fbpx

كيف تعيش أوروبا هاجس الأمن بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

روسيا بالتأكيد ستبقى على قيد الحياة، لكن التطورات والأحداث المتغيرة بديناميكية هائلة، ستجعل من دورها وسياساتها على الصعيدين الإقليمي والدولي صعبة التحقُّق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يخفي الجدل الدائر بين الحلفاء في الأطلسي حول تجهيز أوكرانيا بالدبابات الألمانية (ليوبارد-2) القتالية، تباين مواقفهم في شأن المدى الذي ينبغي أن يصل إليه تسليح أوكرانيا، بالأسلحة الثقيلة والصواريخ بعيدة المدى، وهو يعكس أيضاً خلافهم الأكبر حول ردود فعل الكرملين على هذا التصعيد على خلفية تهديد نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، من أخطار إلحاق هزيمة مذلّة بدولة نووية مثل روسيا. موقف الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ المدعوم بقوة من واشنطن ولندن واضح للغاية، فقد دعا الحلفاء إلى مدّ أوكرانيا بأسلحة أكثر فتكاً وحداثة.

يواجه مستشار ألمانيا الاشتراكي الديمقراطي أولف شولتز، ضغوطاً خارجية وداخلية ستجبره في النهاية، على تغيير موقفه المتردد في إرسال هذه الدبابات، وسحب اعتراضه على قيام الدول الحليفة التي تمتلكها، بمنحها لأوكرانيا التي تريدها وتلحّ عليها، كونها السلاح الأكثر فاعلية لنجاح هجومها المعاكس الذي سيتيح لها إنهاء احتلال روسيا لأراضيها، وجزيرة القرم ضمناً. وتلوح في أجواء السياسة الألمانية بوادر انشقاق وتفكك في الائتلاف الحاكم، بعد إبلاغ وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك أن في وسع بولندا تسليم أوكرانيا هذه الدبابات من دون موافقة برلين.

وعلى رغم سياسة التحفّظ وثقافة الحذر العسكري التي تنتهجها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، وموقفها  المتذبذب الناجم عن قلقها من توسّع نطاق الحرب، الذي أخذ يثير جنون الحلفاء، إلا أن برلين تعد من أهم موردي الأسلحة الى أوكرانيا، منذ بدء الغزو الروسي. إلا أن تركيبة شولتز السياسية وأفكاره اليسارية منذ اقتحامه دروب السياسة في بلاده، فضلاً عن صيته الذائع منذ سنوات كسياسي متردد، تسعفه في اتخاذ خطوات جديدة على مسارات مختلفة لتوضيح بعض جوانب هذا التردد والتذبذب.

المراوغة الالمانية ووقائع الحرب البوتينية

تتحجج برلين وتراوغ في منح كييف الدبابات التي تريدها منذ أشهر طويلة، وقد ربطت موافقتها، بإرسال واشنطن دباباتها المتطورة (أبرامز)- ولو واحدة منها- الى كييف، في محاولة لحشرها في الزاوية، وهو أمر يعارضه جنرالات البنتاغون، لأسباب موضوعية، أولها أن التدريب على تشغيلها واستخدامها يتطلب فترة طويلة، وثانيها صعوبة صيانتها على الأرض، وثالثها أنها ليست مناسبة للقتال في أوكرانيا، لاستهلاكها كميات كبيرة من وقود الطائرات، على خلاف الدبابات الألمانية التي تعمل على الديزل، فضلاً عن كون الأخيرة أخف وزناً. الأميركيون لم يوجهوا انتقادات علنية الى برلين، لكن قناة “سي أن أن” نقلت عن مسؤول أميركي رفيع قوله إن “الألمان وضعونا في صندوق بارود”.

روسيا ودروس الانتكاسات العسكرية المذلّة 

يرفع التردد والخوف في ألمانيا، منسوب خطاب التهديد والتخويف،  فقد فاضت الميديا الروسية الرسمية والترولات والبوتات التي تمولها موسكو على الإنترنت، وذبابها على وسائل التواصل الاجتماعي، بالتهديد بما سمته “الحرب الكبرى”، التي تحضّر لها روسيا هذا العام، والخطة السرية التي يدرسها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي ستشكل  نقطة التحول والمفاجأة غير السارة للقيادة الأوكرانية وحلفائها الغربيين. صحيفة “لو فيغارو” نقلت عن الخبير  لور ماندفيل قوله إن “القيادة العسكرية الروسية تعلمت من الدروس وعبر الانتكاسات الكارثية التي عاشتها العام الماضي، وهي تستعد لحرب أوسع، قد تشمل هجمات من بيلاروسيا ضد طريق الإمداد وخط السكك الحديدية الذي يربط غرب أوكرانيا بالحدود مع أوروبا”.

على رغم مرور عقود طويلة على هذه الحرب وكوارثها، إلا أن ألمانيا لم تتخلص حتى الآن من عقدة الذنب، لتفجيرها حرباً عالمية مدمرة وهولوكست تعاني من تبعاته حتى الآن.

لم يمضِ على عودة ألمانيا كفاعل جيوسياسي مؤثر وحاسم إلى الساحة العسكرية الدولية والأوروبية سوى عام واحد، بدأ مع شن روسيا حربها العدوانية على جارتها الأصغر أوكرانيا. هذا حصل بعد اتخاذها قراراً ظلت تتجنبه طيلة عقود، إذ أجرت تغييرات جذرية حاسمة في  دستورها، وفّرت لها إمكان زيادة إنفاقها العسكري بقيمة 100 مليار يورو، للمرة الأولى منذ هزيمتها المذلّة في الحرب العالمية الثانية، وذلك بهدف إعادة بناء وتسليح قواتها المسلحة وتحديثها، إضافة الى اتخاذ قرار نوعي بتسليح أوكرانيا بأنواع مختلفة من الأسلحة والتقنيات العسكرية.

وعلى رغم مرور عقود طويلة على هذه الحرب وكوارثها، إلا أن ألمانيا لم تتخلص حتى الآن من عقدة الذنب، لتفجيرها حرباً عالمية مدمرة وهولوكست تعاني من تبعاته حتى الآن، كما أنها تجهد لمحو الإرث النازي الثقيل والمخزي من تاريخها.

شولتز: مناهضة الأطلسي والتعاطف مع الشيوعيين الروس 

تاريخياً، يتعاطف اليسار الألماني والأوروبي عموماً مع الاتحاد السوفياتي، والآن لا يزال منجذباً إلى وريثته أي روسيا، على رغم إدراكه معنى البوتينية العدوانية. 

في المقابل، يتعامل مع الولايات المتحدة والناتو بجفاء وتشكيك، ما انعكس دائماً على علاقة الطرفين بسبب إصرار واشنطن ومنذ سنوات، على أن تتوقف أوروبا عن الاتكال عليها لحماية أمنها القومي، وتعتد بقدراتها التي يجب ألا تقتصر على الاقتصاد والتكنولوجيا. ولهذا، ظلت تلحّ حكومات الأوروبي وتطالب برفع نفقاتها العسكرية الى نسبة 2 في المئة سنوياً بغية الاستعداد الإيجابي لحماية أمنها القومي وأنظمتها الديمقراطية. ولأن واشنطن سئمت من تحمّل 70 في المئة من ميزانية الحلف ونفقاته طيلة العقود المنصرمة، فيما ترفض الدول الغربية الغنية رفع موازناتها الدفاعية وتحديث قواتها المسلحة، فقد كثفت واشنطن ضغوطها في هذا الشأن، ما أدى الى توتر حذر في العلاقات بين جانبي الأطلسي، ارتفع منسوبه خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، الذي هدد وتوعد مستخدماً تعابير جارحة في لقاءاته مع الزعماء الأوروبيين في إطار الحلف الأطلسي وبشكل ثنائي. وكشف مستشاره السابق المقال جون بولتون، أن ترامب كان على وشك الانسحاب من الحلف الأطلسي.

ألمانيا قوة عظمى ترفض الأدوار الثانوية

من الناحية الجيوسياسية، لطالما نظرت ألمانيا إلى نفسها كقوة عظمى قائمة بذاتها، ولهذا لم تشعر أبداً بالارتياح في أداء دور ثانوي، في تحالفات مثل الناتو تهيمن على قيادات الولايات المتحدة وبريطانيا. لم تخفِ برلين مساعيها الرامية الى تخطّي هذه التراتبية، وظلت تعمل بشكل متواصل ودؤوب بهدف توسيع نفوذها في شرق أوروبا. لذلك، فهي حريصة جداً على عدم استخدام مساعداتها العسكرية لأوكرانيا، لتغيير التوازنات المهمة التي من شأنها أن تعرّض نفوذها للخطر ليس فقط في الشرق، ولكن أيضاً في الاتحاد الأوروبي نفسه. لذلك هي دعمت بالفعل مبادرة في بداية العدوان الروسي على أوكرانيا، لتقديم دباباتها (ليوبارد) إلى دول مثل بولندا، مقابل تخلّيها عما تمتلكه من دبابات تعود إلى الحقبة السوفياتية وإعطائها إلى أوكرانيا. وللمفارقة، فإن بولندا هي أول دولة تمردت على الحظر الذي فرضته ألمانيا على تقديم ليوبارد-2، من دون موافقتها، لأوكرانيا. 

تركيا ستعمل من دون توقف على ملء الفراغ الحاصل بسبب التراجع الروسي، من خلال تطوير قدراتها وإمكاناتها الجيوسياسية، لإعادة الحياة الى الفكرة الطورانية.

من الواضح تماماً وهو ما يرجّحه محللون، أن النخبة السياسية في برلين على دراية كاملة بنيات بولندا وأوكرانيا، وربما دول أوروبية شرقية أخرى، بتشكيل تحالف جيوسياسي- عسكري بعد هزيمة روسيا وإخراج قواتها من أوكرانيا، ولعل مثل  هذا التطور لو حصل كما تعتقد النخب السياسية الألمانية، فستكون له تداعيات وتأثيرات سلبية في دور ألمانيا الأوروبي، لأن هذه البلدان بمساحتها وتعداد سكانها، ستشكل قوة أكبر وأكثر فاعلية على المستوى الأوروبي وفي العلاقات مع الولايات المتحدة. ولهذا، فهي تقلق على علاقاتها المستقبلية مع معظم أوروبا الشرقية مع استثناءات محدودة محكومة بوجود حكومات في المجر وبلغاريا يتزعمها سياسيون شعبويون تلهمهم البوتينية السياسية. الدول المتبقية انفصلت بالفعل عن روسيا سياسياً وجغرافياً، وتسعى إلى نيل استقلالية اقتصادية وثقافية أكبر، عبر انضمامها الى “الناتو”، الحلف المناهض لروسيا.

أوروبا الشرقية والخارطة الأمنية الأوروبية؟

تتبلور منذ أشهر، مؤشرات قيام كتلة جيوسياسة جديدة على الخارطة الأمنية الأوروبية، قوامها بولندا ورومانيا ودول أخرى. يقول الأستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة صوفيا، البروفيسور أوغنيان منتجيف لـ”درج”، أنه “بعدما كانت أوروبا خاملة لعقود وغائبة عن الموازين الجيوسياسية المتحركة بشكل ديناميكي في العالم، فما يحدث الآن أن معالم مركز جيوسياسي جديد قد بدأت تتبلور”. أوروبا  لا تكابر ولا تتنكر لواقع مرير يسود منذ عقود ، فهي تعرف وتعي نقاط ضعفها الاستراتيجي، كما تعرف في الوقت نفسه مكامن قوتها الاقتصادية التي رفعتها الى حجم عملاق اقتصادي، لا تمكن الاستهانة بدوره العالمي، لكنها بقيت وهو ما تعيه قياداتها، عاجزة عن فرض سياساتها ومواقفها في الصراعات الدولية، ما جعلها تكتفي بالارتكاز في كل تحركاتها الدولية على مبادئ سياسة القوة الناعمة المكتسبة من قوتها الاقتصادية. أوروبا الآن، وبعد حرب بوتين على أوكرانيا، لم تعد قادرة على تجرّع مرارة هذه الحقيقة، لهذا بدأت معالم تغيير يكتسب مع كل يوم ديناميكيات جديدة لمواجهة الترهل في كل المجالات. أوروبا وفق منيجيف، أصبحت “قوة سياسية وعسكرية واقتصادية مختلفة قائمة بذاتها الآن”. هذا يتحقق وفقاً له “بعد بروز أوروبا الشرقية كنواة جيوسياسية جديدة، أخذت تكتسب أهمية متنامية ومتزايدة، لأسباب عدة منها أن روسيا تضعف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وما تتركه من فراغ تحتله جزئياً لأن هذه النواة الجيوسياسية الجديدة”، كما أن “ظهور هذه القوة سيلقى الترحيب من الولايات المتحدة، لاعتقادها وربما ثقتها بإمكان أن تؤدي هذه القوة إن لم يكن الدور الرائد، فعلى الأقل الدور المهم في العلاقة عبر الأطلسي”.

لقد شكلت أوروبا حتى الآن، بإقرار متكرر من المؤسسات السياسية والأمنية ومراكز التحليل السياسي في أميركا، “عبئاً عسكرياً واستراتيجياً وأمنياً على الحليف عبر الأطلسي بخمولها وترددها وفوضى مؤسساتها التنفيذية، لكنها مع ذلك ستظل مهمة وضرورية، بالنسبة إلى أميركا من الناحية الجيوسياسية في مواجهة التحدي الآتي بالدرجة الأساسية من الصين. هذا بالتأكيد ما سيدفع واشنطن إلى إعادة هيكلة المركز الجيوسياسي الجديد في أوروبا وتنميته، والذي يفترض أن يضم أوكرانيا وبولندا ورومانيا وجمهورية التشيك ودول البلطيق، ليكون الحليف الجدي على هذه الجبهة التي ستقرر مصير العالم الديمقراطي الحر. هذا المحور سيكون له أيضاً دور استراتيجي ومحوري في الأمن الأوروبي الآن وفي المستقبل”.

 روسيا بالتأكيد ستبقى على قيد الحياة، لكن التطورات والأحداث المتغيرة بديناميكية هائلة، ستجعل من دورها وسياساتها على الصعيدين الإقليمي والدولي صعبة التحقُّق، لأن نفوذها في المجال الحيوي الإقليمي والدولي سيتراجع نسبياً وسينخفض، ​​على حساب المركز الجيوسياسي الجديد. ينبّه البروفيسور منجيف إلى أن تركيا ستعمل من دون توقف على ملء الفراغ الحاصل بسبب التراجع الروسي، من خلال تطوير قدراتها وإمكاناتها الجيوسياسية، لإعادة الحياة الى الفكرة الطورانية، وتضخيم حجم دورها في الشرق الأوسط وأفريقيا.