fbpx

“نحن أيضاً بشر”…
عائلات منبوذة في عشوائيات غرب الموصل تحاصرهم الرمال الزاحفة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“نحن أيضاً بشر مثل الناس الذين يعيشون هناك، عليهم أن ينظروا إلينا بعين الرحمة، لأن حيواناتهم تعيش حياة أفضل من حياتنا هنا”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عند الرابعة من فجر كل يوم، يجتمع عشرات الشبان والأطفال في مركز تجميع النفايات القريب من منطقة العبور غرب الموصل، مركز محافظة نينوى (405 كلم شمال بغداد)، بانتظار شاحنات نقل نفايات مختلف مناطق الجهة اليمنى من المدينة لتفرغ حمولاتها هناك، ويبدأوا هم بنبشها والتقاط ما يصلح للبيع أو حتى للأكل أو حطباً للتدفئة والطبخ.

“نحن منسيّون” يقول أشرف حمادي (17 سنة) وهو ينفض كيس أرز فارغاً سعة 50 كيلوغراماً، ويتأكد من عدم وجود ثقوب فيه استعداداً لجولة النبش الأولى له ليوم الخميس 22 كانون الأول/ديسمبر 2022. أزاح اللثام السميك عن وجهه قليلاً ثم قال وهو يشير إلى رفاقه المتوثبين:

“غالبيتهم نازحون من مناطق غرب نينوى المهملة، مثل تل عبطة والبعاج وسنجار والحضر، بسبب الرمال التي دفنت قراهم وأراضيهم بفعل الجفاف والتصحر الذي قتل مواشيهم، والبعض نازحون من المخيمات مثلي أنا”.

ثم يكشف عن وجهه الفتي بالكامل ليؤكد حضوره: “أخرجونا من مخيم حسن شامي ورفضوا عودتنا إلى قريتنا في سنجار، فلم يكن أمامنا سوى المجيء إلى هنا”، ومدّ ذراعه باتجاه مجموعة من المنازل القريبة غير مكتملة البناء، وبعضها من الصفيح  يشكّل ما يعرف بعشوائيات العبور. 

يتابع الفتى بعد أن شدّ لثامه مجدداً:”سكنا بضعة أشهر في خيامٍ خاصة بنا، لكن صاحب الأرض طردنا، لأنه أراد تقطيعها إلى أراض سكنية، فاستأجرت كل ثلاث عائلات أو أكثر منزلاً صغيراً من منازل العشوائيات، هي أفضل من الخيام في كل حال”.

اتّخذ أشرف مكانه بين مجموعة من أقرانه ما أن لاحت من بعيد أضواء شاحنة نفايات مقبلة، قبل أن يقترب منا مجدداً ليقول: “لا نملك في معظمنا مستمسكات رسمية، ولا نذهب إلى المدارس، لا سكن ولا كهرباء ولا ماء ولا مواد تموينية…”، اهتزت الرؤوس المؤيدة من حوله مع كل كلمة رددها ثم سرعان ما تجاوبوا جميعاً مع منبّه أطلقته شاحنة النفايات، وهرعوا إلى المكان الذي توقفت فيه.

ينتقل أشرف ورفاقه من كومة نفايات إلى أخرى لغاية العصر، وبعدها يفرزون غنيمتهم اليومية من أوعية الطعام وعلب المشروبات الغازية وأسلاك الكهرباء وقطع الحديد والبلاستيك، ثم يبيعونها بسعر زهيدٍ لأصحاب شاحنات صغيرة يجمعونها منهم كل مساء، والبعض لا يجد ما يستحق البيع، فينتظر ما ستجود به شاحنات النفايات في اليوم التالي. 

سنوات من نشاط المجموعات المسلّحة والإهمال، ومن بعدها التصحر في مناطق غرب نينوى وجنوب غربيّها، دفعت الآلاف من العائلات الى النزوح بحثاً عن الماء وفرص العمل باتجاه مدينة الموصل، فنشأت أحياء سكنية عشوائية على تخوم تصميم المدينة الأساسي، التحقت للسكن فيها مئات من العائلات التي كانت موجودة في مخيمات النزوح التي أغلقتها وزارة الهجرة والمهجرين بعد 2017.

قسم من تلك العائلات معدم لا يقوى على دفع بدلات إيجار مرتفعة في مناطق أخرى، والقسم الآخر هو عائلات عناصر من تنظيم “داعش” أو متهمة بذلك، ورفضت المناطق التي كانت نزحت منها استقبالها مجدداً، فلم يكن أمامها من ملجأ سوى العشوائيات، مثل تلك التي في منطقة العبور، وكثر من أبنائها بلا مستمسكات رسمية، لأن آباءهم من عناصر التنظيم، أو كان الزواج خارج نطاق محكمة الأحوال الشخصية.  

السكن العشوائي هذا في العبور وسواها من المناطق الأخرى، أعاق بنحو كبير خطط التوسع في مدينة الموصل، إذ ذكر مدير بلديتها المهندس عبد الستار الحبو، أن هنالك 58 ألف وحدة سكنية مبنية عشوائياً ويتطلب تصحيح أوضاعها بالإزالة والتعويض مبالغ كبيرة. 

يسلّط هذا التحقيق الضوء على سكان تلك العشوائيات التي تضم ثلاثة أحياء متجاورة (العبور 1، العبور2، العبور3) والمشكلات التي يعانون منها بسبب وجودهم في بيئة ملوّثة تفتقر الى الخدمات الصحية والتعليمية، إلى جانب ندرة فرص العمل، فضلاً عن أخطار عزلهم ونبذهم من المجتمع، سواء بسبب وجود عائلات عناصر “داعش” أو بسبب الفقر المدقع في ظل إهمال الدولة.

بين الدولة والعشائر

الناشط المدني ستار عبيد، شابٌ في عقده الثالث يعيش في منطقة العبور، ويرشد العاملين في منظمات المجتمع المدني باستمرار إلى السكان الأكثر حاجة إلى مساعدات، يرسم خارطة للمنطقة بقوله: “تجاور في غرب الموصل رجم حديد وتمتد حتى منطقة جبلة”. ويلفت إلى أن وجودها خارج حدود بلدية الموصل دفع الى البناء فيها من دون تنظيم وكيفما اتفق، وغالبية السكان هم من القرويين القادمين من أقضية ونواحٍ وقرى تابعة لمحافظ نينوى.

وعلى رغم ندرة فرص العمل المتاحة أمامهم، يرى عبيد أن سكان منطقة العبور التي قدّر أعدادهم بنحو 40 ألفاً، يفضلونها على المناطق التي أتوا منها كون الفرص هناك معدومة تماماً. ويضيف: “كثر منهم كانوا مزارعين ويمتلكون مواشيَ، لكنهم فقدوها بسبب جفاف الآبار وندرة الأمطار… عودتهم باتت مستحيلة، فبعض القرى اليوم دفنتها الرمال”.

يصمت برهة ثم يقول: “باختصار، العائلات التي تسكن المنطقة إجمالاً، ليست لأفرادها أعمال أو لديهم مشكلة أمنية، أي يكونون محسوبين على تنظيم داعش”. 

ويوضح: “العائلات التي انتمى أحد أفرادها الى داعش، يُنظر إليها من الجهات الأمنية على أنها تابعة للتنظيم، ومن الناحية العشائرية تكون هدفاً لعشائر قتل داعش أفراداً منها، ولهذا فإن عودة هذه العائلات إلى مناطقها القديمة شبه مستحيل، ولم تجد سوى منطقة العبور ملاذاً بعد أن أفرغت المخيمات التي كانت تضمّهم”. 

ذلك الواقع هو الذي يدفع كثراً من سكان منطقة العبور الى التوجه الى مواقع “الطمر” لإيجاد شيء يمكن بيعه أو حتى تناوله، وقلة قليلة هم الذين تمكنوا من العثور على عمل في معامل (الكاشي) أو الدقيق أو مخازن البطاطس، كما يؤكد نشاط في منظمات إغاثة.

فرص العمل تلك تؤمن للرجال أجوراً لا تزيد عن 70 ألف دينار في الأسبوع (47 دولاراً)، أما النساء فلا يتقاضين أكثر من 40 ألف دينار (27 دولاراً) أسبوعياً.

ووفق نوفل سليمان، مدير إحصاء محافظة نينوى، فإن المحافظة تأتي في المرتبة الأولى على مستوى العراق من حيث نسبة البطالة، التي أشار إلى أنها تبلغ 32 في المئة، فيما نسبة الفقر تبلغ 40 في المئة، وقال إن دائرته كانت تقدمت بطلب لشمول 300 ألف عائلة بالرعاية الاجتماعية، وتوقع أن يتم حصول 80 ألف عائلة على الدعم في موازنة 2023.  

ويذكر أن محافظة نينوى التي يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة، كان نزح منها وفقاً لتقديرات دولية، أكثر من مليوني شخص بدءاً من حزيران/ يونيو 2014 عند سيطرة “داعش” عليها.

ممنوعون من العمل

سبب آخر يقف وراء ندرة فرص العمل لسكان منطقة العبور، إذ يقول ناشط فضّل عدم ذكر اسمه، أن إشاعات كثيرة تدور في شأن وجود عائلات تنظيم “داعش” في المنطقة، وبسبب ردة فعل مجتمع الموصل ونينوى ضد التنظيم لما اقترفه بحقهم خلال فترة سيطرته على المحافظة بين 2014-2017، فإن أرباب الأعمال يمتنعون عن توظيفهم ويخشون من ارتباطاتهم. 

يضيف الناشط الذي يعمل في منظمة دولية تقدم مساعدات إغاثية، سبباً آخر لبطالة سكان منطقة العبور، يتمثل في عدم امتلاك بعضهم مستمسكات رسمية، “وبالتالي لا يستطيعون العمل في الكثير من مشاريع القطاع الخاص والدوائر الخدمية الرسمية، ولا مغادرة المنطقة خشية تعرّضهم للاعتقال، لذلك ليس أمامهم سوى أكوام النفايات لينبشوا فيها”.

وسبب عدم امتلاك البعض هناك أوراقاً ومستمسكات رسمية وفق ما أفاد مصدر في محاكم استئناف منطقة نينوى الاتحادية، هو أن معظم سكان العبور من المناطق الريفية النائية، والتي يشيع فيها زواج ما يعرف بــ”عقد الملا”، أي أن رجل دين يبرم عقد الزواج، وتتم الولادات بواسطة قابلات من دون توثيقها بموجب بيانات ولادة لدى المؤسسة الصحية، وأن كثراً منهم لا يُسجّلون في المدارس إلا بعد إثبات النسب لدى محكمة الأحوال الشخصية. 

وذكر أن القسم الآخر يتألف من أبناء عناصر تنظيم “داعش”، وهم غير مسجلين أصلاً في السجلات الرسمية إذا كانوا أجانب، ولم يوثقوا الولادات في حال كانوا محليين. 

سراج مصطفى، تاجر خضراوات بالجملة في منطقة سوق المعاش غرب الموصل، يقول إنه يسأل أولاً عن البطاقة الشخصية لأي عامل يتقدم للعمل لديه، ومن ثم يطلب كفيلاً ضامناً بأنه ليس من عائلة كان فيها أي من عناصر داعش، وإذا اتضح أنه من سكان منطقة العبور، لا يُسمح له بالعمل مطلقاً أياً كانت الضمانات المقدّمة.

ويدافع مصطفى عن إجراءاته الاحترازية بقولهِ: “لست مستعداً للخضوع للمساءلة القانونية، أو أن تنظر أي جهة أمنية إليّ بنظرة شك، كما أن إرهابيي داعش قتلوا شقيقاً لي وعدداً من أقربائي وأصدقائي، ولن أسامحهم أو  أي شخص له صلة بهم ما حييت”.

وحتى بالنسبة الى الجهات والشخصيات “فاعلة الخير”، فإنها تواجه مصاعب في منطقة العبور، إذ يؤكد (أ، ع، ر- 58 سنة) الذي يعمل على جمع مبالغ الزكاة وما يقدمه المحسنون لتوزيعها على المحتاجين، تجنّبه توجيه نشاطه نحو منطقة العبور حتى لا يتعرض للمساءلة من الأجهزة الأمنية.

ويوضح موقفه: “هناك عائلات تملك شهادة وفاة معيلها وأخرى لا تملك، وهناك عائلات تملك وثيقة التدقيق الأمني وأخرى لا تملكها. كذلك، هناك عائلات يملك أفرادها مستمسكات رسمية وغيرها لا. فلماذا أجلب المشاكل لنفسي وللمحسنين المتصدقين والمتبرعين، خلاصة القول رغم علمي بحاجة كثيرين وبراءتهم، إلا أنني أخشى الوقوع في المشكلات”.

عقوبات جماعية

فاطمة حازم المانع، رئيسة منظمة كَنيست (Gnist)، عراقية تقيم في النرويج، بدأت العمل في 2019، بالجانب الأيمن من المدينة لتمكين عائلات عدة من الاعتماد على نفسها بمشاريع صغيرة، وحاولت منذ مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، نقل “تجاربها الناجحة” إلى منطقة العبور. 

تذكر المانع أن قسماً من سكان تلك المنطقة استقروا فيها منذ سنوات بعيدة بسبب أثمان المنازل الصغيرة البخسة، المنشأة أصلاً خلافاً للقانون، يسكنها أشخاص ذوي الدخل المحدود. وقسم آخر هم إما نازحون، بسبب التغيرات المناخية وشحّ المياه، أو أفراد عائلات عناصر تنظيم داعش ممن غادروا مخيمات النزوح ولم تسمح مناطقهم الأصلية بعودتهم إليها. 

وتلفت المانع إلى أن تركيز منظمتها ينصب على توفير العمل للمستهدفين، من خلال تأمين مشاريع صغيرة تدرّ لهم موارد مالية، وتقول: “وجود دخل مالي من خلال عمل سيعني تأمين الاحتياجات الأساسية”.

مساعدات كالتي تقدمها منظمة المانع قد تعمل على ابتعاد سكان المنطقة من العنف مستقبلاً، وفي الحد الأدنى تأمين نوع من الاستقرار المالي الذي يمنع عمالة الأطفال ونبشهم في المزابل بكل ما يحمله ذلك من أخطار.

فاطمة حازم المانع

مدير منظمة يوتورن -U-Turn النرويجية محمد سيف المفتي، زار منطقة العبور في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022 مع فريق إغاثي، بهدف تقديم مساعدات لعدد من سكانها. يقول أنه لا يستطيع وصف مدى سوء الوضع العام هناك، بسبب المسستنقعات التي شكلتها مياه الصرف الصحي بين المنازل البسيطة المبنية عشوائياً، فضلاً عن الفقر الشديد الذي يعانيه سكانها. 

ويؤكد أن مجرد تقديم سلة غذائية أو كيس دواء لهم أمرٌ غير مجدٍ، ويضيف:”قد تسد حاجة موقتة ليوم أو اثنين، لكن بعدها ستعود الحال كما كانت عليه”. لذا يفضّل اختيار شبان من المنطقة لتعليمهم مهناً معينة يستطيعون بعدها إدارة مشاريع صغيرة ويعملون لاحقاً على تدريب آخرين وتشغيلهم “لتتحقق فائدة مستمرة ولعدد غير محدود من المستفيدين”.

وينتقد المفتي، الذي ولد ونشأ في الموصل، الجهات التطوعية التي تستثني العائلات التي كان أحد أبنائها متورطاً بالانتماء الى “داعش”، ولا تقدم لها المساعدات بقوله: “مع أن عناصر داعش قتلوا آلافاً من الأبرياء، ودمروا الممتلكات العامة والخاصة في الموصل، إلا أنني لا أسمح لنفسي بتجاوز حقوق الأطفال أو حقوق أقرباء رجل متورط بالإرهاب، لا ذنب لهم بما ارتكبه قريبهم من جرائم”.

وفي شأن نساء عناصر “داعش”، يرى المفتي أنهن في غالبيتهن كن مجبرات على العيش معهم: “رأي المرأة في قرارات الرجال في مجتمعاتنا غير مسموع، لأنها ببساطة مهمّشة، والثأر والانتقام منهم ومن أطفالهم يعني دفع جيل جديد الى أنفاق الراديكالية وتشكيل ما هو أسوأ من داعش”.

ويرى المفتي أن عزل منطقة العبور من المجتمع المحيط، وتحويلها إلى غيتوات (أحياء سكنية عزل فيها اليهود في بولندا 1941) يجعلان هذه المناطق عرضة للاستغلال من عصابات الجريمة المنظمة، وخصوصاً المخدرات.

ويحذر من خطورة الأحكام المسبقة والعقوبات الجماعية: “يشكل ذلك حلقات مركبة من الإحساس بالظلم وعدم الانتماء، واليأس من العدالة، والرغبة في الانتقام”.

ويعتقد أن تصحيح أفكار المؤيدين للفكر المتطرف لن ينجح بالنبذ والعزل أو السلاح، بل بمشاركة الجهات المؤثرة في المجتمع وتعاونها: “المؤسسة الدينية، الاجتماعية، الثقافية”. ويستدرك: “المشكلة الكبرى أن المجتمع قرر بالإجماع معاقبة عائلات التنظيم بمن فيهم الأطفال”.

ذلك العقاب الجماعي هو السائد من دون النظر الى تداعياته، ففي ربيع 2022 اتفقت منظمتا يوتورن وكَنيست مع منظمة (خلوها أجمل) على تجهيز أطفال من منطقة العبور بالثياب لمناسبة العيد، وكان يفترض أن تقل حافلة عدداً منهم إلى متجر للثياب داخل مدينة الموصل، لكن نقطة تفتيش أوقفتهم في مدخل المدينة ومنعتهم بذريعة المحاذير الأمنية، على رغم أن أعمارهم كانت تتراوح بين 10 إلى 15 سنة.

تقول إحدى الناشطات: “حتى ذلك الحلم البسيط بمغادرة سجنهم ولو لساعات لم يتحقق.كان بينهم أطفال من عائلات لا علاقة لها بداعش”. منتقدة السلطات: “مؤسسات الدولة الرسمية تفعل بهم هذا بدلاً من تثقيفهم وتأهيلهم لكي يصبحوا أعضاءً نافعين في المجتمع”.

وتحذر من استمرار سياسة العزل والحرمان المنتهجة، وعدم اتخاذ إجراءات جوهرية لتغيير واقع المنطقة: “سيكبرون على كره المجتمع والدولة، وسيتحولون إلى قنابل موقوته ستنفجر لاحقاً وبنحو حتمي إرهاباً أو جريمة منظمة”.

يتفق عمر السعرتي، مدير منظمة “خلوها أجمل” التطوعية، مع الآراء المحذِّرة من خطورة تلك العشوائيات وتحوُّلها الى حاضنة لجيل مقبل سيلجأ الى العنف كأسلوب حياة، قائلاً أن العبور ومناطق أخرى مماثلة مثل حي التنك والهرمات، “يعاني سكانها من التهميش، ولا تنال أي اهتمام من الحكومتين المركزية والمحلية، بل وتفتقر حتى الى دعم المنظمات المحلية والدولية، نتيجة قوانين غير مكتوبة”. 

ويضيف بلغة جازمة:”نعرف واقع هذه المناطق جيداً، هي مهمّشة مع سبق الإصرار والترصد”. 

أما المستشار الأقدم في منظمة U-Turn، النرويجي أتله ميسوي، فيؤكد خطورة عزل هذه الشريحة من الناس في منطقة جغرافية معينة ضعيفة الإمكانات ومن دون بنية تحتية، ما يجعلهم في حالة مقارنة مستمرة بين ظروف معيشتهم ومعيشة الآخرين.

ويُذَكِّر أتله بأن النقمة هي من دوافع الراديكالية: “وفي حالة تشريع الراديكالية بمنظور السلفية الجهادية، فستنتج هذه المنطقة مجرمين يلجأون إلى أساليب إرهابية، لكنهم ليسوا إرهابيين لأن قضيتهم لا ترتبط بتحقيق أهداف سياسية”.

وينتقد أتله تعامل السلطات العراقية والمجتمع مع كل العائلات التي كانت تعيش في مناطق سيطرة “داعش” أو التي ينتمي إليها عناصره بالقسوة نفسها، على رغم أن هناك عائلات كانت مجرد ضحايا هاربين من الموت و”اضطرت خلال المعارك الى النزوح الى سوريا وانتهى بها المطاف في مخيم الهول سيئ السمعة”.

ويدعو أتله المسؤولين العراقيين إلى الاعتراف بعدم القدرة على “إعادة تأهيل هذه الشريحة الكبيرة، والتي تعرضت لأفكار متطرفة”، والحذو حذو المسؤولين في باكستان الذين طلبوا مساعدة المجتمع الدولي ووفروا الأمن لهم في المنطقة المعنية”. 

أم ماجدة، في عقدها السادس، تسكن خيمة في أطراف منطقة العبور رقم 1، مع أربعة من أحفادها، أحدهم لم يبلغ عامه الثاني ومصاب بشلل دماغي، تقول أن والدهم يعمل في مدينة أخرى، أما زوجته فقد هجرته مع الأطفال بسبب الفقر وعدم قدرتها على تقبّل مرض ابنها وواقع العيش تحت خيمة، فتولّت هي رعايتهم.  

تقول أن عائلتها كانت تسكن في قرية تابعة لقضاء البعاج 144كلم غرب الموصل، قريباً من الحدود السورية، وعندما بدأت حرب تحرير نينوى من “داعش” في بداية تموز/ يوليو 2017، نزحت مع عائلات أخرى كثيرة إلى داخل الأراضي السورية، على رغم أن لا أحد من أفرادها كان منتمياً الى داعش، وفقاً لما تقول.

بعد إكمال تحرير نينوى في منتصف تموز 2017، عادت العائلة إلى العراق، لكن قريتها رفضت استقبالها وتم إيداعها من السلطات العراقية في مخيم الجدعة جنوب مدينة الموصل، وبعد إفراغ المخيم لم تجد أم ماجدة مكاناً يأويها وأحفادها سوى خيمة في منطقة العبور، حصلت عليها من منظمة إنسانية. 

خيمة أم ماجدة

تحتلّ ممتلكات عائلة أم ماجدة التي قوامها أغطية وثياب وعبوة بلاستيكية للمياه، مساحة لا تزيد عن مترين داخل الخيمة، مع مصباح صغير يلف عمودها الذي تبرع به مع الكهرباء صاحب منزل يبعد بضع عشرات من الأمتار.

تقول أم ماجدة بحرقة: “لقد اعتدنا على الحياة في خيمة، لكن ما لا أستطيع الاعتياد عليه، هو معاملتنا على أننا من داعش وعدم حصول هؤلاء الأطفال على مستمسكات رسمية”، مشيرة إلى ثلاثة منهم وقد تحلّقوا حولها، ثم غرقت بالبكاء.

حاضنات الفكر المتشدد

لكن نداءات أم ماجدة والفتى أشرف وزملائه، وغيرهم من سكان منطقة العبور لإنهاء التمييز والتهميش الذي يعانون منه، لا تلقى صدى لدى كثيرين من أبناء نينوى، طالما أن هؤلاء متهمون بالانتماء إلى “داعش”، وإن بسبب شكلهم أو ملابسهم.

يتهم (م.هاني) وهو طبيب في عقده الرابع، الحكومة العراقية بأنها السبب في تشكيل “بؤر إرهابية تهدد السلم والأمن المجتمعي”، من خلال السماح لعائلات عناصر داعش بالعودة والاستقرار في المدينة.

يقول: لقد ارتكب عناصر “داعش” جرائم كبرى، هنالك أكثر من 10 آلاف عائلة من نينوى تنتظر أبناءها الذين اختفوا، ويرجح أن رفاتهم طمرتها في المقابر الجماعية في منطقة الخسفة وغيرها، ومع ذلك تأتي الحكومة وتجلب عائلات “داعش” للسكن هناك.

والخسفة، حفرة طبيعية يقدر عمقها بأكثر من 100 متر، ألقى فيها تنظيم “داعش” جثث ضحاياه خلال سيطرته على نينوى، ثم دفنها، ولم تفتحها الدولة العراقية لغاية الآن على رغم مطالبات كثيرة تقدم بها أهالي المفقودين.

وينبه (م. هاني) إلى أن هذه العائلات تمثل حاضنات تأوي الفكر المتطرف، ولا يستبعد أن تخفي عناصر من “داعش”، خصوصاً الهاربين الذين لم يُقتلوا أو يُعتقلوا من القوات الأمنية، لافتاً الى أن أهالي الموصل “غير مستعدين لدفع ضريبة أخرى باهظة لأخطاء الحكومة”.

ويتابع بحزم: “لذلك يجب إبعاد تلك العائلات من المدينة، ولا يهم كيف سيكون شكل حياتهم”. 

في نينوى، يملك كثر التوجه نفسه، بخاصة ممن فقدوا أبناءهم أو ممتلكاتهم. يقول (ل،ي) وهو موظف لدى منظمة أوروبية لمساعدة المدنيين المتضررين من الحرب وإغاثتهم، أن هناك من يتهمون منظمته بمساعدة عائلات تنظيم “داعش”، وأن ذلك يعرقل مشاريع المنظمات الدولية، والكثير منها غادر للسبب نفسه.

ويذكر الموظف الإغاثي أن مشروعاً لإعادة التأهيل النفسي، كان يفترض أن تنفذه منظمته في قرية العبد جنوب الموصل، بعد أشهر من تحرير نينوى، إلا أن الموظفين فيها تلقوا تهديدات من مجهولين حذّرتهم من ذلك لأن “أهل القرية ينتمون إلى داعش”.

ويتساءل: “إذا كان هناك عناصر من داعش ما زالوا موجودين في تلك القرية، فلم لا تتعامل القوات الأمنية معهم، وتتم محاسبة كل فرد أيد أو قدم مساعدة للتنظيم؟ لماذا هم طلقاء؟”.  

وبسبب معارضة المجتمع، ينفي (ل. ي) أي إعادة تأهيل حقيقية في نينوى لأفراد عائلات “داعش”، وبدلاً من ذلك يُعزلون في مخيمات، ليستقروا في مناطق معزولة ومنبوذة تفتقر  إلى أبسط مقومات الحياة “فينشأ الأطفال فقراء محرومين، مع تلقين يومي من ذويهم بأن السبب في ذلك كله هو المجتمع”.

مخدرات وزواج قاصرات

الناشط المدني ستار عبيد، يشير الى ظواهر عدة رصدها في منطقة العبور، منها انتشار زواج القاصرات “بـأعمار 14 و15 سنة”، بحكم الطبيعة القبلية التي تغلب على سكان المنطقة، وعدم التحاق كثر من الأطفال بالمدارس، فالمدرسة الوحيدة الموجودة هناك (كرفانية) موقتة، اسمها (الليلة المباركة) ويلتحق بها 1100 تلميذ، أي بأضعاف قدرتها الاستيعابية. 

المدرسة الكرفانية الابتدائية في العبور

كذلك، لا تتوافر في المنطقة مدرسة للبنات للدراسة المتوسطة، وفي ظل الفقر وعدم وجود وسائط نقل وتحوّل الشوارع الطينية إلى مستنقعات بسبب مياه الأمطار والصرف الصحي للمنازل، تفضل غالبية العائلات عدم إرسال بناتها للدراسة في مناطق أخرى. “هذا يعني أنه بمجرد أن تنهي الفتاة الدراسة الابتدائية، تترك المدرسة وتتم تهيئتها للزواج” يقول عبيد.

ويشير كذلك الى عدم وجود مراكز طبية قريبة، واضطرار الأهالي إلى قطع مسافة 5 كيلومترات للوصول إلى أقرب مستوصف في منطقة نابلس أو حي التنك، “ونادراً ما يستطيع أحد المرضى تحمّل تكاليف مراجعة عيادة خاصة، أو شراء أدوية من صيدلية”.

أطفال ذاهبون الى المدرسة في منطقة العبور

(جاسم. ر- 41 سنة) من سكان منطقة العبور 2، يقول إنه كان مزارعاً في تل عبطه، لكنه نزح مع أخوته وأعمامه وعائلاتهم بسبب التصحر، واستأجرت كل عائلتين منزلاً واحداً ببدل إيجار يناسبهم، لأنه بلا خدمات عامة. ويتراوح إيجار المنزل في منطقة العبور بين 100 إلى 200 ألف دينار أي ما يعادل 69 و138 دولاراً، بحسب مساحة العقار.

“في وضع كهذا، بماذا ستنفعني ابنتاي (9 و11 سنة) إذا واصلتا الدراسة، نحن سبعة أفراد وننام جميعاً في غرفة واحدة”، يضيف وهو ينظر باتجاه غرفة عائلته المظلمة داخل المنزل، “ما أن تصبح ابنتي الكبرى قادرة على الزواج سأزوجها فوراً، بدلاً من إرسالها إلى مدرسة تبعد من المنزل ساعة مشياً، والله وحده يعرف ما ستتعرّض له في الطريق… نحن نسمع ونرى مصائب كل يوم”.

يواصل بإصرار: “نحن ننتمي الى عشائر، ولدينا عاداتنا وتقاليدنا، فمنزل الزوج أولى بالبنت”. يصمت لحظات ثم يهتف بغضب: “فوق فقرنا وبؤسنا، هنالك من يحسبنا على داعش، مع أننا أكثر المتضررين منه، فقد قتل كثراً من أقربائنا”.

لا تتوقف مشكلات سكان منطقة العبور وعشوائيات غرب الموصل وجنوبها، عند التمييز الاجتماعي والتهم الأمنية وغياب الخدمات، فهناك خطر آخر يهددهم، ويكشفه مصدر أمني في الموصل، طلب عدم الإفصاح عن هويته: “المخدرات تنتشر لا سيما بين الشباب”.

ولا يستبعد المصدر أن تتحول المنطقة إلى “ساحة مواتية” لترويج المخدرات أو حلقة وصل أو عبور غير مسيطر عليها: “الفقر والتمييز والإحساس بالظلم، كلها أمور تشكل بيئات مناسبة للعصابات الإجرامية وتجار المخدرات الناشطين في العراق”.

يضيف المصدر الأمني ملوّحاً بما هو أبعد: “في منطقة تندر فيها فرص العمل، من أين يأتي الشبان بالمال لشراء المخدرات، أليست تلك الأموال ناتجة من سرقات وجرائم أخرى؟”.

يضيف محمد المفتي ذلك إلى قائمة القنابل الموقوتة وفق توصيفه، داعياً مؤسسات الدولة المعنية إلى وضع خطة متكاملة وبشكل عاجل، لحل المشكلات المتراكمة في منطقة العبور وغيرها من المناطق المشابهة. 

يقلب صوراً في هاتفه الجوال لشبانٍ متجمعين حول أكوام النفايات في منطقة العبور، ويقولُ بضيق: “تبدو مشكلة العيش على النفايات، من أصغر المشكلات التي يواجهها هؤلاء!”. 

بمجرد انتهاء جولات النبش الصباحية التي يختص بها الشباب والأطفال الذكور في منطقة الطمر الصحي القريبة من العبور لجمع ما يمكن بيعه، تبدأ جولات نبش أكوام النفايات بحثاً عن الطعام الذي تختص به النساء والفتيات. 

تتأكد (م. س- 28 سنة)من أن غطاء رأسها يخفي وجهها بالكامل، قبل أن تقول إنها تفتش في نفايات مخلفات المطاعم، وتعثر باستمرار على ما يؤكل. يرتفع صوتها محتجة: “في فترة سيطرة داعش، أكلنا من الزبالة، وخلال وجود الدولة نأكل من الزبالة”.

لم تكمل(م،س) دراستها الابتدائية، تزوجت وهي في عمر السادسة عشرة، لديها ثلاثة أطفال أصغرهم في السادسة من عمره لا يذهبون إلى المدرسة، وينتظرونها في منزل صغير غير مكتمل البناء في منطقة العبور،  فيه غرفتان تحتله ثلاث عائلات لثلاثة أشقاء جميعهم عاطلون من العمل.

تحمل كيسها على كتفها، وتلقي نظرة فاحصة على محيطها ثم تشير بيدها إلى حيث مدينة الموصل: “نحن أيضاً بشر مثل الناس الذين يعيشون هناك، عليهم أن ينظروا إلينا بعين الرحمة، لأن حيواناتهم تعيش حياة أفضل من حياتنا هنا”. 

أنجز التقرير بإشراف مؤسسة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية.