fbpx

The Chilling Effect أو “الرعب” قبل الكلام:  هل نطرد من عملنا بسبب نكتة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يهدد مفهوم The Chilling Effect أو “أثر الرعشة”، حرية التعبير في ظلّ صراع الهويات الذي نشهده. أصبح الخوف من النكات والسخرية والتعبير عن التفضيل الذاتي خطراً قد يؤدي إلى نزع الشرعية عن الفرد ويهدده بفقدان عمله ومحيطه الاجتماعيّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نقرأ في تدوينة منشورة عام 2018 بعنوان “النكتة… ماذا لو حققنا معها باعتبارها مُجرما؟!” لعبد الجواد سكران،  عن حادثة اختبرها حين كان في سوريا، إذ ألقيت نكتة “طائفيّة” في أحد اجتماعات العمل ضمن سياق شديد الحساسيّة، أي الثورة السورية وما نتج عنها من تحزّب.

لا يهمنا نص النكتة، بل ما يشير إليه سكران بعدها، إذ يخبرنا أنه أخطأ وضحك، وهذا خطر. هو سنيّ، وصاحب النكتة مسؤول علويّ، أما صديقه المسيحي فربما لم يضحك، بل فكر مرتين، ثم نبهه على خطئه/ ضحكه بعد الاجتماع.

امتناع أحدهم عن الضحك أمام “نكتة”، يدلّ على شيء من الخوف، والحذر الذي يقتضي الصمت والتفكير مرتين أو ما يعرف باسم Chilling effect – أثر الرعشة،  الكلمة التي تحمل تفسيرات متعددة تصل حد الإنكار، فالحقل القانوني ما زال إلى الآن لا يعترف بوجود هذا المفهوم بشكل واضح، فيما يمتد غموض هذا “الأثر” إلى علم النفس، الذي لم يرصد أعراضه الجسدية والنفسيّة بدقة.

ازداد تداول أثر الرعشة مع تطور تقنيات الرقابة العامة والرقمية، فكمية البيانات المتاحة على الإنترنت غير مسبوقة، والجهات الفاعلة الحكومية والشركات التي تستخدم بشكل متزايد التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، والتعلم الآلي، وتقنية التعرف إلى الوجه (FRT) للمراقبة وتحليلات البيانات، ضاعفت القلق حول “الآثار المخيفة” لرأسمال المراقبة وتطبيقاته الأمنيّة والنفسيّة، والمقصود بدقة أن هذه التكنلوجيات  “تثبط” أو تثني الناس عن ممارسة حقوقهم والتعبير عن آرائهم، ما خلق موجة انتكاس في مجال الحريات والتعبير عن الرأي.

أصدرت مؤسسة Open society، عام 2021 كتيباً تشرح فيه هذا المفهوم وتطبيقه في القانون الدولي والأوروبي، واستخدامه في محاكم حقوق الإنسان الدولية لردع الدول عن ارتكاب انتهاكات ضد النشطاء والصحافيين. وفي الكتيب ذاته نقرأ كيف توظف السلطات أثر الرعشة لزرع الرعب والخوف في قلوب مواطنيها، ووضعت المؤسسة التعريف التالي: “من وجهة نظر قانونيّة، أثر الرعشة يعرّف بوصفه الآثار السلبية، لأي تصرف تقوم به دولة،  على الحقوق الطبيعية والقانونية للأشخاص ومن بحكمهم، وما يؤدي إلى ثنيهم بشكل استباقي عن ممارسة حقوقهم أو الوفاء بالتزاماتهم المهنية، خوفاً من أن يكونوا عرضة لمحاكمة رسميّة، تؤدي إلى عقوبات، أو عواقب غير رسمية، كالتهديدات، الاعتداءات، أو حملات تشويه السمعة.”

 التعريف مثير للاهتمام، لا يدّعي الشمولية، لكنه ينتصر للقانون بوصفه ضامناً لحرية التعبير، كما يكشف عن استراتيجيّة تهدد “كلام” الفرد، ووضعيته كمذنب/ بريء، وأثر هذه الثنائية عليه، بين المحاسبة القانونيّة، أو المحاكمة الشعبيّة أو تهديد “الالتزامات المهنيّة”. وهنا محاولة لرصد هذا الأثر ضمن سياقات يوميّة وعامة، باتت تؤثر في عمق حياتنا وخياراتنا الفردية.

امتناع أحدهم عن الضحك أمام “نكتة”، يدلّ على شيء من الخوف، والحذر الذي يقتضي الصمت والتفكير مرتين أو ما يعرف باسم Chilling effect – أثر الرعشة

أثر الرعشة في ظل غياب القانون

في دمشق، أوقف الجندي على أحد الحواجز سائق أجرة كان يقل ر.س من مكان دراسته إلى منزله، تأمل العسكري بطاقة ر.س الشخصيّة وبطاقته الجامعية، ثم سأله :” هل أنت صحافي ؟”. بطاقته الجامعية تشير بوضوح إلى “كلية الصحافة”، ارتعش ر.س، وأجاب “لا ، أنا ناقد فنّي!”.

 يمتلك الجندي في هذه الحالة سلطة الاعتقال وأحياناً القتل، وخوف ر.س، أنقذه واضطره للكذب، لأنه ببساطة موضع شكّ، ما جعله عاجزاً لا عن التعبير عن رأيه وحسب، بل الاعتراف بمهنته التي لم يكن يمارسها بعد.

نعيش في مساحات وبلدان، حيث العدالة ضئيلة ومُتدنية، لا مؤسسة موثوقة تضمنها، وما من سياق عادل يمكن عبره استعراض الذنب والاتهام وضبطهما. لكن هذا لا يعني أن الرعشة تلاشت، بل اشتدت، فغياب منظومة للعدالة، يعني حريّة الاتهام والمعاقبة، والأهم، لا برهان على البراءة، فأثر الرعشة، حين البحث في تاريخه، مُرتبط بالرقابة السياسية بداية، وممارسات السلطة ضد ما يتداول في الفضاء العام، ليصبح الارتعاش شأناً شديد الفردية يتعلق بكل فرد وموقعه، وقدرته على ضبط نفسه، بحسب السياق.

ارتعاشة اللاجئين

يُشاع أن كل اللاجئين في أوروبا مراقبون، حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وهواتفهم وكل أنشطتهم مُسجلة، وتنتشر بينهم فرضيات مُريبة، تحذيرات على شاكلة، “لا تبحث عن كلمة داعش في محرك البحث، بل لا تكتبها، كن حذراً في ما تبحث عنه”. أراد أحدهم وهو لاجئ، أن يطلع على مخططات طباعة الأسلحة عبر تقنية 3D لإشباع فضوله، لكنه ارتعش وامتنع عن البحث، وإلى الآن لم يستطع خوفاً ممن يراقب “الانترنت”.

ازدادت سطوة أثر الرعشة إثر الفضائح التي لاحقت “الانترنت”، نقولها هكذا، دون أي تحديد، “الانترنت”. إذ اكتشفنا أن كل ما نقوم به مراقب، حتى الكلمات التي نريد البحث عنها ولم نضغط على “بحث”، مُسجلة.

الوعي بالمراقبة الكُليّة يحرك الخوف الارتعاشي إلى أقصى مدى، خصوصاً لدى الصحافيين والنشطاء، كما ورد في كتاب “ثقافة المراقبة” لدايفيد ليون، فالمتخيل الحالي لدى النشطاء والصحافيين والكتاب عن حريتهم مرعب، هناك فرضية تقول أنهم مراقبون وهم “يعملون”، وكلمة خاطئة قد تثير الانتباه، ونقصد بخاطئة الـtrigger word، تلك التي تُفعل في مكان ما ضوءاً لدى موظف ما، معناه أن هذا الشخص، صاحب الـIP الفلاني، بحث عن كلمات محددة “تثير الانتباه”.

دفع الوعي بالمراقبة كثيرين إلى التفكير مرتين قبل البحث عن كلمات مثل “داعش، انتهاكات، تسجيلات”، كون هذه التركيبة من الكلمات مُسجلة، ومحفوظة في مكان ما، وقد يخطر في بال “السلطة” مهما كان شكلها، مطاردة من يقوم بالبحث عنها أو استجوابه.

المفارقة، أننا لا نعلم ما هي الـtrigger words بدقة، وهذا تحديداً أثر الرعشة، “أن لا نعلم إذا كان ما سنقوله أو نكتبه سيؤدي إلى إشعال ضوء أحمر في أحد الشاشات في مكاتب الاستخبارات”.

أثر الرعشة أمام “الجمهور” في غياب القضاء

كيف نحاكم المُتهمين في ظل غياب العدالة؟ 

السؤال شديد الإشكاليّة، خصوصاً حين نتحدث عن “متهمين” بالتحرش، الاغتصاب، الاعتداء اللفظي، خطاب الكراهيّة، التمييز العنصري…الخ. في بعض الأحيان يتدخل القضاء، وينتصر للضحية، أو العكس تماماً، يمعن في إذلالها. لكن هناك حلول أخرى، مثل المقاطعة العامة، الفضح، الإلغاء، التهميش. هذه التقنيات نتاج حرية التعبير (نظرياً)، لا التي تضمنها السلطات المحليّة في العالم العربي، بل وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا الإشكالية، في هذا الشكل من الحملات و”العدالة” المرتبطة بها، تمييع لصلاحية تسمية المتهم/ المتهمة، فضمن هذا النموذج، فإن الضحية هي التي تقرر (ولا اعتراض على ذلك أبداً)، ليتدفق بعدها “الجمهور” للانتصار للضحية والمطالبة بالعدالة.

لا نعلم بدقة ما هي العدالة المطلوبة، ولا نتحدث هنا بسذاجة، لكن إن كانت الثقة بالمؤسسة القضائية معدومة، فما هو العقاب وأسلوب تطبيقه، ما نعلمه أن هناك جمهوراً من “المعنيين” الذين يمتلكون سلطة علنيّة، وقدرة على التعبير سواء تحدثوا بأصواتهم عن أنفسهم، أو استفادوا من فئة الذين يتحدثون باسم من لا صوت لهم، بكلمات أخرى “النشطاء”. لكن، في ظل غياب محاكم تدين المتحرش أو العنصري، وتلبي نداءات المعنيين كما حصل في Me too أو black lives matter، تشتد سلطة العدالة الشعبية، وضرورة إرضاء “الجمهور” من المعنيين وغير المعنيين، من ضحايا وأنصار ومتفرجين. في هذا السياق، أي في غياب مؤسسة قضائيّة مجدية، تتضح معالم خطاب الاتهام القائم على: أحقية الضحيّة، سلطة الناشطين وشعبيتهم، منظمات المجتمع المدني، الخوف على رأس المال من تشويه السمعة، الخوف الارتعاشي…. بالتالي، العدالة والعقاب والاتهام لم تعد بيد مؤسسات الدولة (الفاسدة حكماً بحسب البعض)، بل ترتبط بالقدرة على التأثير وحشد الجموع على الشاشة، أي بصورة ما، سلطة الفضيحة، وهذه أيضاً، أداة لا يمكن إنكار فاعليتها.

لكن، هناك إشكالية في الديناميكيّة السابقة، كونها تطالب “الجميع” بأن يأخذوا موقفاً، وأن يعبروا عن تضامنهم، وإلا وضعوا في خانة الاتهام، بوصفهم “شهوداً” صامتين، والأهم، هذه الديناميكيّة تطالب “الجميع” بأن يشاركوا في تحديد المذنب وعقابه، ما يخلق إشكاليات، نركز هنا على ثلاثة منها، ترتبط بأثر الرعشة، أي الخوف من التعبير عن الرأي قبل نطقه.

المزاح جزء من “الجريمة”

نقرأ في إحدى شهادات التحرش المفبركة، أن المُتهم، حين قام بزيارة ضحيته، كان معه سندويش، أكله ثم قام بفعلته. تم تداول تعليقات ساخرة سراً لم يجرؤ أحد على نطقها علناً لأن أصحابها ارتعشوا/ن، منها: “التحرش لا يصح على معدة فارغة”.

ينصاع البعض لأثر الرعشة ويصمت، ولا يبدي موقفاً، جدياً كان أو تافهاً، خوفاً من أن يتحول نفسه إلى مُتهم أو مُرسخ للبنية التميزيّة، حتى لو كان الرأي أو الموقف ساخراً، أو ضمن سياق لا يفترض أن كلامه سيؤخذ على محمل الجد (الكوميديا، السخرية، الفجاجة…)، لكن هذا الصمت نفسه، إدانة، تواطئ من نوع ما، وأحياناً مشاركة في “الجريمة”.

الإشكاليّ أن هناك فئة ساخرة، مازحة، أو ترى نفسها غير معنية لأسباب كثيرة والأهم، شاهدة على ما قد يتناقض مع الاتهام الموجه للمذنب، هؤلاء مهددون بالارتعاش دوماً، وبأن يخسروا أعمالهم، وأن يتم إلغاؤهم، حتى لو أرادوا المزاح، لكن المزاح ممنوع، نحن لسنا في زمن الضحك.

 الذوق العام يجب أن ينطبق على “الجميع”

اتُهمت إحداهن بأنها متحيزة ضد المثليات، لأنها رفضت تقبيل صديقة لها في إحدى الحفلات الصاخبة، بل دفعتها عنها بلطف، بعد جدل طويل شبه علني حول موقفها، وسبب رفضها القبلة.  ارتعشت، وكان ردها: “لا أنجذب للفتيات، فهل الأمر إجباري؟!”.

هنا المثال الأشد وضوحاً على أن أثر الرعشة مرتبط بنظام الهويات الجديد وأخلاقياته، مثلاً، عدم التعاطف عند الضرورة مع عارضة أزياء ذات وزن زائد، أو عارض أزياء مثلي، شأن لا يمكن تجاهله، فالمناصرة والحشد مطلوبان لكشف التمييز الممارس والإشارة إلى أثر الرعشة ذاته. لكن، أن يتحول من يقول (ونركز على القول هنا) إنه لا يفضل السمراوات، أو من لا تفضل أن تكون مع ملون إلى متهمين بالتمييز وترسيخ البنية التميزيّة، فهذا شأن إشكالي، بل وتهديد لحرية الذوق الشخصي والخيار الحميميّ، ذاك الذي اكتشفنا أنه “بناء ثقافي”، بالتالي، لا مكان للتفضيل الشخصي الحميمي الذاتي! (هذا شأن لن نخوض فيه) فهذا خطاب قوة وتهديد، لكن بحسب الأخلاقيات الجديدة، يجب الانفتاح على الجميع حد الرهز، بغض النظر عن أجسادهم/هن، وهذا في حد ذاته بناء ثقافي تمييزي وينفي “الخيار الذاتي”.

التعبير عن “التفضيل الشخصي” و”الذوق الفردي” أصبح محركاً للارتعاش، ونتحدث هنا عن التعبير بأشد الأشكال براءة وحسن نية (لن نشير إلى الحق بالسخرية والتهكم والمزاح)، فالتردد والخوف من “الكلام” ومن التعبير عن رأي ذاتي شديد الحميمية، لا يمكن وصفه إلا بتهديد حرية التعبير، فإما أن تكون/ي مستعداً/ة للجميع حتى في شأن الشهوة، أو نضع إشارات استفهام، كونك/كِ مشاركة في ترسيخ الأعراف التقليديّة.

  حرية التعبير فوق المشاعر الفردية والجمعية

يحاول أحد الباحثين في النظرية الأدبية، ابتكار نوع أدبي جديد، مشابه لـ”شهادات الهولوكوست الزائفة”، تحت عنوان “شهادات الضحايا الزائفة”، ارتعش، وتوقف عن إكمال المشروع، فأي منصة لا تقبل بنشر هذا النوع من النصوص، ما قد يهدد مصدر رزقه.

لا يمكن أن نعيد النقاش أو نثبت أن حرية التعبير شأن لا يمكن التنازل عنه أو التفريط به، لكن، في سياقات بلا عدالة، ولا ضامن لهذه الحرية سوى شركات خاصة عابرة للقارات (فيسبوك، انستغرام، تويتر…)، الموضوع أشد إشكاليّة، فالحساسيات المفرطة في كل مكان، ويُلام الرأي بوصفه “مؤذياً للمشاعر” عوض عن القول إن “مشاعر المتلقي نفسها هي التي تأزمت”.

يجب القول بدايةً إنه لا يوجد رأي، نكتة، خطاب، تعليق يتفق عليه الجميع، لا بد من اختلاف في رد الفعل يتراوح بين الإهانة الشخصية وحد تهمة خطاب الكراهيّة الغامضة، لكن هذا لا يهدد الرأي نفسه، ولا يعني أن يلغي مشاعر الأفراد، مهما كان عددهم، أو الحرمان من الكلام أو تهديده، بل المحاسبة بعده.

ما يحصل حالياً، بسبب أثر الرعشة، نتحدث هنا بالضبط عن غير المُتهمين،  أن هناك من يتردد، يرتعد، يرتعش قبل التحدث، كونهم/ن عرضة لحملات التشهير وتهديد حقوقهم المهنيّة إثر نكتة أو رأي ساخر، السبب، غياب ضمانات حرية التعبير، وتحول الفضاءات الرقميّة إلى كرنفال للمشاعر.

هل يجب أن نخاف قبل أن نتكلم!

أثر الرعشة تهديد للرغبة بالكلام وللكلام نفسه! تهديد لإبداء الرأي، للتهكم، والتحامق، والحذلقة، وإلقاء النكات، فكل ما سبق محكوم بالخوف والرعشة حالياً، ما دمنا لا نملك أسلوباً لتطبيق العدالة (التي لا يعترف بمؤسساتها البعض) على المذنبين  أو المساحات التي تحتضنهم، بل حملات ومقاطعات وإلغاءات، وتأويلات للآراء، وأخذها جميعها على محمل الجدّ حتى إذا كان مطلقوها من غير المعنيين أو من المعنيين الساخرين. وهذا المرعب في أثر الرعشة، هو الخرس الذي يكرسه ويحركه، بالمعنى الجسدي والحرفي، المشكلة إذاً في الخوف قبل الكلام، لا بعده وتحمل نتائجه، وهذا بالضبط ما يهدد حرية التعبير.