fbpx

صنع في إيطاليا.. لكن بأي تكلفة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ينخرط الملايين من العمال ذوي الأجور المنخفضة في دول العالم الثالث، ومعظمهم من الإناث، ضمن فئات العمال غير المتمتعين بالحماية. غير أن وجود هذه الشروط القاسية في إيطاليا أيضاً، قد يصدم الذين يرون علامة “صنع في إيطاليا” كمرادف للحرف اليدوية الراقية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في شقةٍ بالطابق الثاني في مدينة سانتيرامو، كولي، جنوب إيطاليا، جلست امرأة في منتصف العمر، الصيف المضي، على كرسي أسود مُبطن، تعمل بجدٍ على طاولة مطبخها، وهي تخيط بعنايةٍ فائقة معطف صوف بالغ الأناقة، من نمط الألبسة الفاخرة التي ستُباع مقابل 800 إلى 2000 يورو (935 دولار إلى 2340 دولار) فور وصولها رفوف المتاجر هذا الشهر، كجزء من مجموعة ماركة الأزياء الإيطالية الفاخرة  MaxMara، للخريف والشتاء.

لكن المرأة، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها خشية فقدانها مصدر رزقها، لا تتلقى من المصنع الذي يوظفها سوى يورو واحد عن كل متر تنجزه من القماش.

تقول المرأة التي تعمل من دون عقد أو تأمين، وتتلقى أجرتها نقداً كل شهر “يستغرق الأمر نحو ساعة واحدة لخياطة متر واحد، أي نحو4 إلى 5 ساعات لاستكمال معطفٍ كامل، وتضيف “أحاول خياطة معطفين في اليوم”.

يصلها هذا العمل غير المنظم الذي تنجزه في شقتها من مصنع محلي تستعين به الشركات الكبرى، ويقدّم هذا المصنع ملابس خارجية لبعض أشهر العلامات التجارية في مجال الموضة الفاخرة، بما في ذلك لويس فويتون (Louis Vuitton) وفندي (Fendi). وقول السيدة إن أكبر مبلغ تقاضته على الإطلاق، كان 24 يورو، وكان مقابل خياطة معطف بأكمله.

العمل في المنزل – سواء في منزل بالفعل أو في ورشة صغيرة، خلافاً للعمل في مصنع- هو بمثابة حجر الزاوية في سلسلة التوريد في عالم الأزياء. وينتشر هذا النوع من العمل على وجه الخصوص في بلدان مثل الهند وبنغلاديش وفيتنام والصين، حيث ينخرط الملايين من العمال المنزليين ذوي الأجور المنخفضة، ومعظمهم من الإناث، ضمن فئات العمال غير المتمتعين بالحماية في هذه الصناعة، بسبب وضعهم غير القانوني في العمل وعزلتهم وغياب سبل الإنصاف القانونية.

غير أن وجود هذه الشروط القاسية في إيطاليا أيضاً، وكونها تسهل إنتاج بعض أغلى الملابس التي يمكن اقتنائها، قد يصدم الذين يرون علامة “صنع في إيطاليا” كمرادف للحرف اليدوية الراقية.

إن الضغط المتزايد من العولمة واشتداد المنافسة على جميع مستويات السوق، يعني أن الافتراض الضمني في الوعد بالرفاهية -ذلك الجزء من قيمة هذه السلعة، في كونها مصنوعة في أفضل الظروف، من قبل عمال ذوي مهارات عالية، يتقاضون أجوراً مجزية إلى حدٍ ما–  يكون معرضاً للخطر أحياناً.

حتى وإن لم يتعرضوا لما قد يعتبره معظم الناس ظروف عمل قاسية، إلا أن العاملين في المنازل يحصلون على أجور تبدو غير بعيدة عما يحصل عليه عمال السخرة. لا يوجد في إيطاليا حداً أدنى للأجور على المستوى القومي، ولكن الكثير من النقابات والشركات الاستشارية  تعتبر الأجرة التي تترواح ما بين 5-7 يورو في الساعة تقريباً معياراً مناسباً. في حالات نادرة للغاية، يمكن أن يكسب عمال ذوو مهارات عالية أجرة تصل إلى 8-10 يورو في الساعة، لكن العاملين في المنازل يكسبون عموماً أقل بكثير، بغض النظر عما إذا كانوا يعملون في الصناعة الجلدية أو التطريز أو حرف يدوية أخرى.

في جينوسا، مدينة أخرى في بوليا، تقول ماريا كولاميتا، البالغة من العمر 53 سنة، إنها قبل عقدٍ من الزمن، عندما كان طفلاها أصغر سناً، كانت تعمل من منزلها، لإعداد فساتين الزفاف التي تنتجها المصانع المحلية، وتقوم بتطريز الفساتين المزينة باللؤلؤ، مقابل أجرة تتراوح بين 1.50 يورو و2 يورو في الساعة.

كل فستان واحد يستغرق ما بين 10 إلى 50 ساعة، وتقول السيدة كولاميتا  إنها كانت تعمل 16-18 ساعة يومياً، ولم تكن تتقاضى أجرتها إلا عندما تكمل الثوب.

تقول خياطة أخرى من ورشة عملها الموجودة في أعلى شقتها: “أعرف أنني لا أتقاضى الأجر الذي أستحقه، لكن الرواتب منخفضة جداً هنا في بوليا، وفي نهاية المطاف أنا أحب ما أقوم به”.

وعلى رغم أن لديها وظيفة في المصنع تكسبها 5 يورو للساعة الواحدة، إلا أنها عملت لمدة ثلاث ساعات إضافية غير نظامية كل يوم، من المنزل، وغالباً في إعداد الملابس ذات الجودة العالية للمصممين الإيطاليين مقابل 50 يورو لكل قطعة.

اقتصاد الظل الايطالي

قامت أسطورة “صنع في إيطاليا”، التي تعود إلى قرون، على هذا الكم الهائل من المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تستهدف التصدير، وتشكل العمود الفقري لرابع أكبر اقتصاد في أوروبا،  إلا أنها تعرضت لهزة عنيفة في السنوات الأخيرة تحت وطأة البيروقراطية، وارتفاع التكاليف وتعاظم معدلات البطالة.

عانت المشاريع التجارية في الشمال -حيث فرص العمل والأجور الأعلى- بحدة أقل مما عانت نظيراتها في الجنوب، والتي تضررت بشدة بسبب الطفرة في العمالة الأجنبية الرخيصة التي دفعت العديد من الشركات إلى نقل عمليات الإنتاج إلى الخارج.

يعتمد عددٌ قليلٌ من القطاعات الصناعية فقط على العلامة التصنيعية للدولة، كاعتمادهم على تجارة السلع الفاخرة، التي تشكل منذ فترة طويلة ركيزة أساسية في النمو الاقتصادي في إيطاليا، وهي تستحوذ على نسبة 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي، وتوظيف نحو 500 ألف شخص بشكل مباشر وغير مباشر من قبل قطاع السلع الفاخرة في إيطاليا عام 2017، وفقاً للبيانات الواردة في تقرير جامعة بوكوني وألتاغاما، وهي منظمة إيطالية للتجارة في السلع الفاخرة.

ووفقاً للبيانات الصادرة عن “المعهد الوطني الإيطالي للإحصاء” (Istat)، عمل 3.7 مليون عامل في جميع القطاعات من دون عقود في إيطاليا عام 2015. وعام 2017، أحصى معهد Istat 7216 عاملاً منزلياً، من بينهم 3647 عاملاً في قطاع التصنيع، بعقود منتظمة.

ومع ذلك، لا توجد بيانات رسمية حول العاملين بعقود غير منتظمة، ولم تحاول أي جهة تحديد حجم هذه المجموعة لعقود. عام 1973، قدّر الخبير الاقتصادي سيباستيانو بروسكو أن لدى إيطاليا مليون عامل منزلي متعاقد في إنتاج الملابس، إضافة إلى عدد مماثل تقريباً للعاملين من دون عقود. ولم تُبْذَل سوى جهود قليلة لبحث الأرقام الفعلية منذ ذلك الحين.

وتقول ديبورا لوتشيتي من مؤسسة أبيتي بوليتي (Abiti Puliti)، الفرع الإيطالي لحملة الملابس النظيفة Clean Clothes Campaign، وهي مجموعة تدافع عن العمال الذين يعملون في ظروف قاسية منخفضة الأجور، “كلما تعمقنا في سلسلة التوريد، ازدادت ظروف العمل سوءاً وقسوة”. ووفقاً للوتشيتي، فإن البنية المجزأة لقطاع التصنيع العالمي، المؤلفة من آلاف الشركات المتوسطة والصغيرة، والمملوكة للأسر في معظم الأحيان هي السبب الرئيسي الذي يجعل ممارسات، مثل العمل المنزلي غير المنظم تظل سائدة حتى في دولة من دول العالم الأول، مثل إيطاليا.

عند الاتصال بهم، رفضت شرلكة LVMH التعليق على هذه القصة، في حين أرسل متحدث باسم دار MaxMara للأزياء البيان التالي “ترى  MaxMara أن عمل سلسلة التوريد وفق معايير أخلاقية، عنصر أساسي ضمن القيم الأساسية للشركة التي تنعكس في ممارسات أعمالنا”.

“أسلوب سالنتو”

من المؤكد أن هذا هو رأي أوجينيو رومانو، المحامي النقابي السابق الذي أمضى السنوات الخمس الأخيرة في الدفاع عن موكلته كارلا فينتورا، مالكة مفلسة لأحد مصانع شركة Keope Srl  (CRI سابقاً)، ورفع دعوى قضائية ضد شركة تود ويوروشوز (Tod’s وEuroshoes)، عملاقة الأحذية الإيطالية الفاخرة، وهي شركة كان يستخدمها تود كمورِّد رئيسي لإنتاج الأحذية بمدينة بوليا.

في البداية، عام 2011، شرعت فينتورا في اتخاذ إجراءات قانونية ضد Euroshoes فقط، مبررة ذلك بقولها أن الدفعات المتأخرة باستمرار، وتقليص معدلات الرسوم عن الطلبات، وعدم سداد الشركة الفواتير المستحقة لها، جعلت من المستحيل الحفاظ على أرباح المصنع ودفع أجور عمالها بشكل عادل. وأصدرت محكمة محلية قراراً لصالحها، وأمرت Euroshoes بسداد الديون. وبعد فشل استئناف الحكم، امتثلت Euroshoes للأمر القضائي وسددت الديون.

تقلصت الطلبات في أعقاب تلك الإجراءات القانونية. وفي نهاية المطاف، عام 2014، أعلنت شركة Keope إفلاسها. والآن، في محاكمة ثانية، استمرت سنوات من دون أن يصدر عنها حكم ملموس، تقدمت السيدة فينتورا بدعوى أخرى ضد Euroshoes  وTod’s، التي كانت كما تقول فينتورا على علمٍ مباشر بممارسات Euroshoes التجارية غير القانونية.

وقال رومانو من مكتبه في بلدة كاسارانو، قبيل جلسة المحاكمة المقبلة، والمقرر عقدها في 26 أيلول/ سبتمبر: “جزءٌ من المشكلة هنا هو أن الموظفين يقبلون بالتخلي عن حقوقهم من أجل العمل”.

وتحدث عن “أسلوب سالنتو” وهي عبارة محلية معروفة، تعني في الأساس “كن مرناً، استخدمْ أساليبك، وأنت تعرف كيف تفعل ذلك”.

تشهد منطقة سالنتو معدل بطالة مرتفع، ما يجعل قوتها العاملة في وضعية هشة. وعلى رغم أن العلامات التجارية لن تقترح بشكل رسمي أبداً أنها تستغل وضع هؤلاء العمال، فقد أخبر بعض أصحاب المصانع رومانو أن هناك رسالة ضمنية لاستخدام مجموعة من الوسائل، بما في ذلك توظيف العمال بأجور زهيدة، والدفع لهم للعمل في المنزل.

لطالما شكَّلت المنطقة مركزاً حيوياً لصانعي الأحذية التابعين لطرف ثالث يعمل لمصلحة العلامات التجارية الفاخرة، بما في ذلك غوتشي وبرادا وسالفاتور فيراغامو وتود. وعام 2008، دخلت فينتورا في اتفاقية حصرية مع Euroshoes، لتصبح مورداً فرعياً لتصنيع الجزء العلوي من الأحذية والمُعدة خصيصاً لتود.

ووفقاً للدعوى المقدمة من طرف السيدة فينتورا، أصبحت بعد ذلك تتلقى باستمرار الدفعات متأخرة، فضلاً عن انخفاض غير مبررٍ في الأسعار لكل وحدة، من 13.48 يورو إلى 10.73 يورو لكل ووحدة تنتجها في الفترة من 2009 إلى 2012.

بينما تلجأ مصانع محلية إلى خفض التكاليف، بما في ذلك توظيف العمال المنزليين، تقول السيدة فنتورا إنها لا تزال تدفع رواتب كاملة وتوفر التأمين الوطني.

لم يعد من الممكن تغطية تكاليف الإنتاج، ولم تصلها على الإطلاق الوعود بزيادة عدد الطلبات الواردة من تود عن طريق يوروشوز، وفقاً لما ورد في الأوراق القانونية المقدمة في قضية السيدة فينتورا.

عام 2012، توقفت الطلبات من تود عن طريق Euroshoes كلياً، بعد عامٍ واحدٍ من مقاضاة فينتورا شركة Euroshoes أمام المحكمة لأول مرة بسبب فواتيرها غير المسددة. وتقول فينتورا إن ذلك قد دفع Keope في نهاية المطاف إلى الإفلاس، وفقاً للوثائق القانونية. فأعلِنت السيدة فينتورا معسرةً في عام 2014.

وقالت المتحدثة باسم الشركة “تحتفظ تود لنفسها بالحق في الدفاع عن سمعتها ضد محاولة Keope لتشويه صورتها وتوريطها في قضايا لا تعني تود”.

وبالفعل، بيّن تقرير أعدته مؤسسة أبيتي بوليتي (Abiti Puliti) شمل تحقيقاً أجرته صحيفة محلية Il Tacco D’Italia، في قضية السيدة فينتورا، أن شركات أخرى في المنطقة، تعمل على خياطة وجوه الأحذية باليد، قد وظفت النساء للقيام بذلك الشغل بشكل غير منتظم من منازلهن، بأجرة تتراوح بين 70 إلى 90 سنتاً من اليورو للزوج الواحد، وهذا يعني أن العامل يتقاضى بين 7 إلى 9 يورو عن 12 ساعة من العمل.

العمل “غير المرئي”

وظائف المنسوجات المنزلية التي تتطلب عمالة كثيفة أو تتطلب مهارة فنية عالية ليست بالأمر الجديد في إيطاليا، لكن الكثير من المراقبين لقطاع الصناعة يعتقدون أن عدم تحديد الحكومة حداً أدنى للأجور سهّل استمرار أرباب العمل في دفع أجور زهيدة للعمال في المنازل.

يتم في العادة التفاوض على أجور العمال من قبل ممثلي النقابة، التي تختلف وفق القطاع والاتحاد. وقد ذكر استوديو روتا بورتا، وهو مكتب استشاري عمالي إيطالي، أنه ينبغي تحديد الحد الأدنى للأجور في صناعة النسيج، بنحو 7.08 يورو في الساعة، أقل من القطاعات الأخرى بما في ذلك المواد الغذائية (8.70 يورو) والبناء (8 يورو) والمالية (11.51 يورو).

لكن العمال غير المنخرطين في النقابات يعملون خارج النظام ويعرضون أنفسهم للاستغلال، وهو ما يشكل مصدر إحباط لكثير من ممثلي النقابات.

ويقول بييترو فيوريلا ممثل CGIL، أو الاتحاد العام الإيطالي للعمل، أكبر اتحاد وطني في البلاد: “إن كثيرات من الخياطات العاملات من دون عقود دخلن فترة التقاعد أو يفضلن مرونة العمل بدوام جزئي لرعاية أفراد العائلة أو يرغبن في دعم دخلهن، ويخشون من فقدان المال الإضافي. وبينما انخفضت معدلات البطالة في بوليا أخيراً إلى 19.5 في المئة في الربع الأول من عام 2018، بعدما وصلت لنسبة تقارب 21.5 في المائة في الفترة نفسها من العام الماضي، لا يزال من الصعب العثور على وظائف.

أسفرت نتائج انتخابات وطنية في آذار/ مارس عن  فوز كاسح لحكومة شعبوية جديدة، ووصولها إلى السلطة في إيطاليا، ووضع مقاليد الحكم بين يدي حزبين، وهما حركة الخمس نجوم ورابطة الشمال، مع اقتراح “مرسوم الكرامة” يهدف إلى الحد من انتشار عقود العمل قصيرة الأجل، والحد من تحويل الشركات الوظائف إلى الخارج مع تبسيط بعض القواعد المالية، لكن في الوقت الراهن، لا يبدو أن التشريع حول الحد الأدنى للأجور مطروح في جدول أعمال الحكومة.

وبكل تأكيد يسود شعور بين النساء اللواتي على شاكلة خياطة سانترامو في كولي التي لم تذكر اسمها، والتي كانت منهمكة في حياكة معطف آخر على طاولة المطبخ – بأن أي نوع من الإصلاح يبدو بعيد المنال.

ليس ذلك ما أهمّها في الواقع. إذ تقول إن ظروفها ستدمر إذا  فقدت هذا الدخل الإضافي وهذا العمل الذي سمح لها بقضاء بعض الوقت مع أطفالها.

وتقول المرأة بينما تتنهد مغمضة عينيها وكفها في الهواء “ماذا تريدني أن أقول؟ هكذا تسير الأمور، وهذه هي إيطاليا”.

هذا المقال مترجم عن موقع nytimes.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

 

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!