجل الذهاب إلى المدرسة، فانتقلت الأسرة من حي  الدائري إلى حي العميري بجدر. تحول المنزل الجديد إلى فضاء للغضب والعنف الأسري، إذ يسيء والد رؤى لوالدتها، ويضربها أمام أعين الأطفال الخمسة، ما دفع رؤى للعزلة، وتفادي الحديث مع من حولها.

تواصلنا  مع شروق غالب، الأخصائية الاجتماعية في مدرسة رؤى القديمة، والتي قامت بزيارة الأسرة في منزلهم، لسماع قصة طالبتها  بعد أن لاحظت سلوكها المضطرب  في المدرسة وابتعادها عن أصدقائها. 

تصف غالب المنزل بأنه قديم، يحوي غرفتين صغيريتن، وحمام ومطبخ. هناك كانت رؤى شاحبةً حزينةً، ترتدي ملابس رثة غير متناسقة، ولا تلائم جسدها الطويل النحيف. تقول غالب :”رحبت بي والدة رؤى، طلبتُ منها البقاء على انفراد مع رؤى، فوافقت على مضض. كانت خائفة من  أن تحكي رؤى عن تفاصيل لا تحب أن يعرفها أحد”.

بدأت رؤى بسرد قصتها للأخصائية الاجتماعيّة:” خرج بابا من عمله في شركة الأدوية، فساءت حالتنا المادية، ولم نستطع دفع الإيجار والمصاريف المدرسية لي ولأخوتي في مدارسنا الأهلية، لذا انتقلنا الى هنا. حينها أصبح أبي انفعالياً أكثر من السابق. يتشاجر مع أمي باستمرار، ينظر لنا أنا وأخوتي ويقول:”أنتم عبء عليَّ”.

تتابع رؤى:”حزنت جداً،  فأنا لا أستطيع مساعدته ولا أتحمل كل المشكلات،  لذا أذهب للنوم واتغطى وأتظاهر بالنوم باكيةً؛ تمنيت أن أموت حتى لا أبقى حملا على والدي”.

“حزنت جداً،  فأنا لا أستطيع مساعدته ولا أتحمل كل المشكلات،  لذا أذهب للنوم واتغطى وأتظاهر بالنوم باكيةً؛ تمنيت أن أموت حتى لا أبقى حملا على والدي“.

دور المُعلم أمام الاضطرابات المنزليةّ

لاحظت معلمات رؤى تدهور مستواها الدراسي، وشرودها الدائم في الصف، وبكائها بعد الخروج من المدرسة نحو منزلها،  كما لاحظت غالب تغير سلوك رؤى من عدواني نحو الهادئ، وعدم تركيزها مع معلماتها في الصف وتراجع مستواها الدراسي. 

استُدعيت والدة رؤى إلى المدرسة، وبعد حديث غالب معها أنكرت في البداية أن تكون ابنتها تعاني من أي اضطراب نفسي، إذ قالت للاخصائية الاجتماعيّة : “لم أفهم ما يحصل بدايةً وظننته فراطاً في الدلال، كنت قاسية جِدًّا مع رؤى وكنت أنهرها وأضربها ظنا مني أنها ستتوقف عن البكاء وستنضج؛ لكن حالتها تدهورت”.  

تُعلق غالب على اللقاء مع والدة رؤى:” أحيانا يكون هناك استجابات من الوالدين عندما نشرح لهم حالة الأطفال النفسية، لكن الكثير من  الأسر لا تتفهم أن الأمر مرضي، ويستوجب العلاج والتعامل معه بحذر، ويكون الحل حينها ضرب الابنة وشتمها، وأحيانا يصل حد منعها من إكمال تعليمها بمبرر الدلع والدلال، في تجاهل واضح لنصائحنا حول ضرورة تقديم الدعم النفسي والمعنوي للطفلة كي تتجاوز مشكلتها”

التحرش والسحر وغياب الوعي بالصحة النفسيّة

يعيش وائل (اسم مستعار) ذو الـ12 عاماً يتيماً، مع والدته و4 أشقاء يكبرونه وشقيق يصغره بعامين، في ريف محافظة حجة التي تبعد عن العاصمة صنعاء 111.7 كم شمالا. تعرض وائل للتحرش وهو في العاشرة من عمره من قبل أحد أبناء عمه حين كان عائداً من المدرسة. كانت الصدمة شديدة إلى حد فقدانه النطق حسب تشخيص الطبيب النفسي .

تواصلنا مع والدة وائل لمعرفة القصة، وحين سؤالها عن التفاصيل أجابت :”وائل من يوم ما تعرض للتحرش ماعد يقدر يتكلم” وتضيف أنه أصبح خائفا وقلقا طول الوقت، ولا يفضل الخروج من المنزل. تشير أم وائل أيضاً بكائه المستمر وخوفه الدائم، تضيف: “لم يعد يخرج من المنزل مطلقاً، وإذا أتى أبناء عمه لزيارتنا يهرب ويختبئ. لم أكن أعرف ما به وظننت أنه ضحية الحسد أو مس الشياطين”.

ذهبت أم وائل بطفلها إلى شيخ في القرية ليقرأ عليه القرآن، ويدهن جسده بالزيت المقري لعله يتحسن. لكن بلا جدوى، إذ بدأت حالته تسوء يوماً بعد يوم، ةأصبح يتبول في فراشه ليلاً بسبب الكوابيس التي تراوده، ولم يعد يأكل إلا لُقيمات. 

تجاهلت أم وائل كل الأعراض الواضحة على ابنها وحاولت تأديبه ليعود كما كان إذ تقول: “كنت أضربه أحيانا واهدده، كم كويت له (إحراق الجلد بحديدة ساخنة) ليذهب أثر الخوف إن أخافه أحد، ولكن لا فائدة “. 

تواصل أم وائل حديثها “نصحتني إحدى الجارات بالذهاب به للمستشفى لمعرفة ما به، وحينما ذهبنا لطبيب في المدينة، أخبرني الدكتور أنه بحاجة لزيارة طبيب نفسي لمعرفة إن كان قد تعرض لصدمة ما، لكن لم اقتنع بذلك، فأخذت وائل وعدت إلى القرية بدون استشارة طبيب نفسي”.

بقيت حالة وائل تتدهور إلى حين اكتشفت والدته من إحدى الجارات أن ابنها كان سيتعرض للتحرش والاعتداء من قبل ابن عمه، ولكنها (أي الجارة) رأت المُتهم، وقامت بضربه ومنعه.

تقول أم وائل: “نزل الخبر عليّ كالصاعقة وكدت أجن. تذكرت خوف وائل من ابن عمه وبكائه المستمر. احتضنت وائل وسألته عن ابن عمه، لأرى في عينيه الخوف، قبل أن  يبدأ بالبكاء. قررت حينها أخذه إلى الطبيب النفسي لعالجه. شخَص الطيب بعد خمس جلسات حالة وائل، وأخبرنا أنه تعرض للتحرش والاعتداء الجنسي من ابن عمه، وأنه يعاني من آثار صدمة نفسية”.

فاعلية العلاج وغياب العدالة

تواصلنا مع  رؤى للاطمئنان على حالتها، أخبرتنا أنها تواظب على الدواء الموصوف لها من قبل الأخصائية النفسية التي زارتها، وبدأت بالتعافي، وتنال دعم والدتها ووالدها الذي  لم يعد يتشاجر مع أمها كونه وجد عمل آخر في شركة أخرى.

تواصلنا أيضاً مع  أم وائل للسؤال عن حالة ابنها. أخبرتنا  أنه يخضع لجلسات العلاج، وبدأ بتجاوز مخاوفه، لكنه لم ينطق إلى الآن،  إلا أن الدكتور النفسي طمئنها بأنه سيتعافى إن استمر في الجلسات. وحين سؤالها عن مصير المتحرش أجابت: ” ابني يتيم، لم نلقى إي إنصاف ولا زال المُتهم حراً  طليقاً دون أي عقاب”. 

الأطفال  ضحايا الاضطرابات النفسية

التقينا مع الدكتورة أماني سويد، الاخصائية النفسية في مؤسسة الإرشاد النفسي في صنعاء، كي تخبرنا عن حال الصحة النفسيّة في اليمن بناء على خبرتها وتجربتها الشخصيّة. أشارت سويد بداية إلى أن حالة وائل ليست الأولى من نوعها. هناك الكثير من الأسر التي لا تلجأ مباشرة إلى العيادة النفسية في حال ملاحظة اضطراب ما على الطفل، وتضيف :”يبدأ (العلاج) بعرض الطفل على مشعوذين وسحرة وما يسمى مشايخ قرآن، وبعد فشل الشعوذة، يصل الطفل إلى العيادة النفسيّة وقد وصلت حالته للمرحلة المتوسطة، التي تحتاج وَقْتًا أطول  لمعالجتها، وقتٌ كان بالإمكان اختصاره  لو جَلب الأهل الطفل إلينا مباشرة”.

تجدر الإشارة أن السحر والشعوذة في اليمن (تجارة) مزدهرة في ظل غياب قوانين تجرم ممارستها، وتشير بعض الإحصائيات التي تعود إلى عام 2015 أن حجم السوق يبلغ (14.3) مليون دولار، كما تتكرر التقارير عن تجارب مخيفة يتعرض لها الأطفال، كالضرب والصعق الكهربائي وشرب بول المشعوذ، ما يشكل في حد ذاته صدمة نفسية لا يمكن تجاوزها بسهولة.

تتابع سويد حديثها  قائلةً أن الأسرة تلعب دوراً حاسماً في توفير بيئة نفسية صحية للطفل، لكن لا يمكن التعميم، فضغوطات الحرب والوضع الاقتصادي في البلاد، وعدم قدرة الأهل على لعب أدوارهم التربوية بشكل مناسب، حول بعض المنازل إلى مساحة عنيفة، تهدد أحياناً الطفل واتزانه النفسي، وتشير إلى المشكلة الأخطر المتمثلة بالانتحار إذ تقول:”لم تعد فكرة الانتحار مقتصرة على الكبار الذين يتعرضون لضغوط الحياة، العديد من الأطفال يحاولون الانتحار، وهذا شأن مرعب، إذ وصلنا إلى العيادة الكثير من الأطفال الذين حاولوا الانتحار، بعد أن قضوا فترة علاجية في وحدة العناية المركزة”.

حوادث انتحار الأطفال هزت الشارع اليمنيّ، وأضحت جزء من الأخبار اليوميّة، آخرها انتحار الطفل سعد الفقيه أمام عدسة الكاميرا الخاصة بهاتفه، إذ وجه البندقية إلى صدره مُنهياً حياته. هكذا تصرف يتركنا أمام الكثير من التساؤلات، حول توافر السلاح بيد الأطفال، دور الأسرة، مسؤولية الشرطة، الصحة النفسيّة، والمؤسسات التي وجدت نفسها عاجزةً أمام هكذا مآسي.

بصيص أمل

سهلت وسائل التواصل الجديدة (منصات التواصل الاجتماعي، جماعات النقاش..الخ) وحملات التوعيّة انتشار المعلومات الطبية، وجعلها متوافرة وفي متناول الجميع، كما ساهمت بزيادة وعي الأسرة اليمنيّة  وقدرة الوالدين على رصد أعراض الاضطرابات النفسية لدى أطفالهم، والمسارعة بهم إلى المختصين، يبقى السؤال هنا، هل سيقوم الوالدين بما عليهم من مسؤوليات؟، وهل ستتدخل الدولة للحد من ظاهرة السحرة والمشعوذين؟

أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج يضم صحافيات وصحافيين من العراق واليمن وغزة من تنظيم الجامعة الأميركية في بيروت وبدعم من International Media Support