fbpx

وأخيراً.. علاج للأرق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إنه العصر الذهبي للأرق، فطنين الشوارع المضاءة وثرثرة مذيعي الأخبار على مدار 24 ساعة، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، جعلتنا في عالم معادٍ للنوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إنه العصر الذهبي للأرق، فطنين الشوارع المضاءة وثرثرة مذيعي الأخبار على مدار 24 ساعة، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، جعلتنا في عالم معادٍ للنوم. لم يعد الحد الفاصل بين الليل والنهار مرسوماً بشكل واضح. ولم تعد غرفة النوم الملاذ الذي نلجأ إليه هروباً من المكتب. وانهارت الجدران الجسدية والنفسية، التي تقينا زحف العمل والتفاعلات الاجتماعية الى كل زوايا حياتنا. وكما فسر كاتب المقال جوناثان كراري، فإن الأرق هو عرض حتمي لعصر نشجع فيه على أن نكون مستهلكين متعطشين ومبدعين متوقدين.

بالنسبة للأشخاص الذين لا يستطيعون النوم، يبدو الأرق وكأنه مأساة تصيب أناساً قليلين. لكن ما يقدر بثلث البالغين البريطانيين يعانون من أرق مزمن، وهو تتمتع بفرصة ملائمة للنوم، ولا تملك قدرة كافية لفعل ذلك لمدة لا تقل عن ستة أشهر. وقد طلب كثيرون منهم المساعدة. وتضاعف بين عامي 1993 و2007 في المملكة المتحدة عدد الأشخاص الذين زاروا الطبيب وكانوا يشكون من الأرق، وأظهرت بيانات NHS، في العقد الماضي، زيادة حوالى عشرة أضعاف في عدد الوصفات الطبية التي وصفت الميلاتونين للعلاج، وهو الهرمون المنظم للنوم.

آثار الأرق يمكن أن تكون مدمرة. فقد كتب عالم الأعصاب ماثيو وولكر في كتابه “لماذا ننام”، “أنّ تدهور النوم في جميع أنحاء الدول الصناعية له تأثير كارثي على صحتنا، ومتوسط العمر، وسلامتنا، وإنتاجيتنا، وتعليم أطفالنا”. ويرى تقرير صدر عام 2016، من قبل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أن الأرق يزيد خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسرطان والسمنة. إضافة إلى أن احتمالية إصابة الأشخاص الذين يعانون من الأرق بالاكتئاب المزمن أكبر مقارنة بالأشخاص الذين ينامون. يرتبط الأرق بجميع الأمراض النفسية الرئيسية، والتي تشمل خطر الانتحار.

ولا يعتبر هذا خبراً جديداً بالنسبة للأشخاص المصابين بالأرق والباحثين بيأس في “غوغل” والذين قادهم خوفهم من السمنة وأمراض القلب، والحوادث والفقر، إلى الوقوع في براثن القلق من انعدام النوم. وبسبب الخوف من أن تكون مشكلتهم غير قابلة للعلاج، أو ألا يأخذها أي طبيب على محمل الجد، لا يسعى كثر من المعانين من الأرق إلى الحصول على مشورة طبية. وفي بريطانيا، حيث يتردد الأطباء في وصف أدوية النوم لمدة أطول من أسبوع أو أسبوعين، من يستطيع أن يلوم الأشخاص الذين يعانون من الأرق؟ أخبرتني كيلر أيتشيسون، وهي طبيبة عامة في مدينة نورتش “لا نمتلك سوى القليل جداً بين أيدينا. خلال استشارة مدتها 10 دقائق من المستحيل أن تُعلم الناس الإقلاع عن العادات السيئة”. وفي ظل وجود عدد قليل من الخيارات، يلجأ الأطباء إلى إعداد التقارير المبتذلة والمعتادة: استحم بالماء الساخن قبل الخلود إلى النوم، تناول موزة، أغلق هاتفك، اقرأ كتاباً، مارس العادة السرية… هذه المعلومات الشيقة غالباً ما يكون لها أساس علمي أو منطقي، ولكن عندما يجربها المصاب بالأرق جميعها (في وقت واحد أحياناً) فما الذي يحدث؟

وقد اتضح أن هناك عيادة بلندن استطاعت تحقيق نتائج رائعة في هذا الصدد. أسست عيادة الأرق على يد هيو سيلسك، وهو طبيب نفسي من جنوب أفريقيا، عام 2009، في حي بلومزبري بلندن، وأحدثت ثورة في علاج الأرق بالمملكة المتحدة. وباعتبارها الوسيلة البريطانية الوحيدة المتاحة والمتخصصة في علاج الأرق، خضع ما يزيد عن ألف مريض للعلاج بالعيادة، بمعدل سرعان ما تزايد ليصل عدد المرضى الخاضعين للعلاج بالعيادة إلى 120 حالة شهرياً عام 2018.

ووفقاً للأرقام الخاصة بالعيادة فإن 80 في المئة من المرضى يفيدون بحدوث تحسن كبير، في حين يزعم نصفهم تقريباً الشفاء تماماً، وقد أكسب هذا النجاح العيادة مكانة مرموقة تُحسد عليها، وقائمة انتظار للحصول على ميعاد للاستشارة، إذ يمكن أن ينتظر المرضى عامين ليتمكنوا من الحصول على استشارة.

تتضاعف المشاعر في الضوء المزعج للمنبه، إذ إن أقل اهتزاز أو استهجان أو كلمة غير مناسبة من شريك السرير قد يكون أمراً كافياً لإثارة الغضب، لأنه يعيدني سريعاً إلى حالة الأرق المحيطة. إذ إن الإزعاج المتناقض الذي يسببه الأرق هو عبارة عن: كلما حاولت النوم أكثر، فشلت أكثر.

مستحيل أن تفسر للشخص الذي ينام بصحة جيدة ماذا يعني ألا تنام، ولكن الكتاب والفنانين استمروا في محاولاتهم. إذ كتب فلاديمير نابوكوف عن هاجس الإحساس بالخطر الذي كان يشعر به عند الدخول إلى غرفة النوم “الليل دائماً عملاق”. (أحد شخصيات نابوكوف المصابة بالأرق رغبت في الحصول على جهة ثالثة يمكن النوم عليها، بعد أن حاولت وفشلت بالنوم على الجهتين).

لا يمكن أن يكون هيو سلسيك على يقين تام، لكنه يقدر أنه قد قابل أناساً يعانون من الأرق أكثر من أي شخص آخر في بريطانيا. ومع ذلك، فعندما يدخل غرفة الانتظار في عيادة الأرق، لا يستطيع أن يعرف من هو المريض. إنها محنة خفية وسرية.

ولم تُبنَ سمعة عيادة الأرق على طريقة العلاج السريرية وحدها. فقد صمم سيلسيك برنامجاً مدته خمسة أسابيع يجمع بين العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، المصمم لكسر الارتباطات السلبية للشخص مع غرفة نومه، وما يطلق عليه سيلسيك “التدريب على كفاءة النوم”، لتخفيض مقدار الوقت الذي يقضيه الشخص في الفراش.

اليوم، يدير سيلسيك ومستشار آخر العيادة بدعم من الممارس العام الذي يعمل يوماً واحداً في الأسبوع وطبيب نفسي متعاون، ويساعده متدرب. يسافر المرضى من جميع أنحاء البلاد للزيارة، ويزور نحو 80 مريضاً الفصول الجماعية الأسبوعية للعيادة. قال سيلسيك “نحن نتوسع باستمرار، لكننا لا نزال نكافح لتلبية الطلب”.

ويعتقد سيلسيك أن الأطباء بدأوا منذ عام 2005 في التدرب على علاج الأرق لتطبيق نتائج أبحاثهم. عند قدوم سيلسيك إلى العاصمة البريطانية لندن في نهاية التسعينات طبيباً متدرباً في الكلية الملكية للأطباء النفسيين، كان قد شُفي من الأرق.

لكنه ذُهل من عدم اهتمام مجال الطب النفسي بمرض الأرق. يقول سيلسيك، “اسأل أي مريض نفسي عما يزعجه، ستجد مشكلات النوم على رأس قائمة المشكلات”. بدأ سيلسيك إعداد قائمة مراسلة لأي طبيب نفسي مهتم بدراسة مشكلات النوم، ثم عقد مؤتمراً ليشارك فيه كل طبيب بنتائج أبحاثه.

جذبت هذه المجموعة انتباه مشرفة سيلسيك، شارلوت فاينمان، وهي استشارية نفسية في مستشفيات كلية لندن الجامعية، حيث لاحظت وجود اسم سيلسيك في إحدى نتائج البحث على الإنترنت، أثناء بحثها عن مصطلح الأرق في محرك جوجل. راسلت فاينمان، سيلسيك، لتسأله ما إذا كان يرغب في تأسيس عيادة للأرق في المستشفى التي تعمل بها.

وافق سيلسيك على عرض فاينمان واستقبل أول مريضين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009. بدأ عمله بدوام صغير، مرة واحدة أسبوعياً. يقول سيلسيك، “لم أكن أدري طبيعة ما أفعله”.

بعد ذلك بشهور قليلة، بدأ سيلسيك استكشاف طرائق العلاج السلوكي المعرفي. بالنسبة إلى مرضى الأرق، ترتبط غرفة النوم بقوة بحالة اليقظة، لدرجة تجعل مجرد التفكير في الذهاب إلى غرفة النوم يوقظ مريض الأرق، مثلما يشعر بالقلق من يذهب إلى طبيب الأسنان. يقول سيلسيك أن العلاج السلوكي المعرفي -الذي بدأ استخدامه آنذاك في أميركا الشمالية- يعمل على تعديل علاقة غرفة النوم في اللاوعي بحالة اليقظة واستبدالها بتصور آخر يربط غرفة النوم بالنوم. يقول سيلسيك، “وتحسنت النتائج بعد ذلك بشكل كبير”.

يقدِّم سيلسِك تقييماً مبدئيّاً للذين يلتحقون ببرنامجه؛ في محاولةٍ لاكتشاف ما يسبِّب الأرَق، وذلك مِن بَين تشكيلةٍ من الاحتمالات المختلفة.

فهو يفحص ويبحث عن اضطرابات النوم مثل “متلازمة تملمُل الساقين/ مرض ويليس-أكبوم”، والتي تُصيب حوالى من 2 إلى 10 في المئة من الأشخاص. ومثل عيادات طب النوم الأخرى، يدقق ويبحث عن اضطراب “انقطاع النفس النوميّ” ومشكلات أخرى في الجهاز التنفسي. لكن هذه ليست سوى الخطوة الأولى في العملية. فبمجرد استبعاد هذه الأسباب المحتملة، يطرح عليك سيلسِك قائمةً طويلة من الأسئلة، سواء أسئلة عمليّة حول ممارساتك اليوميّة (مثل: “في أيّ وقتٍ تخلُد إلى النوم؟”، “كم الوقت الذي تستغرقُه حتى تغطّ في النوم؟”)، أو أسئلة استقصائيّة (مثل: “ما الذي كان يحدث في حياتك عندما بدأت تعاني من الأرق لأول مرّة؟”).

كفاءة النوم

بمجرد أن يكتشف المريض أنه نام 90 في المئة من الوقت الذي أمضاه في الفراش، ينتقل إلى أقرب موعد للنوم قبلها بـ15 دقيقة في كلّ مرة. يُطلق على هذا الأسلوب السلوكيّ مُصطلَح نسبة كفاءة النوم، وعلى رغم من بساطته المجرَّدة، حقّق نتائجَ مذهلة. قالت لوريل تيرنر، طالبة الطبّ التي أكملت البرنامج عام 2016، “كان الأمر صعباً للغاية. وبنهايةِ الدورة التدريبيّة شعرتُ بالإرهاق. لكن على رغم شكوكي، كانت النتائج فوريّة”.

تُظهِر الدراسات أنّ العلاج السلوكيّ المعرفيّ CBT يُعدّ العلاجَ الأكثرَ فعاليّةً للأرق على المدى الطويل. لكن لكي يكون هذا العلاج فعّالاً، فإنه يتطلّب من المريض أن يضعَ روتيناً أو نظاماً ثابتاً ويُحافِظ عليه. بالنسبة إلى الذين يعبرون المناطق الزمنية بانتظام، أي كثيري السفر، الذين يَمكثُون في أسِرَّة فندقيّة غيرِ مألوفة أو لا يستطيعون وضع طقوس ليليّة بسبب العمل، تمثّل خطة سيلسيك هدفاً مستحيلاً. لا يريد هؤلاء المرضى جدولاً زمنياً يتوجَّب عليهم الالتزام به، بل حبوباً يمكنُهم ابتلاعُها.

التقى سيلسيك ببعض المرضى الذين اضطروا إلى ترك العمل والتخلي عن وظائفهم بسبب الأرق. “لقد كان لدي مرضى دُمرت زيجاتهم، حيث فقدوا إمكان التواصل مع أطفالهم لأنهم متعبون لدرجة أنهم لا يستطيعون الاعتناء بهم بالشكل الصحيح”. ومع ذلك، يدرك سيلسيك سياسة ضمنية شاملة بين الأطباء والتي بموجبها يرفض الأطباء كتابة أدوية من أجل النوم. ويقول إن هذه السياسة تضر بالمرضى.

على مدى السنوات الـ15 الماضية، قام جان بول كلوزيل، وهو طبيب قلب تحوّل إلى صيدلي عام 1997، وشارك في تأسيس الشركة السويسرية للتكنولوجيا الحيوية Actelion مع زوجته، مارتينا – وكان يقود تطوير ما يسميه الحبوب المنومة الخالية من الآثار الجانبية. يقول كلوزيل “تأتي معظم الحبوب المنومة من البنزوديازيبينات. إنها تستحث شيئاً يشبه النوم، ولكن في الواقع، إنه أقرب إلى التخدير”. حبوب كلوزيل، التي يأمل بأن يطلقها في السوق عام 2020، والتي تحمل الاسم العام نيموريكسانت Nemorexant تعمل بشكل مختلف. فهي تحُد من إنتاج الأوريكسين، وهو الهرمون الذي يبقي المصابين بالأرق مستيقظين.

ويرحب سيلسيك بفرصة وصف نيموريكسانت، “لأنه يعمل من خلال مسار مختلف تماماً عن مسارات العقاقير المنوِّمة الأخرى، سيكون من اللطيف الحصول عليه بالنسبة للمرضى الذين لم يستجيبوا للعلاجات القياسية”.

في غضون ذلك، لا تزال بريطانيا غير مهيأة على الإطلاق، ويبدو أنها غير راغبة في التعامل مع الانتشار الوبائي المتزايد للأرق. وبالنسبة لضحايا المرض الذين جرى تجاهلهم بشكل مهين، يصارع المصابون للتمسك بأي شيء يدعي أنه علاج، مما يتركنا عالقين في الفولكلور بنصائحه الشعبية الجذابة والمتناقضة. لا يتم ترخيص أي حبوب منومة للاستخدام على المدى الطويل، وبخلاف عيادة سيلسيك، فهناك عدد قليل من الخدمات النفسية الخاصة التي تقدم العلاج السلوكي المعرفي للأرق.

أُلغِيت خطّة لفتح عيادة لعلاج الأرق في مركز اضطرابات النوم بمستشفى غاي، بسبب الخوف من تردد عدد كبير جداً من المرضى عليها.

في أيار/ مايو، وبهدف المساعدة على تخفيف الضغط على العيادات المكتظّة بالمشتركين، قام سيلسيك بتفويض أوّل برنامج تدريبيّ في علاج الأرق للممارسين العامّين GP، في محاولة لتجهيز الأطباء لإدارة جلسات العلاج السلوكيّ المعرفيّ CBT في عياداتهم المحلّيّة، تكون شبيهة بتلك التي تُجرَى في عيادته.

بالنسبة للمرضى الذين يكملون بنجاح برنامج سيلسيك العلاجيّ، فإنّ القدرة على النوم بشكل جيّد تغيّر حياتهم على المستوى الأوليّ. أنْ يبدأ المرء النومَ مرّة أخرى يعني كما لو أنك انتظمت من جديد مع الكون وإيقاعاتِه التوجيهيّة غير المحسوسة. قالت لي هاندلر عن حياتها بعد انتهاء الأرق: “أنا الآن أسعَد. لقد تحسّنت علاقاتي، وأتحلى بالمزيد من الصبر والسعادة”. 

هذا المقال مترجم عن موقع theguardian.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي