fbpx

البقاء أو الهجرة إلى فرنسا: معضلةٌ تواجه الأطباء الجزائريّين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تقول مريم، التي تعترف بأنّها كانت ربّما ستعود إلى الجزائر بعد عدّة سنوات “كثيرٌ من أصدقائي، سواء أكانوا أطبّاء أم طلّاب طبّ، يرغبون في الرحيل. لكنّنا نعتقد، أنّنا هنا في فرنسا على الأقل يُمكنُنا تكوينُ أنفسِنا وتحسينُ مهارتِنا، بينما نظام الرعاية الصحيّة هناك في الجزائر يعاني من التدهور

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يختارُ عددٌ متزايدٌ من ممارسي المهن العامة طريقَ المنفى، في مواجهة المشاكلِ المتراكمة التي تَحُول دون أداءِ مهامِّهم في المستشفيات، من ظروفِ عملٍ قاسية ونقصٍ حادٍّ في الوسائل العلاجيّة والتشخيصيّة التي يُعاني منها القطاعُ الصحيّ في الجزائر.

يوجدون هنا بيننا، حتى دون أن يشعرَ بحضورِهم أحدٌ، ويشكّلون حلقةً رئيسيّةً في نظام الرعاية الصحيّة الفرنسيّ. وإذا كان الرومانيّون يستأثرون بنسبة متزايدة من حيث عدد الأطباء الذين يعملون في فرنسا بشهاداتٍ أجنبيّة، فإنّ خريجي الجامعات الجزائريّة يُزاحِمونهم عن قرب، حيث بلغ عدد الأطباء الجزائريّين 4,404، وفقاً للمجلس الوطنيّ لرابطة الأطباء (CNOM)، اعتباراً من 1 كانون الثاني/يناير 2017 (بزيادة 60٪ في عشر سنوات)، أي أنّهم أصبحوا يشكّلون حوالي ربع الأطباء المولودين في الخارج الذين يمارسون العمل الطبّي في فرنسا، وإذا أضفنا إلى ذلك المولودين في الجزائر الذين تخرّجوا بشهادات في فرنسا، يرتفع هذا العدد إلى 14,305 أطبّاء.

وحتى هذه الإحصاءات غيرُ شاملة، لأنها تتعلّق فقط بالممارِسين المسجَّلين في قائمة رابطة الأطبّاء الرسميّة، ولا تشمل الأطبّاءَ المُعيَّنين مباشرَةً من قِبَل المستشفيات بمُوجب قوانين وعقود محلّيّة خاصّة. تذكُر فيكتوار كوترو، التي تمحورَت أطروحتُها حول موضوع “الأطبّاء المهاجرين” أنه “بعد إدخال معيار “العدد المغلق” في قبول المرشّحين لمتابعة الدراسات الطبّيّة في السبعينيات، واجهْنا حالةً من نقصٍ مزمنٍ في عدد الأطبّاء المتدرِّبين، مما حتم علينا التعويضَ عن ذلك من خلال جلب أطبّاء أجانب”.

“استعدادٌ قويّ يدفع نحو الاغتراب”

سمحت التشريعات الجديدة بمَجيئهم إلى فرنسا لكن في إطارِ أوضاعٍ هشّة، مِن قَبيل العمل بصفة متدرِّب (FFI) وطبيب ممارِس ملحق (PAA). وتشير فيكتوار كوترو إلى أنّ “عملَهم بصفتهم تلك لا يسمح لهم بالتسجيل في مجلس الرابطة الطبّيّة، ومِن ثمَّ يخضعون رسميّاً لسلطةِ الجهة التي عيَّنَتهم، في حين يتحمّلون عملِياً نفسَ عبءِ العمل الذي يتحمّله زملاؤهم المسجّلون”. فهم يتقاضَون أجوراً تصل إلى نصف أجور زملائهم الفرنسيّين، ويضطرّون إلى الانتظار لسنواتٍ من أجل إجراء المسابقات التي تسمح لهم بالحصول على وضعٍ كامل؛ ورغم ذلك كلِّه، اختار العديدُ من الأطبّاء الجزائريّين القدومَ إلى فرنسا للعمل والتدريب. في مقابلةٍ مع صحيفة “الوطن” اليوميّة الجزائريّة، الناطقة بالفرنسية، الصيف الماضي، أكّد الخبيرُ الاقتصاديّ في مجال الصحّة حسن زناتي “وجودَ استعدادٍ قويٍّ للاغتراب” بين الأطبّاء الجزائريّين. و”إذا أخذنا في الحسبان الأطبّاءَ المولودين في الجزائر والعاملين في فرنسا، فإنّ معدَّلَ الهجرة يصل إلى 23.35٪”، هذه الأرقام تختلف بحسب وضعيّة الأطبّاء والتخصّصات التي يُمارِسونها، لكنها مع ذلك تعكس هذا الاتجاه: الجزائر تواجه صعوبةً في الحفاظ على أطبّائها.

هجرة الأطباء ليست جديدة. لقد وصل الدكتور حسن (تم تغيير الأسماء) إلى فرنسا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. بعد تخرُّجه من الجامعة وحصوله على شهادة دكتور في الطبّ العام وطبّ الأطفال، اشتغل لمدّةِ أربع سنواتٍ في مستشفًى جزائريٍّ بالقرب من الحدود التونسيّة، “لرؤية شيءٍ آخر يختلف عن الجزائر العاصمة” على حدّ تعبيره. وكان سببُ رحيله في ذلك الوقت هو الرغبة في تعزيز تعليمه في طبّ الأطفال والتخصص، وهي مهمّةٌ صعبةٌ جدّاً في الجزائر، خاصّة في ظلّ الاضطرابات التي شهدَتها الجزائرُ فيما يعرف بـ”العشريّة السوداء”، عندما كان أساتذةُ الطبّ يغادرون البلدَ تِلوَ الآخر.

يضاف إلى ذلك مسألة المرتّبات. يقول طبيبٌ آخَر، وصلَ إلى فرنسا ذاتَ يومٍ بتأشيرةٍ دراسيّة و توصيةٍ من أحد أستاذ الطبّ من منطقة باريس، “خلال أربع سنواتٍ من العمل، يستحيل عليك توفير قرش واحد. كان الراتب سخيفاً، بالكاد يسدُّ رمقَنا”. وبسرعةٍ، أدرك الرجلُ أنّ وصولَه كان “مكسباً للجانبَين”، يتقاضى راتباً أرخَص مقارنةً بزملائه الفرنسيّين، ويظلّ متاحاً للحراسة في العُطَل، وكان وجودُه أيضاً في صالح المستشفى.

احتجاجات مُتزايدة

ولا يزال حتّى يومِنا هذا، بعد استقرارِه في منطقة نورماندي، مع زيارته المُنتظِمة للجزائر، يتابع باهتمامٍ المشاكلَ الماديّة في القطاع، مِن قَبيل عدم تمكُّن الوصول إلى المعلومات الطبّيّة اللازمة والاحتجاج المُتزايد بين الأطبّاء الشباب. يخبرنا أنه “لا يمكن إرسال أطبّاء للعمل بدون معدّات إلى مناطق نائية على بُعد أكثر من 1000 كم من محلّ إقامتهم، دون ضمان الحدِّ الأدنى من الظروف المعيشيّة”، مؤكِّداً أنَّ هذا هو الواقع الذي يعيشه الأطبّاء والقطاع الصحيّ عموماً، في إشارةٍ إلى حراك الأطبّاء الجزائريّين “المُقِيمين” (ما يقابل المتدرِّبين في فرنسا)، الذين أحدَثوا مؤخّراً هزّةً كبيرةً في الجزائر، مُعبِّرين عن ضيقِ ونفادِ صبر العاملين في قطاع الصحّة. فقد دخَل عدة آلاف منهم (15,000 في المجموع) في إضرابٍ، ابتداء من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 -وطيلة حوالي ثمانية أشهر- للتنديد بظروفِ عملِهم القاسية والمطالَبة بإلغاء الخدمة المدنيّة الإجباريّة، وهي فترة من سنة إلى أربع سنوات يَدينون بها للدولة بعد انتهاء دراستِهم، والتي يتمُّ خلالَها في أغلب الأحيان تَعيينُهم في المناطق النائية.

أكّد الخبيرُ الاقتصاديّ في مجال الصحّة حسن زناتي “وجودَ استعدادٍ قويٍّ للاغتراب” بين الأطبّاء الجزائريّين. و”إذا أخذنا في الحسبان الأطبّاءَ المولودين في الجزائر والعاملين في فرنسا، فإنّ معدَّلَ الهجرة يصل إلى 23.35٪”

وقد عبَّر المتظاهرون بشكلٍ خاصّ، عن سخَطهم من الأوضاع المُزرية، من أجورٍ منخفضة جدّاً وغيابِ المَساكِن الوظيفيّة والعمل في المستشفيات من دون وسائل تسمَح لهم بأداء مهامِّهم العلاجيّة، لكن تعرَّض حراكُهم الاحتجاجيّ لحملةٍ قمعيّة، بلغَت أحياناً ذروةَ القَسوة على يدِ أجهزةِ الأمن؛ وكان لِحراك الأطبّاء المقيمين آثاراً بالغة على سَيرِ أعمال المستشفيات، نظراً لقرار المُضرِبين تعليقَ حتّى نوباتِ الحراسة في المستشفيات.

وصلت مريم (37 عاماً) إلى فرنسا في عام 2015 بعد عملها عشرِ سنواتٍ كطبيبة عامّة، أولاً في عيادة خاصّة ثمّ في مستشفى خارج المناطق الحضَريّة، بالقرب من مدينة قُسنطينة، ولَم تغادِر الجزائرَ لأسبابٍ مهنيّة. وتشرح وضعَها قائلة “فقط عندما بدأتُ العملَ في فرنسا أدركتُ خطورةَ الوضعِ في الجزائر، لم يكن لدينا نصفُ ما نحتاجه للوفاءِ بمهامِّنا العلاجيّة، وبالتالي، كُنا نجدُ أنفسَنا غيرَ قادِرين على تقديم العناية المناسِبة للمَرضى. وضعٌ كُنا نُدرِكه، لكنّنا اعتَدنا عليه”.

“مستوى توفير الرعاية الصحية تضرر كثيراً”

أصبَحَ مجرّدُ أخْذِ عيّنة من الدم لتحليلِها، أو إجراءِ فحصٍ بسيطٍ بالأشّعة، عقبةً كأداء. و”نتيجة لذلك، كنا نعتمد فقط على الفحص السريريّ”، هكذا تتذكّر الدكتورة مريم، وهي تحمّل مسؤوليةَ هذا الوضع المتردّي لسياسة مجّانية الطبّ، المُموَّل بالكامل من الدولة التي لم تعُد الآن توفِّر الوسائلَ اللازمة. وتُلخّص الأمرَ قائلةً “الوضع في المستشفيات الجامعيّة كارثيّ، مثلما هو حال المستشفيات الجهويّة الأخرى، مع نقصٍ حقيقيٍّ في المَوارِد، وجمهورٍ عدوانيّ، ودولةٍ لا تدعم أطبّاءَها”.

كانت طبيبة الطوارئ سارة تبلغ من العمر 20 عاماً -بعد قضائها سنتين من الدراسة الطبّيّة- عندما وصلَت إلى فرنسا في عام 2000. إذا عُدنا إلى الإحصاءات، نجدها تدخل ضمن فئة الأطبّاء الذين وُلِدوا في الجزائر وتابَعوا تكوينَهم الأوْليَّ في فرنسا. قبل خمس سنوات، عادَت إلى الجزائر في إطار برنامج تبادُل. تقول “وَجدنا المستشفيات تفتقر إلى مُتخصّصين في التخدير لعلاج الجُروح، حيث يَصعُب حتّى العثور على أجهزة التخطيط الكهربيّ للقلب، ولا يوجد في مَصالح الإنعاش سوى جهازٍ واحد للتهوية، بينما يحتاج كلُّ مريض إلى جهازٍ خاصٍّ به. وقد قُمنا بتسخين بعض أكياس الدم عن طريق وضعها تحت الإبِطين! حتّى النظافة مُنعدِمة. هناك تدهورٌ واضحٌ منذ الثمانينيّات”.

تجدُر الإشارة إلى أنَّ الوضعَ لم يكن دائماً كذلك. تتذكّر مريم أنّه في الثمانينيّات، على سبيل المثال، أُجرِيت عملياتُ زرعِ الكلى دون صعوبةٍ في المستشفى العموميّ، “لكنّ قُدامَى الأطبّاء المتمرِّسين لم يدرِّبوا الأطباءَ الشباب. وقد تدهوَرَ كثيراً مستوى الرعاية الطبّيّة؛ والمواطنون هم مَن يعانون ويدفعون الثمن، أما المَيسورون منهم الذين لديهم القدرة الماليّة، فيَحصلون على العلاج في القطاع الخاصّ أو في الخارج”.

أما بالنسبة للأطبّاء، فيستمرُّ نزيف الأدمغة. تقول مريم، التي تعترف بأنّها كانت ربّما ستعود إلى الجزائر بعد عدّة سنوات “كثيرٌ من أصدقائي، سواء أكانوا أطبّاء أم طلّاب طبّ، يرغبون في الرحيل. لكنّنا نعتقد، أنّنا هنا في فرنسا على الأقل يُمكنُنا تكوينُ أنفسِنا وتحسينُ مهارتِنا، بينما نظام الرعاية الصحيّة هناك في الجزائر يعاني من التدهور بحيث يتطلّب سنواتٍ عديدة من العمل والإصلاح حتى نشهد احتماليّة تحسُّن مَلموس”.

 

هذا المقال مترجم عن lemonde.com ولقراءة المقال الاصلي زوروا الرابط التالي.