fbpx

“مقعد دراسي ودورة مياه”… أحلام تلاميذ المدارس العراقية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

جدران متهالكة ونوافذ متكسّرة ونقص حاد في الكتب المدرسية والمقاعد والبنى التحتية، ظروف قاسية يعيشها تلاميذ مدرسة “أبناء النصارى” الواقعة في حي طارق شمال شرقي العاصمة بغداد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

جدران متهالكة ونوافذ متكسّرة ونقص حاد في الكتب المدرسية والمقاعد والبنى التحتية، ظروف قاسية يعيشها تلاميذ مدرسة “أبناء النصارى” الواقعة في حي طارق شمال شرقي العاصمة بغداد.

لا تختلف مطالب التلميذ علي الجابري (11 سنة) عن مطالب أقرانه في المدرسة، “أريد مقعداً أجلس عليه، ودورة مياه لقضاء حاجتي”، قال علي ناظراً بحزن إلى مبنى المرافق الصحية الذي ظل متهالكاً وغير صالح للعمل طيلة ثلاث سنوات.

ولا يختلف وضع مدرسة علي عما تعيشه مدارس حكومية كثيرة في محافظات عراقية عدة، تعاني ظروفاً قاسية تنسحب على التلاميذ والمعلمين على حدٍ سواء. 

فساد حزبي

مذ صارت وزارة التربية العراقية تحت رحمة المحاصصة الحزبية، وملف التربية والتعليم بمراحله المختلفة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، يشهد منحى تنازلياً في مؤشر الجودة.

الفساد الحزبي المتعاقب في ملفي “الأبنية والمناهج المدرسية” كلمة السر في أكبر أزمتين تواجهان التعليم الأولي في البلاد، إذ سُجلت شبهات فساد في ملف المناهج والأبنية المدرسية، منها ما كشفه عدد من المسؤولين، عن غياب الشركات الصينية عن مشروع بناء ألف مبنى مدرسي في مختلف أنحاء العراق، بخلاف ما ورد في اتفاقية التعاون بين الحكومتين العراقية والصينية، والمعروفة باسم “النفط مقابل الإعمار“. وهو اتفاق كان أعلن عنه عقب زيارة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي إلى بكين في أيلول/ سبتمبر 2019، وتُرجمت أولى خطواته في عهد حكومة مصطفى الكاظمي عبر مشاريع بناء المدارس لسدّ حاجة البلاد منها، مشروع روّجت له حكومة الكاظمي، وعدّته في حينه بمثابة المنجز.

ومذ صارت وزارة التربية خاضعة للنفوذ السياسي والمحاصصة الحزبية، يشهد مستوى التعليم في العراق تدهوراً مستمراً، وهو واقع مأساوي وفق عضو لجنة التربية النيابية السابق رعد المكصوصي. 

يوضح المكصوصي لـ”درج”، أن مستقبل النظام التعليمي في العراق بات على “شفا هاوية”، ويعزو أسباب هذا الانهيار إلى الطريقة التي تدير بها أحزاب السلطة وزارة التربية، والسعي باتجاه الاستفادة القصوى من موازناتها المالية، ما ولّد نقصاً حاداً في المدارس والكوادر التربوية.

صراع سياسي

لا تنفي رئيسة لجنة التربية البرلمانية زيتون الدليمي، وجود صراع سياسي على وزارة التربية للظفر بالعقود والمناقصات الخاصة بترميم المدارس وطباعة المناهج الدراسية، موضحة أن ذلك الصراع “ولّد أزمات كثيرة ألقت بظلالها على واقع التعليم التربوي”.

تقول الدليمي لـــــ”درج”، إن العوز الحاصل في مدارس البلاد ومرافقها الحيوية انعكس على همة معلمين ومدرسين كثر باتوا يعتبرون التدريس مجرد وظيفة تدرّ مرتباً شهرياً.

وليس بعيداً مما تقوله الدليمي، لا ينفي المتحدث باسم الوزارة كريم السيد، الصراع السياسي الذي يعرقل عمل الوزارة، مشيراً إلى أن “الفساد موجود في كل المؤسسات الحكومية، لذا نأمل أن تكون وزارة التربية بعيدة من تلك الصراعات على اعتبارها تركز على بناء الإنسان، وأي انحراف في مسارها سيؤثر في الأجيال المقبلة ومستقبل البلاد”. 

انتكاسة تعليمية

وإلى جانب الفساد والتناحر الذي تمارسه أحزاب السلطة على المناصب القيادية داخل الوزارة، فاقمت أزمة “كورونا” واقع التعليم في البلاد بعد اللجوء إلى التدريس من بعد، إذ وصفه نقيب المعلمين في العراق، عباس السوداني، بـ”الانتكاسة التعليمية” التي تسببت بتراجع المستويات العلمية للطلبة. 

السوداني أوضح لـــــ”درج”، أن “التعليم الإلكتروني لم يكن ناجحاً لأسباب عدة منها عدم استعداد العراق لهذا الظرف، إضافة إلى ضعف الإنترنت، فضلاً عن عجز عائلات كثيرة عن شراء الأجهزة الذكية لأبنائها للمشاركة في الحصص التعليمية بسبب الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة”.

الأزمات السياسية والأمنية التي مر بها العراق، يراها نقيب المعلمين العراقيين “ذات تأثير مباشر على العملية التربوية”، مقراً بعدم “وجود خطط استراتيجية لإعادة التعليم لما كان عليه في فترة العقود السابقة وإصلاح الخلل الموجود”. 

وفي مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، فتحت المدارس العراقية أبوابها أمام 12 مليون طالب إيذاناً ببدء العام الدراسي الجديد، بعد الإغلاق الطويل والانتقال إلى التعليم الإلكتروني في العام الدراسي 2020-2021، بسبب “كورونا”.

نقص حاد في المدارس والمستلزمات

لا تعاني وزارة التربية من قلة الأبنية المدرسية فحسب، بل ترزخ تحت نقص كبير في المستلزمات التعليمية، كالمقاعد والوسائل التعليمية المتطورة، واقعٌ تصفه رئيسة لجنة التربية النيابية زيتون الدليمي بـ”الكارثي”، مبدية قلقها من “ارتفاع مستويات الجهل والتخلف في السنوات المقبلة إذا استمرت الحال على ما هي عليه من دون وضع الحلول والمعالجات الناجعة”. 

ولا تنسجم الأبنية المدرسية المتوافرة مع زيادة نمو البلاد السكاني، إذ تستقبل وزارة التربية سنوياً ما بين مليون إلى مليون ونصف المليون طالب، فيما تحتاج البلاد إلى 10-12 ألف مدرسة جديدة لحل مشكلة نقص المدارس والقضاء على المدارس الطينية والكرفانية، وحل مشكلة ما يعرف بالدوام المزدوج الثنائي والثلاثي. تكشف الدليمي عن وجود 1000 مدرسة كرفانية في عموم محافظات البلاد، وأكثر من 300 مدرسة طينية، مؤكدة أن “ملف التربية والتعليم لم يحظَ باهتمام حكومي كبير طوال السنوات السابقة، ما أدى إلى تراكمات ثقيلة ظهرت بشكل واضح مع بداية العام الدراسي الحالي”. 

لا تعاني وزارة التربية من قلة الأبنية المدرسية فحسب، بل ترزخ تحت نقص كبير في المستلزمات التعليمية، كالمقاعد والوسائل التعليمية المتطورة.

وبحسرة كبيرة، تستذكر رئيسة اللجنة البرلمانية، مشروع رقم واحد الذي أطلقته الحكومة عام 2012 لهدم 1700 مدرسة آيلة للسقوط وإعادة بنائها من جديد، إلا أن الفساد المالي والإداري حال دون ذلك، ما تسبّب في تشريد آلاف الطلبة والتلاميذ، وما زال التحقيق الخاص بالمشروع مركوناً على رفوف هيئة النزاهة الاتحادية بعد هدر قرابة 200 مليون دولار. 

وعن طبيعة التخصيصات المالية التي تُمنح سنوياً لوزارة التربية، لا تتردد الدليمي بالقول إن “التخصيصات الحكومية لطباعة المناهج الدراسية لا تكفي لسد 10 في المئة من حاجة الوزارة، وبالتالي فهي عاجزة عن معالجة نقص المناهج والمستلزمات التعليمية وترميم المدارس، وتطوير الكوادر التدريسية أو الارتقاء بمستواهم”.  

شحة المناهج 

“تعاقدات وزارة التربية لطباعة الكتب المدرسية بلغت نحو 150 مليار دينار عام 2015، و139 مليار دينار لعام 2016، و111 مليار دينار لعام 2017، وتوزعت تلك المبالغ على نحو 22 مطبعة داخل العراق وخارجه، إلا أن تلك المبالغ لم تعالج مشكلة شحة الكتب المدرسية، التي باتت تشكل عبئاً على الأهالي، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

ولا يستبعد النائب البرلماني جمال كوجر وجود صراع مالي وشبهات فساد في ملف طباعة المناهج، خصوصاً في المطابع الدولية، مضيفاً لـ”درج”، أن”مكاتب الأحزاب الاقتصادية ربما هي التي تتحكم بمثل هذه الملفات”، 

وفيما قال المتحدث باسم وزارة التربية كريم السيد إن “تأخر إقرار مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2022، تسبب بحالة من الإرباك في عمل وزارة التربية على اعتبار أن طباعة المناهج الدراسية مرهون بالتخصيصات المالية المخصصة ضمن قانون الموازنة”، يرى أن “المعوقات لا تقف عند المناهج الدراسية فحسب، فالمدارس تحتاج غالباً وفي شكل عاجل إلى ترميم وإعادة إعمار، وإمكانات الوزارة المالية لا تلبي ذلك”. 

ورهن المسؤول الحكومي، حل مشكلة الدوام المزدوج واكتظاظ الصف الدراسي، ببناء مدارس جديدة تنسجم مع النمو السكاني غير الطبيعي في البلاد، مؤكداً أن “افتتاح المدارس الأهلية عالج جزءاً من المشكلة وسط ضوابط وزارية مشددة”. 

وشخصت مذكرة ديوان الرقابة المالية المرقمة (8610) في تموز/ يوليو 2020، تحوّل معظم المدارس الأهلية إلى مشاريع تجارية ربحية من دون الاهتمام بالمعايير والضوابط التعليمية، ما أبعد تلك المدارس من تحقيق الهدف المرجو منها، فضلاً عن عدم معاقبة المدارس التي حققت نسب نجاح متدنية دون الـ30 في المئة خلافًا لما جاء في المادة (26/خامساً/2) من التعليمات رقم 1 لسنة 2014، الخاصة بمنح الإجازات لتأسيس المدارس الأهلية. 

وأقرّ الديوان في مذكرته أيضاً، عدم توافر الشروط المطلوبة في أبنية مدارس أهلية كثير، والتي نصت عليها التعليمات، كالمختبرات والمكاتب ودورات المياه.

طلاب لا يفهمون ما يقرأونه

دعا تقرير البنك الدولي الصادر في 23 أيار/ مايو 2022، إلى “تعزيز ممارسات التدريس لمعلمي اللغة العربية والرياضيات، وتحسين مهارات القراءة والكتابة والحساب لدى طلاب المرحلة الابتدائية من الفئات الأكثر احتياجاً في المحافظات العراقية، التي تتأخر التنمية فيها عن المحافظات الأخرى، محملاً ما سماه البيان “سنوات من الصراع وأوجه القصور الهيكلية”، انقياد العراق إلى نظام تعليمي يعجز عن تقديم المهارات الأساسية إلى الطلاب والتي تشكل أساس التعلم وتنمية المهارات”.  

 وأضاف البيان: “يُظهر أحدث تقييم لمهارات القراءة والرياضيات للصفوف الأولى، أنه بحلول الصف الثالث لم يكن الطلاب العراقيون الذين تم تقييمهم، في غالبيتهم، قد اكتسبوا بعد المهارات الأساسية الكافية – مع أكثر من 90 في المئة من الطلاب يعجزون عن فهم ما يقرأونه. علاوة على ذلك، لم يتمكن ما يقرب من ثلث طلاب الصف الثالث من الإجابة في شكل صحيح عن سؤال واحد حول أحد النصوص المناسبة لأعمارهم قرأوه لتوّهم، ولم يتمكن 41 في المئة من طلاب الصف الثالث من حل مسألة طرح حسابية واحدة في شكل صحيح”.

الإشكاليات التي رصدها البنك الدولي في تقريره، أغضبت وزارة التربية العراقية، التي رفضت ما ورد في التقرير، وقد أكد المتحدث السابق باسمها حيدر الفاروق، في تصريحات صحافية، أن “البنك الدولي لا يمتلك صلاحية تقييم الواقع التربوي في العراق”. 

في خضم ذلك، وصف عضو لجنة التربية البرلمانية، محمود القيسي، تقرير البنك بـ”الظالم وغير المنصف”، قائلًا لـــ” درج” إن “الطالب العراقي أحد أكثر طلاب المنطقة ذكاء واجتهاداً، لكن الظروف التي مرت بها البلاد من الغزو الأميركي عام 2003 مروراً بالصراع الطائفي والحرب على تنظيم داعش الإرهابي وصولاً إلى أزمة جائحة كورونا، أثرت بشكل كبير في الواقع التربوي بالعراق”.  

في موازاة ذلك، سجل الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط العراقية عام 2020، ارتفاع نسبة الأمية في العراق بين السكان الذين تزيد أعمارهم عن 10 سنوات، إلى 13 في المئة، فيما تقدر وزارة التربية أعدادهم بـ5 ملايين شخص لا يجيدون القراءة والكتابة.

وتشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” في تقريرها لعام 2021، إلى نحو 3.2 مليون طفل في سن الدراسة خارج المدارس في العراق، فيما 54 في المئة من الأطفال من الخلفيات الاجتماعية الفقيرة لا يكملون تعليمهم الثانوي، وينتهي بهم المطاف في سوق العمل غير الرسمي، فيصبحون عرضة للإساءة والاستغلال.

ولفت التقرير إلى أن النظام رهينة للتدخل السياسي الخارجي، والتلاعب البيروقراطي في الداخل، إضافة إلى المحسوبية وتردّي بنية نظام التعليم التحتية الأساسية.

الحاجة أمّ الاختراع

وحول انتشار ظاهرة التعليم الأهلي، لا تنفي الدليمي ارتباط مدارس أهلية بأحزاب سياسية متنفّذة، إلا أنها تقول إن “تجربة التعليم الأهلي أثبتت نجاحها في العراق وخفّفت الزخم بشكل ملحوظ عن المدارس الحكومية”. 

ووفقاً لنظام التعليم الأهلي والأجنبي رقم 5 لسنة 2013، لا تتدخل وزارة التربية في تحديد كلفة الدراسة وأجور الكوادر التعليمية في تلك المدارس، فذلك يرجع الى الهيئة التأسيسية، وهو ما يجعل الأجور تتباين ما بين 1200 دولار سنوياً، وقد تتجاوز الـ4000 دولار في مدارس تقدم نوعية متقدمة من التعليم، وفق وزير التربية السابق علي حميد. 

وتفرض وزارة التربية شروطاً للموافقة على افتتاح أي مدرسة خاصة في البلاد، بينها ما يتعلق بمؤهلات الكوادر التعليمية وجودة الأبنية وتوافر الشروط الصحية فيها، والتزامها بمناهج الوزارة، إلا أن واقع الحال خلاف ذلك، فمعظم تلك المدارس عبارة عن بيوت بمساحة لا تتجاوز الـ300 متر مربع، منحت إجازة التأسيس بضغوط سياسية وحزبية، كما يوضح النائب السابق رحيم الدراجي لـ”درج”. 

إثر ذلك كله، اضطر وزير التربية الحالي، ابراهيم الجبوري، إلى إيقاف منح الإجازات للمؤسسات الأهلية من مدارس ومعاهد داخل العراق وخارجه، فضلاً عن تعليق الإجازات الممنوحة للأشهر السابقة.

 ولفت الجبوري الى أن “إجراءات أخرى ستتخذها الوزارة من شأنها إعادة تقييم هذا الملف المهم والحفاظ على الرصانة العلمية”.

ووفق جهاز الإحصاء المركزي، بلغ عدد المدارس الابتدائية (الحكومية والأهلية والدينية) 17235 مدرسة للعام الدراسي 2018-2019، تشكل المدارس الحكومية منها نسبة 91.9 في المئة، والأهلية 7.9 في المئة، والدينية 0.2 في المئة، وقد كان عدد المدارس الابتدائية في العام 2017-2018 15965 مدرسة، ما يشكّل ارتفاعاً بنسبة 8.0 في المئة. 

اعتداءات متكرّرة

الاعتداءات على الكوادر التربوية، مشكلة أخرى يشخّصها نقيب المعلمين العراقيين، الذي قال إن “مديريات وزارة التربية في المحافظات سجلت عشرات الاعتداءات على المعلمين خلال السنوات الأخيرة، ما ولّد حالة من الذعر لدى الكوادر التدريسية في محاسبة الطلبة أو تصحيح مسارهم التعليمي”. 

وعلى رغم إقرار مجلس النواب العراقي في أيار/ مايو 2018، قانوناً لحماية المعلمين والمدرسين من الاعتداءات والمطالبات العشائرية والابتزاز الذي يواجهونه بسبب قيامهم بأعمال الوظيفة الرسمية، إلا أن بنود القانون لا تزال غير مفعلة، الأمر الذي دفع أعضاء السلطة التشريعية إلى الاعتقاد بوجود “أجندة سياسية مشبوهة”، وراء تعطيل العمل بهذا القانون المهم، كما يقول ذلك لـــ” درج” عضو لجنة النزاهة النيابية هادي السلامي.