fbpx

هكذا حدّثني أبي عن الرياضيات والموسيقى

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مع مرور الزمن، صار الحديث عن الرياضيات والموسيقى موضوعاً اثيرياً بيني وبين أبي، نعود إليه كلما استطعنا إليه سبيلاً. هو لا يملّ من القراءة عنه، ولا أنا أكُلُّ من توجيه الاسئلة حوله. فكان دوماً يفاجئني، بمعلومات لا اعرفها، حتى بعد انْ أصبحت موسيقياً مُتخصصاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم أكن يوماً كارهاً للرياضيات والحساب، ولكن لطالما تملّكني في صغري شعور بالغَمِّ والهَمِّ عندما كان يحين موعد حصة الرياضيات في المدرسة. غَمٌّ من النوع الذي يُشْبِه النفور من أكلة غير مُستساغة، وهَمّ كالذي يُصيب المرء عند اضطراره إلى الاستحمام بماء بارد في فصل الشتاء.

والحق يُقال، بذل أحمد جهوداً مُعتبرة لتقريب البيْنِ وترطيب الأجواء بيني وبين الرياضيات، عامداً إلى إعطائي فيها دروساً خاصة بعد دوام المدرسة. من جهتي، بذلت الجهد طامحاً كحدٍّ أقصى لأنجح في هذه المادة المدرسية، مُستعيناً بمساعدته القيِّمة، بعد خيبةِ أملٍ في التفوُّق فًي الموضوع الأحب على قلبه. 

أحمد هو اسم أبي. وهو الذي لم يَعرف مهنة في حياته غير تعليم الرياضيات في المدرسة الثانوية، بعدما استقر نهائياً في لبنان عام 1965. لكن إلى جانب ذلك، كان يُجيد النجارة والسمكرة وكل ما يحتاج منزله من فكٍّ تركيب وصيانة. وبهذا المعنى، استحق لقب “هاندي مان” الوحيد الموْثوق به من زوجته. هذا وقد امتدت اهتماماته إلى الترجمة وتأليف الكتب و محاولات غير مكتملة لتعلُّم الموسيقى والعزف على الكلارينيت والترومپت.

لم يكن أحمد مجرد أستاذ بارع ومرموق، كما يشهد له زملاؤه وتلاميذه، بل بل كان أيضاً شغوفاً بالرياضيات وعاشقاً لها. حسبي أنه ما زال على عهده إلى الآن برغم مرور أكثر من عقدين على تقاعده من التعليم. فالرياضيات في كل فروعها شكَّلت محوراً لمسيرة حياته. واستناداً الى ما قاله لي يوماً؛ “الرياضيات أساس العلوم وجوهر كل شيء في هذا الكون اللامتناهي…”.

سألته مرةً عندما كنت صغيراً: بماذا تفيدنا الرياضيات يا أبي؟ نظر إليَّ مُجيباً: “الرياضيات موجودة في كل شيء. هي رياضة العقل والدماغ. وهي لغة تجريدية تحوي أرقام ومعادلات، من خلالها نطور فهمنا للظواهر الطبيعية والعلمية وحتى الجمالية”.

لم تكن قدراتي الذهنية وقتذاك، وأنا في الثامنة، كافية لفهم معنى هذا الكلام، إنما أحسست أن للرياضيات شأناً خطيراً وعظيماً. فقلت له: “ولكنها مملة الى حد النعاس…”، أجاب بعدما تأمل وجهي ملياً: “ليست مملة وغداً سأثبت لكل هذا”.

في اليوم التالي وجدته مُنكباً على رسوم هندسية. استفسرته عنها. أجابني مبتسماً: سأصنع لك ولإخوتك أسِرَّة خشبية جديدة بدلاً من القديمة الحديدية، وستكون مساعدي في هذه المُهمة التي ستمتد على مدى شهر، سنعمل أيام السبت والأحد فقط. سألته: “وكيف سأساعدك في هذا المشروع؟”، أجابني: “ستُدوّن لي كل العمليات الحسابية للمساحات والمقاسات المطلوبة وتُقدّمها للمراجعة لأُوافق عليها، كما ستساعدني في أعمال النجارة التنفيذية”. وافقت مُتحمساً!

أذكر أنه كان شهراً صعباً ولكنه ممتعاً، وقد خلُص إلى أمرين: الاول؛ ولادة أربعة أسِرَّة فردية جديدة في البيت، أمّا الثاني؛ فكان موت النفور الحاصل بيني وبين الرياضيات.

لم أكن يوماً كارهاً للرياضيات والحساب، ولكن لطالما تملّكني في صغري شعور بالغَمِّ والهَمِّ عندما كان يحين موعد حصة الرياضيات في المدرسة.

بين الرياضيات والموسيقى

في سنوات مراهقتي الاولى وعندما بدأ اهتمامي بالموسيقى يكبر، توجّهت مرة إلى أبي بالسؤال عن علاقة الرياضيات بالموسيقى. أذكر وقتها أنه كان يُصلّح اوراق امتحانات تلاميذه، مُستمعاً إلى موسيقى من مؤلفات جان سيباستيان باخ. ترك أوراقه جانباً وتحدث إليّ:

إذا اعتبرنا أنّ الرياضيات هي رياضة العقل، فالموسيقى إذاً رياضة الروح. وإذا افترضنا أن العقل هو غرفة المنطق والتفكير، فلا بد أن تكون الروح غرفة المشاعر والاحاسيس. غُرفتان منفصلتان إنما في منزل واحد. العقل والروح يتبادلان الرسائل والتجارب ويعملان بشكل منسجم ومُتّسق، وإنْ بدا لنا أنّ أحدهما منفصل عن الآخر. ولكن الحقيقة أنهما في وحدة جدلية لا نهاية لها. لا عقل بلا روح، ولا روح  من دون عقل. وقد يصُح الاستنتاج ايضاً أن لا موسيقى بلا رياضيات ولا رياضيات من دون موسيقى…

تعابير وجهي المندهشة جعلت أبي يستفيض في الحديث شارحاً:

قد يبدو من غير المنطقي أن نقارن بين الرياضيات وبين الموسيقى، فهما حقلان دراسيّان مُختلفان عن بعضهما البعض. ولكن يجب ألّا يفوتنا وجود الكثير من الترابط والتداخل الذي يجمعهما في الشكل والمضمون والأهداف.

يعود هذا الترابط والتداخل بينهما الى تاريخ بعيد نرجع به إلى اليونان القديمة حيث عاش عالم رياضي مشهور اسمه فيتاغورس (570- 495 ق.م)، وقد اكتشف انّ تغيّر طنين الصوت في الوتر المشدود يكون عكسياً تبعاً لتغيُّر طول الوتر. فكلما قصُر الوتر ارتفع الصوت حاداً وكلما طال انخفض غِلظةً.

نظرية فيتاغورس ارست علاقة متينة بين الرياضيات وبين والموسيقى بحيث أن تاريخ العلم في الموسيقى انطلق من هذه النظرية الأساس، مُنظِّماً لمقاييس رياضية للصوت الموسيقي والابعاد التي تحكُم السلالم الموسيقية ببعضها البعض. واللافت أيضاً أنّ دلالات الأعداد الصحيحة وكسورها والنِسب الرياضية للطول والوزن والزمن، تنطبق عملياً على قواعد الأوزان الموسيقية وإيقاعاتها وكيفية سيرها في الزمن، وحتى في كيفية صناعة الآلات الموسيقية.

تابع احمد حديثه: عندما نستمع الى قطعة موسيقية نراها تتألف من وحدات صغيرة patterns تترابط في ما بينها لتُظهِر نبضاً متكرراً. تأتلف مجموعة من النبضات لتُفْصِح عن جملة متكاملة phrase، كما في الكلام او الشِعْر. الجملة بحد ذاتها قد تتكرر لتخلق نمطاً محدداً، وقد تتغير لتكون تحويراً تفاضلياً أو تطويراً تكاملياً كما يحصل في الرياضيات. 

في الرياضيات هناك 10 رموز عددية، من صفر إلى تسعة 

(0,1,2,3,4,5,6,7,8,9)، منها تتشكل كل الأعداد الحسابية المُحتملة إلى ما لا نهاية. وفي الموسيقى ايضاً يوجد سبع رموز أساسية (do,re,mi,fa,sol,la,si) إضافة إلى علامة الصمت. من هذه الرموز تنبثق الموسيقى في تركيبات لا نهاية لها. في حين انّ أعداد الكسور اللامتناهية بين عددين صحيحين تُشبة إلى حد بعيد، الجزيئات الطنينية اللامتناهية والموجودة في بين صوتين.

العدد صفر مُعادل للصمت في الموسيقى. الصفر في الحساب هو اللاشيء إنما من دونه لا وجود للرياضيات، فهو يستولد الأرقام إلى ما لا نهاية. ومن دون الصمت ايضاً لا وجود للموسيقى التي بدورها تنطلق من الصمت وتعود إليه. الصمت من طبيعة لا نهائية، تماماً كما الارقام والاعداد. الرياضيات والموسيقى كلاهما يحتويان على مفهوم اللامُتناهي (The infinity). 

علم الجبر وباخ

لتفهم ما اقصد يا نبيل عليك الاستماع إلى موسيقى باخ، الذي اعتمد بالأساس على علم الجبر في الرياضيات، ليبرهن صحة الاعتماد على السلّم الموسيقى المعدّل major and minor وقواعد الانتقال بينهما، فلا بد أن تلاحظ في موسيقاه هذا الجنوح المحموم في الدوران بحركة هندسية حلزونية لا مُتناهية، ليس فقط في الميلودي والپوليفوني بل وحتى في التحوير والتطوير.

في موسيقى باخ قد تعثر على أعلى درجات التجريد الهندسي للصوت التي تُشبه إلى حد بعيد التجريد المُتأتي من سلاسل الأعداد الصحيحة وكسورها.

مع مرور الزمن، صار الحديث عن الرياضيات والموسيقى موضوعاً اثيرياً بيني وبين أبي، نعود إليه كلما استطعنا إليه سبيلاً. هو لا يملّ من القراءة عنه، ولا أنا أكُلُّ من توجيه الاسئلة حوله. فكان دوماً يفاجئني، بمعلومات لا اعرفها، حتى بعد انْ أصبحت موسيقياً مُتخصصاً.

حدّثني مرّة عن قاعدة رياضية مُكتشفة قديماً يُطلق عليها “النسبة الذهبية” the golden ratio وهي ظاهرة موجودة في الطبيعة تحدد مقاييس نِسب الكمال perfection. وقد جسّدها دافينشي في رسوماته البحثيّة للرجل الڤيتوري (vitruvian man)، كما في مؤلفات باخ الموسيقية للبيانو المُعدّل. قاعدة النسبة الذهبية نكتشفها ايضاً مجسّدة في المؤلفات الموسيقية ذات الشكل البنائي والهندسي من موزار إلى ديبوسي.

مرة أُخرى حدثني أبي عن عالم رياضي اسمه فيبوناتشي، اكتشف سلسلة من الأعداد لها ميزات هندسية وفنية في تشكيل الحركة الحلزونية في دورانها اللامتناهي. وهذا الشكل الحلزوني هو موجود في كل شيء في الطبيعة، وقد استعمله الموسيقي الهنغاري بيلا بارتوك في بعض مؤلفاته الموسيقية، وموجود ايضاً في الموسيقى الهندية القديمة وبعض الارتجالات في لموسيقى الجاز والبلوز.

سألته مرة، وكنا نتمشى على كورنيش البحر في بيروت، إذا كانت في الرياضيات قيم جمالية كتلك الموجودة في الموسيقى وكيف نعبّر عنها. فحدثني قائلاً: بالطبع هناك قيم جمالية لكنها مستترة وعصية على الاستبيان إلا من قِبل المشتغلين فيها. وقد يكون الأمر نفسه بالنسبة للموسيقى وجمالياتها. 

في التعبير عن هذه الجماليات رياضية كانت أم موسيقية  بكونها تجريداً للأعداد والمعادلات أو تجريداً للصوت، قد يصح استعمال كلمات مثل؛ البساطة، الانسجام والتنافر، التوازي والتقابل، التفاضل والتكامل. أوصاف محددة تحيط بنا احياناً أو تغمرنا احياناً اُخرى، وقد تأخذ شكل الفعل الإنساني، كأن تُحب مثلاً او تعانق أو تُشفى من مرض مميت.

عندها حدثني أبي عن تجربة صعبة عاشها في منتصف السبعينات. كان وقتها في عز شبابه وعطائه، اكتشف أنه مصاب باللوكيميا.

 فبدأ علاجه في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان يدرس فيها لنيل شهادة الإجازة في تعليم الرياضيات. وقد أشرف على علاجه الطبيب فيليب سالم، الذي جرب على حالته دواء جديداً لم يكن قد حصل على ترخيص بالاستعمال بعد. وكانت النتيجة أن شُفي تماماً من المرض وبشكل نهائي.

 كُنّا صغاراً، أخوتي وأنا، ولم نعرف إلّا القليل عما حصل في حالة والدي الصحية. فاجئني أبي بحديثه عن قصة مرضه وكيف شُفيّ منه. حديثُه أتى مُفصّلاً من البداية الى النهاية. لم يَعْزُ شفائه الى اعجوبة ما، بل الى الحب الذي أُحيط به من زوجته أولاً، وعائلته الكبيرة ثانياً، ومن طبيبِه الشاب ثالثاً الذي أصبح مشهوراً في وقت لاحق. لا ينسى أبي ما قاله الطبيب له بعد ثبوت شفائه من اللوكيميا: يا أحمد أنت إنسان محظوظ، وقد شفيت لأنك محاط بالكثير من الحب. فاذهب وعِشْ الحياة من جديد.

في نهاية حديثه عن تجربته الصعبة خلُص والدي إلى إفادة مُلْفِتة حول الجمال قائلاً: صحيح أنّ الجمال موجود في الفن والموسيقى والعلوم والرياضيات، إلا أنّه جمال جُزئي ونسبي، نُجهد أنفسنا لرصد شذراته المُجردة، في حين أنّ الجمال الكلّي الحقيقي موجود حولنا في تفاصيل جانبية قد نعتبرها بدهية وغير مهمة.

أقول لك الحق؛ لتشعر بجمالية الصوت اللامتناهي، الصادر عن موج البحر ليس بالضرورة أن تكون على معرفة بجمالية البعد الخامس التام لصوتين موسيقيين. كما لن تكون بحاجة إلى معرفة خصائص العدد “پاي” لتكتشف الجمال الكامن في مشهد يحتوي على خطوات ثلاث: اولاً؛ خطواتي مع ظهري المُنحني الى الأمام، ثانياً؛ خطواتك مع ظهر مستقيم، وثالثاً؛ الخطوات المتأرجحة لهذا الطفل الذي نراه سوياً أمامنا مع اُمه التي يبدو الفرح على وجهها.

ختم أبي حديثَه قائلاً: هي الجماليات الجانبية collateral aesthetics التي يُستحسن رصدها واستشعارها والتمتع بها أثناء سيْرنا نحن البشر بخطوات لا متناهية، على وتر مشدود، تبدأ من نقطة (أ) الولادة وتنتهي بنقطة (ب) الموت. هو وتر الحياة، حياتنا، التي يتحتم علينا أن نعيشها حتى الثمالة.