fbpx

هل يكفي مليار جنيه مصري لإسعاد “نسانيس” القاهرة ؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو الأمر قاسياً بعض الشيء، ربط حديقة حيوان الجيزة بما يحدث في مصر، لكن الرئيس المصري نفسه، قال في خطابه يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي: “عايزين تعرفوا مصر عاملة إزاي… روحوا حديقة الحيوان”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“حديقة حيوان الجيزة” يمكن أن تلخص الوضع المصري: سوء استثمار،  تقصير، هدر … أمور دفعت بعض النسانيس إلى الهرب،  بينما يتأمل المواطن كيف تتلاشى معالم مدينة القاهرة، ويفكّر بدوره بأفضل طريقة للهرب والنجاة!

انتشر عام 2018 هذا الخبر: “مدير حديقة حيوان الجيزة: النسانيس الهاربة تزوجت وتعيش حياة سعيدة”. العنوان لفتة من محرر ذكي، تلقفناه ذاك العام في مصر كنكتة، مرّرنا عبرها ما لا يمكن قوله سياسياً.

مرت أربع سنوات على حكم النظام الحالي حين انتشر الخبر، كنا نعيش حينها ذروة القبضة الأمنية، الذعر، الخوف، وتشكُّل ملامح النظام الاقتصادي، ذاك الذي لن يعرف الهوادة أو الرشد في دعمه مشاريع تعطي الأولوية للبنية التحتية على التعليم والزراعة والصناعة، واقتلاع الحدائق العامة. أما الاقتراض، فنحمل مسؤوليته بنبرة تجاوزت الحنان الأبوي إلى الغضب والتبكيت، فحياتنا نفسها هي الذنب الذي نحمل وزره.

لم تختلف خلاصة الإعلام المصري عن بيان حديقة الحيوان، كل شيء جميل، النسانيس الهاربة تعيش بسعادة.

نعرف أن الحيوانات لا تعيش حياة سعيدة في حديقة حيوان الجيزة، مثلنا تماماً، وبدا لنا حينها أن هروبها وهجومها على أعضاء نادي القاهرة، أشبه بتمرد على الأسر داخل مكان بائس، فوضى وكوميديا لم تكونا متاحتين لنا. نحن الذين يبحثون عن هروب مماثل.

A group of men holding dogs Description automatically generated with low confidence

صورة النسانيس بعد القبض عليها

الصورة حزينة، لكن إذا دققنا في الجانب الأيسر، يمكن أن نستخرج الفرح الكامن في وجوه من قبضوا على النسناس، كأنه مجرم فار من حكم جنائي. هم ليسوا ضباطاً، أو مخبرين، بل هم مواطنون عاديون. تتضح ذروة الخوف آنذاك في تماثل حماسة المواطن مع المخبر، وهو أمر يحدث عندما يصدّق المصري هراء إعلامه عن النسانيس السعيدة.

ما المضحك بالنسبة إلي؟ ببساطة هي تلك الثقة، الفخر، الشعور بالإنجاز، النجاح، وتقاسم فرحة القبض على نسناس هارب. فخر عميق باللاشيء، تماماً كما نفخر بالمونوريل- أكبر برج أيقوني- وكل ما لا يهم النسانيس في الحديقة.

“روحوا حديقة الحيوان”

يبدو الأمر قاسياً بعض الشيء، ربط حديقة حيوان الجيزة بما يحدث في مصر، لكن الرئيس المصري نفسه، قال في خطابه يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي:

“عايزين تعرفوا مصر عاملة إزاي… روحوا حديقة الحيوان”.

أعلن فعلياً عن تطوير حديقة الحيوان بعد أقل من شهرين من إشارة الرئيس،  كأنها كلمة سر،  وكأننا في خطبة جمال عبد الناصر عام 1956، لكن عوضاً عن تأميم قناة السويس ونزعها من يد مُلّاكها الأجانب، ستؤول ملكيتها إلى وزارة الإنتاج الحربي وشريك إماراتي بحق انتفاع 25 عاماً.

تعيش النسانيس منذ عام 2018 حياة سعيدة، لم ينفِ ذلك الجدل حول مصير ثاني أقدم حديقة حيوان في العالم، سواء في الحديث عن نقلها إلى العاصمة الإدارية أو بيعها لمستثمرين عرب، لكن ما أن أطلق الرئيس تصريحه على هيئة نكتة تسخر من “الجمال، الأسود، الخضرة”، حتى صار القرار حقيقة لا يمكن التراجع عنها.

لم تعجب النكتة عمرو أديب المعروف بتأييده النظام القائم، أو ربما لم تعجب  مستثمرين آخرين، سعوديين مثلاً، فتكلموا على لسان أديب: “لازم الحكومة تعرف إننا في وقت جلل، الفلوس اللي هتجيلك متحطهاش في تطوير حديقة الحيوان أو حدائق ترفيهية، في حاجات أهم زي المصانع وحياة كريمة وغيرها”، يضيف أديب: “الحديقة منهارة من مليون سنة، ومافيهاش زرافة”.

تصريح أديب غير دقيق، هناك زرافة مكتئبة، اسمها سوسن، تعيش في بيت زرافات مشؤوم. تنشغل بها الأخبار كثيراً. سوسن  نجمة عالقة في خيالنا، نسخر من أخبارها بعض الأحيان.

بيت الزرافات المشؤوم

أُغلقت حديقة الحيوان عام 2006 بسبب إنفلونزا الطيور، وماتت الزرافة الوحيدة التي في الحديقة. قبلها بعامين، أعلن الاتحاد العالمي لحدائق الحيوان خروج حديقة الجيزة من عضويته، بسبب تجاهل المسؤولين في مصر توصياته وسوء معاملة الحيوانات وإهمالها، فنوعية الطعام متدنّية ومعايير النظافة منخفضة، إلى جانب تفشّي الأمراض. كانت الفيلة على سبيل المثال تُربط بسلاسل حديدية، لكن محمد رجائي، رئيس الإدارة المركزية لحديقة حيوان الجيزة، قدم رواية أخرى، فقد صرح عام 2001 قائلاً إن سبب خروج مصر من عضوية الاتحاد العالمي هو التأخر في دفع الاشتراكات، والتي تبلغ 800 دولار. تصريح يليق بعام النسانيس السعيدة.

 وصلت عام  2012 ثلاث زرافات مستوردة من جنوب أفريقيا بتكلفة مليون ونصف المليون دولار، بينهم سنسن، وما بين موت الزرافة الوحيدة ووصول سنسن، حدث الآتي:

سُرق جملان نادران من الحديقة بمعاونة شاب عشريني وعدد من حراس الحديقة، بهدف أكل لحمِهما وبيعه، بسبب الفقر ومرور الشاب بضائقة مالية، وما بين 2005 و2008، اختفى أكثر من 400 حيوان من الحديقة وبيعت كحيوانات أليفة، بينها فهد أسود.

ماتت الزرافة الأولى بعد 9 أيام إثر الحمى، وبعد عام انتحرت الزرافة روكا، إذ شنقت نفسها بين أعمدة السياج. قالت إدارة الحديقة إن السبب هو سوء معاملة الزوار. علقت أمينة أباظة رئيسة “جمعية الرفق بالحيوان” قائلةً: “دي مش أول مرة تحصل وقبل كدة اتوفى ثلاثة دببة”. واللافت أن أحد الأسباب الشائعة لوفاة الدببة هو امتناعها عن الأكل اعتراضاً على سوء المعاملة، كمساجين المعتقل.

أنجبت سنسن عام 2016 “عزيز”، لكنها رفضت إرضاعه بسبب اكتئابها، فنفقت الزرافة، وعام 2018، مات ياسو، زوج سنسن. أثناء اكتئاب سنسن التي أصبحت حديث وسائل الإعلام ومولداً للمجازات، حدث التالي:

 في عام 2013، تفقّد  وزير الزراعة، محمد أبو حديد، استراحة الملك فاروق المغلقة رسمياً منذ عام 1986. اكتشف أثناء جولته أن غرفة الملك المصنوعة من العاج والذهب سُرقت، ووُضعت مكانها غرفة نوم مستعملة من محلات “عمر أفندي”. بقي الأمر محيراً حتى عام 2018،  حينها انتشر فيديو على موقع يدعى M.S. Rau Antiques  مصدره إحدى شركات بيع التحف والأنتيكات بالولايات المتحدة الأميركية، التي استعرضت قطع الأثاث المكوّنة للغرفة، وتاريخ صنعها كونها معروضة للبيع بمبلغ يقارب المليون دولار.

 وصل زوج جديد لسنسن في كانون الأول/ ديسمبر 2020 مع ثلاث زرافات من جنوب أفريقيا، وانتشرت  أخبار على غرار “5 أسباب خلت السناغل يحسدوا الزرافة سنسن… صبرت ونالت”،  لكنه مات بعد أقل من عشرة أيام، في 31 كانون الأول. يبدو أننا أمام حالة من  “حسد السناغل”!

أغرب الأحداث التي شهدتها حديقة الحيوان في السنوات العشر الأخيرة، تتمثل بتغيير اسم حظيرة الحصان “السيسي” إلى “السياسي”.

علم الجمال والتلفريك

على رغم النوستالجيا التي يكنّها المصريون لثاني أقدم حديقة حيوان في العالم، وذكريات الطفولة، والعلاقات العاطفية الأولى، واعتبار الحديقة آخر الرئات المجانية للتنفّس، إلا أنها في حالة مزرية تستحق التطوير، لكن ذلك التطوير لا يفسر أبداً سر غرام الحكومة المصرية الحالية بالتلفريك، الذي سيربط بين حديقة الحيوان في الجيزة وحديقة الأورمان.

يمرر وزير الثقافة الأسبق، الفنان فاروق حسني حزنه، إلى صديقه سليمان جودة، كاتب العمود اليومي في جريدة “المصري اليوم”، لا على التطوير، لكن على إنشاء خط تلفريك يربط بين حديقتين، فمدّ خط تلفريك في هذه المنطقة التي تقع في مواجهة جامعة القاهرة، هو خروج على قواعد الإنشاء وأصول التطوير، وعلى مبادئ فن الجمال، وينال من طبيعة المكان، ولن يضيف إليه شيئاً إلا النشاز، فالتلفريك نشأ في العالم كفكرة للربط بين أعالي الجبال، لا بين حديقتين بينهما شارع لا يتعدى بضعة أمتار.

تصريح فاروق حسني السابق، ليس بجديد، هي المرة الثانية التي يتحدث فيها وزير مصري سابق من حكومة الرئيس المخلوع حسني مبارك عن الجمال، فعلها عمرو موسى اعتراضاً على مذبحة الأشجار في حي الزمالك، مطالباً الحكومة المصرية الحالية بمراعاة البعد الجمالي.

الواضح أن الحديث عن “الجمال” غير مفهوم في الوقت الراهن، خصوصاً أن السنوات الأخيرة شهدت تسارعاً في وتيرة التغييرات التي تستهدف الطبيعة التاريخيّة المميزة للقاهرة، وكأن المشاريع الحالية تحاول تقليد نموذج دبي، الأمر الذي قد لا يكون مناسباً لطبيعة مصر، لكنه سبب بإمكان فاروق حسني تبنيه لتفسير وجود تلفريك.

يُقدم الأكاديمي د. محمد أبو الغار تفسيرات عدة لأسباب مخاوف المصريين مما يحصل في حديقة الحيوان، أولها “عدم الثقة في  قدرة وزارة الإنتاج الحربي على تطوير حديقة الحيوان، إذ أعلنت الهيئات التي طوّرت مشروعات مماثلة كحديقة المنتزه التاريخية، نجاح ذلك المشروع نجاحاً باهراً، فيما أصيب الخبراء والشعب المصري بالإحباط نتيجة فشل التطوير”.

يرى أبو الغار أيضاً أن تدمير أحياء القاهرة التاريخية هو تدمير لتاريخ مصر ومستقبلها وتشويه للعاصمة. ويتابع: “هناك شيء اسمه علم الجمال، الذوق العام، هناك شعب، اسألوه واستشيروه هو وخبراؤه أولاً”.

النسانيس التي ضاقت بها السبل

التقطت عينا المخرج محمد ياسين في مسلسل “المشوار” الذي بُثّ العام الماضي، مشاهد بديعة لحديقة الحيوان، تُبرز جمالها الاستثنائي، وتشير إلى أن كل ما نحتاجه هو تطوير العقلية التي تدير المنشأة وتصرف الميزانيات المعتمدة على أهم رئة خضراء للفقراء والطبقة الوسطى.

 يمكن القول أن سوء حالة الحديقة دليل إدانة للأنظمة المتعاقبة، فخطةُ التطوير التي تعطي حق انتفاع لمدة 25 سنة إلى شريك إماراتي، لن تراعي حق الفقراء والطبقة الوسطى بأن تكون الحديقة ملكهم، فرغبة أي مستثمر  هي العائد المادي، وأي تطوير لحديقة الحيوان التي يقدَّر عدد زوارها بمليوني زائر سنوياً، لن يشمل تلك الطبقة، أو يأخذها في الاعتبار.

A picture containing text, nature, sunset Description automatically generated
A picture containing text Description automatically generated

هامش تاريخي

افتُتحت حديقة حيوان الجيزة في 25 كانون الثاني/يناير 1891، لقبت بـ”جوهرة تاج حدائق حيوان أفريقيا” وتعتبر من بين أعرق 4 حدائق من حيث تاريخ الإنشاء مع حدائق فيينا وفرنسا ولندن.

بدأت حديقة الحيوان كحديقة نباتية تحوي مجموعة من أندر النباتات والصبارات من شتى بقاع الأرض، وأمر الخديوي إسماعيل بإنشائها لمناسبة افتتاح قناة السويس، لكنها لم تفتح إلا في عهد الخديوي توفيق في 1 آذار/ مارس 1891.

تبلغ مساحة الحديقة نحو 80 فداناً، وتمتد على الضفة الغربية لنيل القاهرة، وفيها جداول مائية وكهوف بشلالات مائية وجسور خشبية، وبحيرات للطيور المعروضة. وتعتبر حديقة الحيوان معرضاً ضخماً للحياة البرية الأفريقية.

تعتبر جبلاية القلعة والكوبري الحديدي المعلق (تاريخ الإنشاء عام 1867) الذي صممه غوستاف إيفل، من أشهر معالم الحديقة. وفي الحديقة أيضاً متحف الحيوان الذي أنشئ عام 1914، ويتألف من 3 قاعات كبيرة لعرض مجموعات كبيرة من الطيور والزواحف والأسماك والحيوانات فضلاً عن الهياكل العظمية.