fbpx

اقتصاد الكباري… لماذا تتوسّع مصر في مشروعات الإفقار؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكرّر مصر سيناريو التسعينات، تستثمر في الإعمار دون أن يعود ذلك بشيء على خزينة الدولة، لتتحول الجسور إلى علامات على سوء التخطيط والإنفاق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعيش مصر أزمة مالية مُزمنة، وهي نتاج مباشر لهشاشة الاقتصاد المصري تجاه الأزمات الاقتصادية العالمية الطارئة. وتبرر الحكومة ومؤيدوها هذا الوضع بالحرب على أوكرانيا وسياسات البنك الفيديرالي الأميركي ورفعه المتكرر معدلات الفائدة.

يفتقر الاقتصاد المصري إلى أي نقاط قوة تحميه من تقلبات السوق الدولية، فالسياسات الاقتصادية التي اتخذها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ 2014 وحتى اللحظة، لم تعالج الضعف الهيكلي الذي تعانيه المالية العامة للدولة، التي لم تسعَ الى بناء اقتصاد مُنتِج، بل أغرقَت البلاد في هوّة سحيقة من الديون التي أُنفقت على مشروعات عاقر في الصحراء.

البنية التحتية قدر الدولة

ما زالت استراتيجية تكثيف إنشاء الكباري والبنية التحتية عموماً، غير مفهومة للغالبية الكاسحة من المواطنين المصريين، خصوصاً أن سياسات البلد الاقتصادية تُقرَّر في شكل فوقي بين الرئيس ومستشاريه.

يمكن القول أن “التهكم” هو المساحة الوحيدة التي يُناقش فيها الرأي العام مسألة الإنفاق على البنية التحتية، فتحولت الكباري إلى مثار سخرية واسع بين المصريين، كبديل لصعوبة حصولهم على إجابة عن سؤال: لماذا بدّدت دولتهم الأموال الطائلة على البنية التحتية وحدها؟

يمكن اختصار الإجابة عبر النظر إلى السياسات الاقتصادية الحالية كحلقة في سلسلة بدأت منذ السبعينات، حينها بدأت الدولة بخطة توسّع وبناء للمُدن الجديدة، مثل مدينة 6 أكتوبر والعاشر من رمضان والسادات. تسير هذه الخطة بالتوازي مع محاولة بعث القطاع الخاص وتدليله وتسمينه ومنحه أراضيَ ومرافق مجاناً تقريباً، إضافة إلى إعفاءات ضريبية مبالغ فيها، فضلاً عن تمكينه من أصول الدولة الإنتاجية بثمن بخس ضمن ما عُرف بالخصخصة.

لم ينتج القطاع الخاص شيئاً ذا قيمة يدفعُ الاقتصاد نحو التصنيع، بل توجهت معظم استثماراته نحو قطاع التشييد (السياحي والسكني الفاخر) ونحو قطاعات الترفيه والاستهلاك التفاخري وأخيراً الاستيراد، ما جعل الدولة مُضطرة دائماً وأبداً الى أن تقود الإنفاق على البنية التحتية في شكل مكثّف لتحفيز النمو الاقتصادي.

في خدمة أحلام الرئيس والمقاولين

أدلى الخبير الاقتصادي هاني جنينة، في 21 كانون الأول/ديسمبر 2022، بتصريح مفاده أن مصر 2023 هي مصر 1993، مشيراً إلى بيع أصول الدولة واتباع برنامج مشابه لخطة صندوق النقد الدولي، فماذا فعلت مصر في التسعينات ولماذا تعود إلى الحفرة نفسها مرتين؟

عاشت مصر قصة نجاح مرموق في التسعينات من وجهة نظر صندوق النقد والبنك الدولي، نجاح يُثبت صحة مبادئ النيوليبرالية، إذ استطاعت، بهديٍ من صندوق النقد، أن ترفع معدل النمو إلى 5 في المئة سنوياً، وتخفّض معدل التضخم إلى أقل من 5 في المئة، وتقلل عجز الموازنة إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وفق كتاب “حكم الخبراء” لتيموثي ميتشل. 

تَصرف الحكومة المصرية ما تقترضه من المؤسسات الدولية على مشروعات إعمار وبناء لا ترفد ميزانية الدولة، ما جعل الاقتصاد المصريّ هشاً، وعاجزاً عن مواجهة أي طارئ.

صُّور الأمر حينها ضمن سرديّة بسيطة مفادها أن دولة من “العالم الثالث” أسرفت في الإنفاق إلى درجة أنها كانت على مقْرُبة شهر واحد من الإفلاس عام 1989،  استفاقت أخيراً وعادت إلى رشدها  عبر  تحرير سعر العملة، وخروج الدولة من الاستثمار الاقتصادي، ما أعطى القطاع الخاص حصة الثلثين من الاستثمار المحلي، وهما مطلبا صندوق النقد من الحكومة المصرية حالياً.

تتجاهل هذه الرواية المبسّطة عن نجاح تلميذٍ مُطيع لصندوق النقد، أسباب الأزمة التي دفعت البلاد نحو الإفلاس أصلاً، أزمة تتعلق بتزايد القروض العسكرية، وتوقّف أميركا عن شراء الأسلحة المصرية التي كانت تُورد إلى أفغانستان لمكافحة الشيوعية، وانخفاض سعر البترول، ثاني أكبر مَصدرٍ للعملة الصعبة في مصر.

لم يكن تجاوز الأزمة مُرتبطاً بتنفيذ تعليمات الصندوق، بل بقرار سياسي من الولايات المتحدة الأميركية (وبدعم سعودي) بشطب نصف ديون مصر، ثمناً لمشاركة الجيش المصري في حرب الخليج الأولى.

 تقلصت ديون مصر إثر القرار السياسي من 53 مليار دولار إلى 28 مليار دولار، ما أتاح وفرة مالية معتبرة، وطُلب من الحكومة مقابل هذا الدعم السخي بيع حصصها من الشركات العامة، والتوقّف عن دعم العملة وتحقيق انضباط مالي.

أثارت الأموال التي احتفظ بها نظام مبارك بدلاً من تحويلها إلى المقرضين في الخارج على هيئة أقساط وفوائد، شهية النظام للتوسع العمراني. في تلك الأثناء، عمّم البنك الدولي دعاية عن مصر ملخّصها أن مشكلة البلاد في جوهرها تمكن في أن سكانها محشورين في زاوية جغرافية ضئيلة، هي شريط وادي النيل، بالتزامن مع نمو ديمغرافي متسارع.

كان تفسير المشكلة على ذاك النحو يعني بداهةً، أن الحل الوحيد هو الخروج نحو الصحراء، وقد تلقّف نظام مبارك تلك البداهة التي لم يجرِ التشكيك فيها مثل كل تعميمات البنك الدولي، وقرر توسعة العاصمة، لكن كيف تحوّل مشروع قومي يخص كل المصريين إلى مشروع للأثرياء فقط؟ 

بدأت القصة من وجهة نظر شيخ المعماريين المصريين المهندس حسين صبور ، باقتراح بناء طريق دائري حول القاهرة بهدف حمايتها من الزحام الناتج من اختراق المدينة من القادمين من الأقاليم، أثناء مرورهم خلال سفرهم من محافظة إلى أخرى.

اقتنعت الدولة بالفكرة، وجلبت مستشارين عقاريين من باريس، اقترحوا نقل العشوائيات التي يسكنها 2 مليون شخص من داخل الدائري إلى خارجه، وبناء مساكن جديدة لهم والاستحواذ على الأراضي عالية القيمة التي يعيشون عليها.

وضعت وزارة الإسكان 10 نقاط لمدن جديدة غير متّصلة تكفي لاستيعاب 2 مليون مواطن، بمعدل 200 ألف لكل مدينة غرب الدائري وشرقه، وسمي كل حي باسم التجمع: التجمع الأول، الثاني، الثالث، وهكذا، وملّكت الوزارة كل تجمُّع لشركة من شركات المقاولات التابعة للدولة، واختارت له مهندساً مسؤولاً عنه. 

أثناء تصميم التجمعات الفقيرة، اكتشف وزير الإسكان أن أراضي التجمع مرتفعة عن سطح البحر، وتتطلب تكلفة عالية لنقل المياه عبر المواتير، فقرر تحويلها لتجمّع أغنياء، اعترض عمر عبد الآخر محافظ القاهرة حينها على ذلك، وقدم أسباباً وحججاً تخطيطية تتعلق بزيادة حجم الازدحام المروري وخنق وسط القاهرة.

قرر عاطف صدقي، رئيس الوزراء حينها، إلغاء فكرة القاهرة الجديدة، فخاطبت وزارة الإسكان رئيس الجمهورية حسني مبارك، وأقنعته بفكرة مدن الأثرياء، فوافق فوراً، إذ كان الرئيس متحفزاً لحفر اسمه في التاريخ عبر بوابة “المشروعات الفرعونية”.

دارت فكرة المشروعات الفرعونية حول شقّين: الأول، هو زراعة توشكى، وخلق نهر جديد في الصحراء الغربية مع استصلاح 2 مليون فدان. والثاني هو بناء مدن خيالية للحالمين بالتخلص من الأجواء الخانقة لقاهرة التسعينات.

طرح حينها أحمد بهجت، رجل الأعمال الذي تعلم وعمل في أميركا،  فكرة بناء “دريم لاند”، وقيل حينها أنه مجرد واجهة لاستثمارات العائلة الحاكمة، وكانت فكرة المدينة حرفياً تشكيل واحة فارهة في صحراء الجيزة، مكوّنة من فيلات فاخرة ومولات وملاهٍ وملاعب غولف.

وبدلاً من أن يخدم الطريق الدائري سكان الأقاليم، بدأ يخدم الباحثين عن مستوى فائق من الرفاهية، إذ رُبطت الجنة المعزولة غرب القاهرة بوسط العاصمة من خلال ذلك الطريق، وبُني طريق دائري في الاتجاه العكسي إلى شرق هضبة المقطم نحو القاهرة الجديدة.

أثارت شهية الرئيس المفتوحة على بناء المدن الجديدة، أحلام المطورين العقاريين، فأحدثوا انفجاراً عقارياً لم تشهده مصر سابقاً، وضاعفوا حجم العاصمة مع النصف الثاني من التسعينات.

في خضمّ الحماسة لتعمير الصحراء حيث لا زحام، لا تلوث، لا مصانع، لا تحرش، لا شيوخ مزعجين من الصحوة الإسلامية، كما دارت الدعاية آنذاك، انهمكت الدولة في دعم المطورين العقاريين عبر منحهم الأراضي بأسعار رمزية وإعفائهم تقريباً من الضرائب ومدّهم بالمرافق، والأهم بناء الطرق والكباري، ومن هنا بدأت الحكاية.

إضعاف اقتصاد مُنهك

فتح النظام السياسي البلاد أمام القطاع الخاص للاستثمار في قطاع التشييد، الذي أصبح مربحاً في ظل تقلبات العملة والتضخم الصاعد ورفع سعر الفائدة باستمرار، وفتح البلاد أمام السلع المستوردة، ما أثر سلباً على القطاع الصناعي، بينما كان القطاع الزراعي في مصر يُحتضر منذ تولت الوكالة الأميركية للتنمية ملف الزراعة المصري وقررت “إعدام الوادي القديم” لمصلحة المزارع الاستثمارية الكبرى.

يرى تيموثي ميتشل في “حكم الخبراء”، أن المصالح بين المطورين العقاريين والبنوك والدولة تشابكت لصنع طفرة عقارية، بينما كان صندوق النقد يوصي الحكومة بأن عليها أن تخلق ازدهاراً تصديراً وليس عقارياً (وهو ما تكرر في 2016).

كان العسكريون يراقبون هذا التطور المحموم، ورأوا أن لهم نصيباً مستحقاً في ذلك، فانهمكوا في تشييد أحياء ضباط في شرق القاهرة وغربها حتى تحولت وزارة الدفاع إلى أكبر مطور عقاري في المدن الجديدة. لكن على عكس المدنيين، الذين ملأوا طرقات القاهرة وشاشاتها بالإعلانات المدفوعة عن عقاراتهم الفارهة، أحاطت القوات المسلحة استثماراتها العقارية بصمتٍ مدروس، ومن هنا اكتسبت الهيئات العسكرية خبرة كبيرة في تطوير المدن الجديدة وشق الطرق والكباري المدنية. 

تشييد عقار = إغلاق مصنع 

أصبح قطاع التشييد رقم 3 في الناتج المحلي الإجمالي بعد القطاع البترولي والسياحة بسبب ما سبق، وبحكم اعتماد الاستثمار السياحي على تشييد الفنادق والقرى السياحية، فإن قطاع التشييد كان رقم 2 عملياً،  ما جعل الاقتصاد المصري أشد هشاشة من ذي قبل، فكيف ذلك؟

تراجعت حصة مصر من الصادرات العالمية بأكثر من النصف في الفترة بين عامي 1985 و1997، تاركةً “البلد غير البترولية” أسيرة الصادرات البترولية فقط، ما وضع اقتصاد البلاد على الحافة، فإذا كانت خطة صندوق النقد للاقتصاد المصري تقتضي بأن تزرع مصر الفواكه والخضراوات لأوروبا والخليج، فخطة الحكومة مختلفة، وتتطلب تبوير الأراضي المزروعة أحياناً، بهدف تعبيد الطرق الدائرية لخدمة المدن الجديدة.

ضلّل البنك الدولي الحكومة في شأن مشكلة مصر الجوهرية، ولم تعد ترى الحكومة أمامها غير صحراء يجب تشييدها، وكانت تعليمات الصندوق حول النمو المدفوع بالتصدير في النقطة العمياء من مرآتها وهي تقود قاطرة البلاد نحو أكبر طفرة عقارية في تاريخها.

استفاق النظام على صفعة غير محسوبة من سَكْرَة التشييد والاحتفاء الإعلامي بالمدن الجديدة، صفعة تجلّت في هجوم إرهابي على السياح في الأقصر عام 1997، وبعد أشهر من الارتباك وضعف نسبي في حصيلة العملة الصعبة، قررت الحكومة عزل الوادي القديم في خطة العمل السياحي، وباتت الدعاية السياحية تهمّش الآثار لمصلحة الشواطئ في البحر الأحمر، ونجحت جزئياً في ذلك. ولم تكد الدولة تُشفى من الطعنة الأصولية في جانبها الرخو، حتى أصيبت بكارثة غير محسوبة أخرى، إذ انهار السعر العالمي للبترول عام 1998 فاضطرت لإيقاف صادراتها البترولية مؤقتاً.

كان من الطبيعي أن تتعرض البلاد لأزمة طاحنة بسبب العملة الصعبة، إذ ساءت أحوال الميزان التجاري، فلجأت إلى الخطة “ب”: بيع أصول الدولة وعزل البلاد عن تقلبات السوق العالمية عبر إعاقة حركة الاستيراد، وبالتالي وقف نزيف العملة الصعبة، وهو ما يتكرر في شكل حرفي في الأزمة الراهنة 2022.

المبالغة في إنشاء الكباري/الجسور في مصر علامة على سوء تخطيط الحكومة وهدرها القروض التي تحصل عليها، من دون أي عائد يمس المواطن المصري.

تدمير البنية الزراعية وبيع المصانع وإغلاق بعضها، كلها أمور لم تترك أمام الدولة سوى قطاع التشييد سبيلاً للنمو الاقتصادي، وتوليد الربح للمستثمرين وحفظ قيمة العملة بالنسبة الى المواطنين. وعرضياً، تسبب تفحّش الاستثمار العقاري بازدهار صناعات مرتبطة بالتشييد، وعلى رأسها صناعات حديد التسليح والأسمنت، وقبل ذلك كله تحوّل قطاع المقاولات إلى العمود غير الصلب لاقتصاد البلاد المتهالك.

لم تكن الصناعات التي ازدهرت عرضياً مخصصة للتصدير، وفشل الاستثمار العقاري ككل في حل مشكلة تدني مستويات الاستثمار المحلي، فالعقار في النهاية باقٍ في مكانه ولن يجلب دولاراً، ومع ذلك أمعنت الدولة في دعم المطوّرين العقاريين على حساب المصنعين، فتحول كثر منهم بدورهم إلى ممولين عقاريين وفكّكوا مصانعهم.

تجسّد دعم الدولة للإنشاء والتشييد في القروض، ففي الوقت الذي كانت فيه البنوك الحكومية والخاصة (وغالبيتها مملوكة للبنوك الحكومية من الباطن) تُضيّق الخناق على الصناعيين، فتحت خزائنها كلياً للمطورين العقاريين بل وصممت تمويلاً مُعفى من الضرائب خصيصاً لهم.

مطلع الألفية الثالثة وبينما كان الرئيس مبارك يركز  في خطاباته على تحقيق التنمية الشاملة، تعرضت بورصة القاهرة لانهيار مفاجئ، وخسرت 50 في المئة من قيمتها، وفُسِّر الأمر حينها بأسباب نفسية تتعلق بخوف المستثمرين من تبعات انهيار بورصة نيويورك. إثر ذلك، انهار الازدهار العقاري، وفي حادثة لافتة أصيب أحمد بهجت بأزمة قلبية بعد انهيار أسهم شركته، وتحولت “دريم لاند” من مدينة أحلام إلى رمز لفشل المرحلة ككل.

لم يكن أحمد بهجت وحيداً، إذ اكتشف المطورون العقاريون أن المدن التي بنوها في الصحراء أكبر من احتياجات السوق المحلية، وأن الإشغال لم يتجاوز الربع أبداً، وانهارت أسعار العقارات الفاخرة إلى النصف، وكانت أكبر شركة عقارية في البلاد، “المقاولون العرب”، تعاني من أزمة طاحنة.

انطلقت عجلة الركود مع شحّ الدولارات، وبدأ قطاع التشييد، الذي اعتمد في ازدهاره على تعاقدات الدولة، يتراجع تماماً، لمصلحة قطاع جديد كلياً، بدأ يجتذب النخبة السياسية الجديدة بقيادة جمال مبارك، وهو قطاع التكنولوجيا والاتصالات بدعم من حكومة المهندس أحمد نظيف.

كان تشغيل الموبايل في تلك الأثناء،  النشاط الاقتصادي الوحيد النامي في البلاد، فانتشرت السنترالات في أرجاء المحروسة كافة، وبات الحديث الليلي عبر الموبايلات القاعدة الأساسية لاقتصاد البلاد، وجاء فيلم (كلمني شكراً ) كرمز لتعلّق المصريين بالموبايل في تلك المرحلة.

أدى التراجع المزري لقطاع المقاولات وخوف البنوك من تسليف المطورين العقاريين بعد الخسائر الفادحة التي التصقت بهم، إلى إفساح المجال أمام القوات المسلحة، التي وجدت فرصة سانحة للدخول بثقلها في المجال لتفوز ببعض التعاقدات الحكومية المهمة، وكانت البداية مع طريق حلوان – الكريمات.

الولع بالكباري

على رغم فشل مصر في التحول نحو اقتصاد السوق الذي بدأ في التسعينات، وضياع فرصة تأسيس نموذج تنموي طويل الأجل ومستدام، إلا أن تحالف الحكم الذي جاء عقب الاضطرابات السياسية بين عامي 2011 و2013، أعاد تكرار السيناريو بحذافيره وفي شكل أكبر على نحو خطير.

كان مبارك ذكياً بما فيه الكفاية لتجنب مخاطر الديون الأجنبية، فأبقاها عند حدود آمنة للغاية، 37 مليار دولار، واعتمد على الديون المحلية حتى وصلت تكلفة خدمتها إلى نحو ربع الإنفاق الحكومي. 

ترك مبارك في المجمل اقتصاداً يعتمد على الريع والسياحة والخدمات والمضاربات أمام فشل في القطاعين الأساسيين الصناعي والزراعي، ما جعل الاقتصاد المصري مكشوفاً أمام تدهور الوضع السياسي في 2011، خصوصا مع تراجع عائدات قناة السويس بفعل الركود الذي ضرب الاقتصاد الصيني، وتراجع السياحة بفعل الاضطراب الأمني.

لكن الوضع لم يكن سيئاً كلياً، إذ كانت إدارة الرئيس السيسي محظوظة بدعم خليجي وصل إلى 20 مليار دولار في صورة ودائع ومنح، استثمرها الرئيس في توطيد أركان حكمه والحفاظ على الوضع الاقتصادي القائم، لكن تراجع أسعار البترول وبالتالي تراجع الدعم الخليجي، جعل الوضع على الحافة مجدداً.

أراد الرئيس، كما قال، رفع روح المصريين المعنوية عبر شق تفريعة جديدة لقناة السويس في آب/ أغسطس 2015، فزاد عبء القروض المحلية والأجنبية على السواء من دون أي عائد يذكر، لكن العائد السياسي الناتج من الدعاية الإعلامية المهولة للمشروع، وللقائد، أعاد سيناريو قصة المشروعات الفرعونية التي قوضت نظام مبارك في التسعينات.

تفتّحت شهية شركات المقاولات المدنية والعسكرية لمزيد من المشروعات، وتصاعدت أحلام العودة إلى زمن المدن الجديدة والطفرة الإنشائية في التسعينات، لكن بعكس ما حصل أيام مبارك، مُوّلت مشروعات المدن الجديدة بالديون الأجنبية والمحلية على السواء، ووصل عدد تلك المدن إلى 40 مدينة منها العاصمة الإدارية (بتكلفة 45 مليار دولار) والعلمين الجديدة الفارهة، ويبدو أن طفرة التسعينات لم تكن إلا مجرد الانفجار العقاري الحالي.

حصل النظام المصري عام 2016، على قرض بقيمة 12 مليار دولار، وكانت توجيهات صندوق النقد الدولي المعلنة هي نفسها منذ التسعينات: الإنفاق على تحديث القطاع الصناعي وخلق نمو مدفوع بالتصدير وتخفيض العملة وتقليص دعم الطبقات الشعبية الاجتماعي.

يقول الباحث الاقتصادي مجدي عبد الهادي، في حديث مع “درج”، أن خلف البيانات الإعلامية لصندوق النقد والبنك الدوليين، استراتيجية تنموية تركز فقط على البنية التحتية في مصر. ويضيف أن الشأن لا يتعلق فقط بمصالح الصندوق التي تهدف الى ضخ تلك القروض في مجال البنية التحتية، فدخول شبكات من المصالح “العامة والخاصة” كوسيط ربحي في التنفيذ، يجعل من تلك المشروعات أولوية لدى الشبكات التي تدفع تجاه الإنفاق على المقاولات، إضافة إلى استفادة النظام دعائياً من هذا النوع من المشروعات الملموسة التي تؤثر في الرأي العام مثل المشروعات القومية عموماً.

يرى عبد الهادي أن سهولة العمل في قطاع التشييد تغري الحكومة بالاستمرار فيه، خصوصاً إذا كانت الطرق والكباري ترفع أسعار الأراضي المملوكة للدولة وللشبكات المتصلة نفسها في القطاع العقاري، وتسمح للحكومة بالاستفادة منها لاحقاً، لافتاً إلى أن الإفراط في تلك المشروعات مؤخراً مع تدهور مستويات المعيشة والعملة الوطنية، جاء بأثر عكسي.

الاقتصاد المصري على الحافة 

مضت مصر في المسار نفسه مرتين، لكن ما يحصل الآن يختلف عما حصل في التسعينات التي تعد سنوات سعيدةً بالمقارنة مع الوضع اليوم، الفارق الأساسي أن التوسع الرهيب في الاقتراض المحلي على شكل ديون سيادية عالية الفوائد (وصلت إلى 19 في المئة في 2018) حرم القطاع الخاص من إمكان الوصول الى القروض اللازمة للعمل والتشغيل، وبلغ الوضع درجة من الحساسية إلى حد إعلان البنك التجاري الدولي، أحد المقرضين الكبار للدولة محلياً، عن ارتفاع عوائد القروض والإيرادات المشابهة إلى 45 مليار جنيه خلال عام 2021.

يمكن القول أن القروض الكبيرة التي حصلت عليها البلاد من الصندوق وغيره من مؤسسات التمويل الدولية، لم تنتج أي قيمة مضافة، أو سلع صالحة للتصدير أو سد احتياج محلي، بل أحكمت مصيدة الدين هذه المرة ودفعت البلاد إلى جوفها إلى غير رجعة.