fbpx

لا مكابح للانهيار اللبناني… بو صعب “موفد” المصارف لدى البنك الدولي!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما يحصل اليوم ليس سوى تطبيع مع الانهيار الحاصل، عبر الإطاحة بكل سبل الحل المطلوبة من لبنان للخروج من الانهيار، لحماية مصالح حلقة ضيّقة من النافذين ماليّاً وسياسيّاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتواصل حملة التطبيع مع الانهيار اللبناني، وتحديداً من خلال الإطاحة بكل سبل الحل المطلوبة من لبنان للخروج من الأزمة لحماية مصالح حلقة ضيّقة من النافذين ماليّاً وسياسيّاً.

دون سابق إنذار، أقفل فرنسبنك جميع فروعه على خلفيّة قرار قضائي صادر عن محكمة التمييز، يفرض سداد ودائع العميلين عيّاد إبراهيم وحنان الحاج بالدولار النقدي، وعدم قبول سداد الوديعة بالشيك المصرفي. وتكمن رمزيّة قرار محكمة التمييز في كونه قراراً نهائيّاً لا يقبلُ المراجعة أو الطعن، بعدما استنفد المصرف جميع سُبل الاعتراض والاستئناف في مراحل سابقة، قبل أن تصل القضيّة إلى أعلى سلطة اعتراض، أي محكمة التمييز. 

التطورات القضائيّة نتيجة عرقلة الحلول

سيكون المصرف أمام خيارين، إمّا أن يبادر إلى سداد قيمة الودائع المشمولة بهذا القرار، والتي لا تتجاوز قيمتها الـ100 ألف دولار أميركي، أو أن يتم استكمال معاملات التنفيذ على موجودات المصرف لتحصيل قيمة هذه الودائع. أي بصورة أوضح، بيع بعض الأصول لتحصيل المبلغ. وهكذا، جاءت خطوة إقفال الفروع المصرفيّة كتمرّد مصرفي على قرار سداد قيمة الوديعة، عبر إعطاء رسالة مفادها أنّ هذا النوع من القرارات سيعني عرقلة الحركة الماليّة ووقف الخدمات المصرفيّة، بدل أن يتم السداد الفوري كما ينص القرار. 

في جميع الحالات، يدرك القاصي والداني أنّ القرار القضائي الأخير لا يمكن أن يمثّل وحده- وإن تكرّر لاحقاً- باباً للحل النهائي للأزمة المصرفيّة، في ظل فقدان الملاءة الذي يعاني منه القطاع. بصورة أوضح، من المعلوم أن نوعيّة الأزمة المصرفيّة القائمة، أفضت إلى تبديد أكثر من 73 مليار دولار من قيمة الودائع في القطاع المصرفي، والتي يقارب حجمها اليوم حدود الـ95 مليار دولار. وهذا النوع من النكبات المصرفيّة الكبرى، لا تمكن معالجته إلّا بمسار شامل لإعادة هيكلة القطاع ورسملته من جديد، وهو ما يفترض أن يبدأ أوّلاً من عمليّة التدقيق في ميزانيّات القطاع لفهم مصدر هذه الفجوة في الميزانيّات وتوزيع المسؤوليّات.

وبذلك، تصبح التطوّرات القضائيّة، على أهميّتها الشديدة، مجرّد نتيجة طبيعيّة لعرقلة الحلول الشاملة، بل وتصبح من عوارض التأزّم، بدل أن تكون حلاً نهائياً بذاتها، وإن تمكّن المودع من خلال هذه القرارات من تثبيت حقّه القانوني إلى حين التوصّل إلى المعالجات الملموسة. أمّا الإقفال الشامل الذي يقوم به “فرنسبنك” اليوم، فليس سوى محاولة مضادّة للضغط على القضاء اللبناني، والحؤول دون إصدار المزيد من هذه القرارات. وهذا تحديداً ما يذكّر بما قامت به المصارف خلال شهر آب/ أغسطس 2022، حين أعلنت جمعيّة المصارف عن إضراب مصرفي شامل رداً على قرارات قضائيّة مماثلة. 

وبهذه الصورة، لم تكتفِ المصارف بعرقلة الحلول الفعليّة الشاملة فحسب، عبر دورها النشط على مستوى عرقلة مسار إعادة هيكلة القطاع والسير بخطّة تعافٍ شاملة، بل تذهب اليوم إلى البحث عن الأدوات التي تسمح لها بتحصين وضعيّتها القانونيّة، في ظل تمنّعها عن السداد للمودعين. المطلوب ببساطة، الإبقاء على الوضع الراهن كما هو، دون أي معالجة لكتلة الخسائر الموجودة في القطاع، والتي يدفع ثمنها المجتمع بأسره، ودون تمكين المودع من اللجوء إلى القضاء لتثبيت حقّه القانوني في ظل هذا الوضع غير الطبيعي.

تتواصل حملة التطبيع مع الانهيار اللبناني، وتحديداً من خلال الإطاحة بكل سبل الحل المطلوبة من لبنان للخروج من الأزمة لحماية مصالح حلقة ضيّقة من النافذين ماليّاً وسياسيّاً.

عرقلة تنفيذ شروط صندوق النقد

البحث عن سلّة الحلول الشاملة، يقودنا تلقائيّاً للسؤال عن مصير التفاهم المبدئي مع “صندوق النقد الدولي”، الذي تمّ توقيعه على مستوى الموظفين في نيسان/ أبريل من العام الماضي، وعلى أساس خطّة تعافٍ عمل عليها الوفد اللبناني المفاوض مع بعثة الصندوق. وكان يفترض بحسب ذلك التفاهم أن ينجز لبنان مجموعة من الخطوات، حتى يتمكن من توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق، والدخول في برنامج تصحيح ماليّ متكامل، بما يسمح للدولة اللبنانيّة بالحصول على “شهادة حسن سلوك”، تعود بموجبها إلى أسواق المال واستقطاب الاستثمارات وإعادة الانتظام إلى الاقتصاد المحلّي.

 يومها، رسم هذا التفاهم مساراً للحل، يبدأ من تدقيق محاسبي لميزانيّات أكبر 14 مصرفاً، إضافة إلى ميزانيّات المصرف المركزي نفسه، للوقوف عند الحجم الفعلي لفجوة الخسائر، على أن توزّع المسؤوليّات في ما يخص هذه الفجوة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الخطوة كان يجب أن تمثّل الحجر الأساس في عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، نظراً إلى أهميّتها على مستوى فهم قيمة الأصول المصرفيّة المتبقية وتوزّعها على المصارف، وكميّة الرساميل التي يحتاجها القطاع للعودة إلى العمل بانتظام.

ونصّ التفاهم على وضع استراتيجيّة حكوميّة لإعادة هيكلة القطاع، مع قانون طارئ لوضع الإطار التشريعي لعمليّة إعادة الهيكلة. واشترط الصندوق، كجزء من خطّة التعافي المالي، تراتبيّة معيّنة لتوزيع الخسائر، تبدأ بشطب الرساميل المصرفيّة أولاً، وتحد من أي إنفاق من المال العام لإعادة رسملة المصارف، إلا ضمن حدود إعادة تكوين رأسمال المصرف المركزي نفسه. ونصّت الخطّة على عمليّة إعادة هيكلة تكفل سداد كل وديعة إلى أقصى حد، بما يضمن إعادة حقوق 88 في المئة من المودعين، بعد إعادة رسملة القطاع ومعالجة خسائره.

وإلى جانب كل ذلك، نصّ التفاهم مع صندوق النقد على جملة من الإجراءات الأخرى، كوضع استراتيجيّة لإعادة هيكلة الدين العام، وتعديل قانون السريّة المصرفيّة بما يسمح برفع السريّة أمام السلطات الضريبيّة والقضائيّة ولجنة الرقابة على المصارف. وكان يفترض- بحسب التفاهم- أن تعمل الحكومة على موازنة عامّة للدولة تصحّح الشوائب القائمة حاليّاً في السياسة الضريبيّة، وبالتكامل مع مسار لتوحيد أسعار الصرف.

بعد نحو 9 أشهر من توقيع ذلك التفاهم، لم يقدم لبنان على إنجاز أي شرط من شروط هذا التفاهم. فلم تكتمل حتّى اللحظة عمليّة التدقيق في الميزانيّات، فيما تم تفخيخ تعديلات قانون السريّة المصرفيّة وقانون الموازنة العامّة لإفراغها من أهدافها الأساسيّة. أمّا بالنسبة إلى القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والاستراتيجيّة الحكوميّة لإعادة هيكلة الدين العام، فلم يبصرا النور بعد، كما لم يبدأ المصرف المركزي بأي إجراء على مستوى توحيد أسعار الصرف. 

مصالح خلف العرقلة

باختصار، ما زال لبنان بعيداً من دخول مسار التصحيح المالي، وإعادة الانتظام إلى القطاع المصرفي، سواء ضمن اتفاق شامل مع صندوق النقد أو بدونه. وهذا الواقع، يتصل تحديداً بالهجمة التي تخوضها جمعيّة المصارف في وجه هذا المسار، والذي ظهر بشكل واضح في أدبيّات النوّاب والإعلاميين والمسؤولين الذين يدورون في فلك المصارف، تجاه التفاهم مع صندوق النقد وخطّة التعافي المالي. وكان يمكن بسهولة تلمّس العبارات التي تشيطن الاتفاق الأخير مع صندوق النقد خلال الأشهر الأخيرة، تمهيداً لتبرير الانقلاب المقبل على هذا الاتفاق.

في واقع الأمر، لا يحتاج المرء إلى الكثير من التحليل لفهم أسباب رفض النخبة المصرفيّة هذا الاتفاق، والذي يتصل قبل كل شيء بمعادلات توزيع الخسائر، ومصير رساميل أصحاب المصارف وملكيّتهم لمصارفهم. كما كانت واضحة أسباب امتعاض النخبة السياسيّة من هذا الاتفاق، الذي ينص على إجراءات لا تتناسب مع مصالحهم وحساباتهم، كمسألة رفع السريّة المصرفيّة وتسهيل كشف العمليّات الماليّة أمام السلطات القضائيّة والضريبيّة. باختصار، لم تنسجم شروط الحل التي طرحها صندوق النقد، والتي تمثّل أبسط المتطلّبات البدهيّة للخروج من دوّامة الانهيار، مع أولويّات الفئات الأكثر نفوذاً داخل النظامين السياسي والمالي. 

وبذلك، كانت البلاد خلال الأشهر الماضية تعود إلى سيناريو عام 2020، حين تم الانقلاب على الخطّة الماليّة التي وضعها لبنان بالتفاهم مع الصندوق، للأسباب والاعتبارات والمصالح نفسها. وكما دخل البلد يومها نفق السقوط الحر لثلاث سنوات متتاليّة، كان لبنان يستعد لدخول مرحلة مشابهة، عنوانها المضي بالانهيار دون أي مكابح، وبغياب أي رؤية لمعالجة الأزمات التي ضربت المصارف وقيمة العملة المحليّة والماليّة العامّة.

بو صعب ينطق بلسان حال المنظومة

لسان حال المنظومة، عبّر عنه نائب رئيس مجلس النوّاب الياس بو صعب، في لقاءاته الأخيرة مع إدارة صندوق النقد في الولايات المتحدة الأميركيّة. ففي تلك اللقاءات، التي كان يفترض أنّ تقيّم تقدّم لبنان في تنفيذ شروط التفاهم المبدئي مع الصندوق، صارح بو صعب إدارة الصندوق بالأسباب التي تعرقل تنفيذ الخطوات المطلوبة، والتي تتصل تحديداً بمعادلات توزيع الخسائر، التي طلبها الصندوق ضمن إطار خطّة التعافي المالي. 

لم يجد بو صعب مشكلة في طرح بديل لمشكلة الخسائر، يتبنّى بشكل واضح طرح جمعيّة المصارف، القائم على مصادرة أصول الدولة واستثمارها في إطار صندوق سيادي، تُخصص عائدات استثماره لإطفاء الخسائر المصرفيّة، بدل تحميل هذه الخسائر للرساميل. وهكذا، وبدل أن تخصّص الدولة عائدات المرافق العامّة لمعالجة أزمات النقد وشبكات الحماية الاجتماعيّة والمدارس الرسميّة والجامعة اللبنانيّة والمستشفيات الحكوميّة، وغيرها من النكبات التي رافقت تحلّل الدولة، سيكون لبنان قد رهن ثروات الدولة والمجتمع لعقود من الزمن لإعادة رسملة المصارف، وإعفاء النخبة الماليّة من تحمّل نصيبها من الخسائر.

وهذا الطرح، سيعني أولاً خداع المودعين، ورهن حقوقهم لعقود من الزمن بأصول عامّة لا تتجاوز قيمتها 20 ف المئة من قيمة فجوة الخسائر، التي تتجاوز قيمتها الـ3.6 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي. كما سيعني- بشهادة البنك الدولي- إطلاق أكبر عمليّة تركيز للثروة بيد القلّة، إذ سيسدد جميع المقيمين الرسوم، لمرافق ستُخصص عائداتها لإنقاذ حلقة ضيّقة من أصحاب المصارف وكبار الدائنين، من أجل تحييدهم عن عمليّة توزيع خسائر الانهيار. وأخيراً، سيعني هذا الطرح استكمال التحلّل الذي يجري اليوم على مستوى الدولة والمؤسسات العامّة، والإجهاز على إمكانيّة نهوضها، بعد حرمانها من جميع العائدات المحتملة من استثمار المرافق العامّة. 

وفي جميع الحالات، أبلغت بعثة الصندوق بو صعب أنّ طرحه- المستمد من جمعيّة المصارف- غير واقعي، بالنظر إلى نوعيّة الأزمة التي ضربت البلاد، والتي تحول دون استقدام أي استثمارات من الخارج قبل معالجة فجوة الخسائر بشكل تام. وبهذا المعنى، ما يطلبه بو صعب ليس سوى تطبيع مع الانهيار واستكماله لعشرات السنوات، بانتظار إطفاء الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع المصرفي، وهو ما لن يحصل أصلاً.

ما يحصل اليوم ليس سوى تطبيع مع الانهيار الحاصل، عبر الإطاحة بكل سبل الحل المطلوبة من لبنان للخروج من الانهيار، لحماية مصالح حلقة ضيّقة من النافذين ماليّاً وسياسيّاً. وفي الوقت نفسه، من الواضح أنّ أبو صعب بالتحديد يستكمل، بصفته نائب رئيس مجلس النوّاب، الدور الذي لطالما لعبه نائب رئيس مجلس النوّاب السابق إيلي الفرزلي، من خلال الدفاع عن مصالح هذه الفئة بالتحديد داخل المجلس، ومن خلال عمل اللجان واللجان النيابيّة المشتركة. أمّا إبراهيم كنعان، رئيس “لجنة المال والموازنة النيابية”، فيعيد لعب الدور التعطيل والتأجيل والمراوغة الذي أدّاه عام 2020، وهو ما ظهر راهناً من خلال الشعارات التي رفعها على هامش النقاشات المرتبطة بقانون إعادة هيكلة المصارف.