fbpx

اللاذقية: عن الساعة الأولى بعد التقاط الشحاطة للركض

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لبِسَ السوريون أكياس نايلون وشحاطات مبتلة وجافة حسب صنعها، رأيت أناساً يمزقون أكياس قمامة ليلبسوها. فقد الساحليون روعهم، لقد مسوا الموت، لم تظهر الدولة أبداً، لا سيارة إسعاف واحدة أو إطفاء، لا شيء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كانت درجة الاهتزاز تساوي أن يخلع أحد ما ضرساً، بفارق أن يكون جسدك كله ضرساً، شيءُ ما يخلعك تماماً. السؤال الأول الذي تبادله الجميع: “كيف حسيت؟”.

تحتاج بداية الزلزال الى لحظة حسية يختبرها الفرد لاكتشاف ما حصل بالضبط. يبدأ الجميع عادةً إجابته عن سؤال “كيف حسيت ؟”، بالحديث عما  يحلم به، فالزلزال ضرب المدينة ليلاً، ومساحة الأحلام تكتسب من الواقع أيضاً، إذ نأخذ شعورنا الواقعي الجسديّ إلى باحتنا الحلمية، التي تترجمه إلى معنى مختلف داخل الحلم.

كل من سألتهم عن بنية أحلامهم ربطوها بمخاوفهم الأصيلة داخلهم، قال أحدهم :” حلمت بأن رجل أمن يوقظني بعنف فحاولت ضربه، ثم استيقظت لأرى الأرض تهتز”، رجل سبعيني قال لي: “حلمت بأبي يقول لي بعزم وهو يمسك يدي، تعال اقعد معي” . طبيبة عشرينية قالت: “حلمت بأن صديقاً لي يقول لي امضِ إلى المشفى سريعاً، هناك حادث سير”، جدة كبيرة في العمر قالت: “كنت أحلم بأن أحفادي يدفعونني لكي أركض معهم”.

أحلام كثيرة انتهت بتخيلات الحروب. قصف إسرائيل وأميركا لسوريا يشبه الأصوات التي خلقها الزلزال، بخاصة حينما ضربت إسرائيل بطائراتها مرفأ اللاذقية. كُثر ظنوا أن إسرائيل هزّتهم، فاطمأنوا وحاولوا الخروج من الحلم والعودة الى النوم، لكنهم لم يفلحوا في ذلك. إسرائيل لم تعد تزعج السوريين أبداً، لقد اعتادوا ضرباتها، وبالكاد تُشعر أي أحد بهمٍّ ثقيل.

بداية الزلزال خليط بين الاهتزاز وما تترجمه  الباحة الحلمية، لكن الواقع الصوتي في الثانية الخامسة يدفع الفرد الى الاستيقاظ بالضرورة. درجة الاهتزاز هائلة ومخيفة، وصوت الريح الماطر العنيف يجعلك تشعر بأنك في فيلم رعب، أو أنك تقرأ غضباً لزيوس على مدنه وعلى أثينا التي خرجت من رأسه. 

لا يمكن فهم ما جرى تماماً في تلك اللحظات، انقطعت شبكة الاتصالات، أمسك حوالى 500 ألف سوري في اللاذقية على أقل تقدير، بهواتفهم الخليوية للاطمئنان على أحبائهم. اندفع الناس الى الشارع، الى الأرض، إلى العراء الذي لا يُشعرك بصوت الصدى وارتجاج البيت كله، فأصوات الريح والزجاج المكسور والأعمدة الكهربائية والأحجار المتساقطة من عوارض النوافذ الخارجية، تقودك الى الهرب. ركض السوريون بأولادهم، بهوياتهم، وبعض الأموال.

“قال لي أبي خليني موت هون”، “قالت لي أمي خليني موت هون”… مقولات رددها من تجاوز عمرهم الستين أو السبعين عاماً، بدأت تميل غريزة الحياة لديهم إلى الملل، ليحضر شيء من غريزة الموت، وهذا فطري في نهاية مطاف الحياة. البعض حمل ذويه بالغصب، والبعض الآخر جلس مع أهله تحملاً لمشقة الهروب التي لا يمكن لعجوز أن يكابدها، أما الذين لديهم أولاد مرضى فجلسوا معهم مرتجفين، أو طلبوا مساعدة أحدهم لنقلهم الى الشارع. 

كانت الكهرباء مقطوعة في كل الساحل حين اهتزت الأرض، ولم يبادر النظام الى مد خطوط الكهرباء بالطاقة على رغم فجاعة الكارثة. رأيت أخوين يركضان من بيتهم نحو بيت ذويهم، لهما أخ مريض يحتاج الى نقله خارج البيت، بكى الأب الثمانيني والأم السبعينية لمدة ساعة كاملة تحت المطر ،أما الابن المريض فلم يظهر وجهه أبداً، دفن وجهه بين يديه.

صراخ الأطفال والنساء طوى صوت الريح، لكن الريح تنازلت عن صداها لتنقل أصوات الصراخ، كُسر زجاج البيوت، وتقافزت الخزائن راميةً حمائلها. إنها أكبر كارثة زجاجية عاشتها اللاذقية بالمطلق، تاريخ من الاكتناز القهري للتحف الزجاجية والصحون القديمة لسكان المدن، التي لم يقصفها النظام بصواريخه وبراميله،كُسر فجأة. أضحت المدينة مقبرة للزجاج والذكريات كلها.

تدافع الناس عبر الشوارع، ولم يلبس أي أحد ثياب الخروج، اكتفوا بما كان عليهم، البيجامات وشحاطات الصوف، والشحاطات البلاستيكة وبعض الحفاة. ترى في الشوارع اندفاعاً هائلاً للبشر من أبواب البنايات نحو الشارع. كل شوارع المدينة غارقة بالماء والوحل والأوساخ، تطوف اللاذقية دوماً بسبب الأمطار، النظام الذي يأخذ ضريبة نظافة من كل متجر وبيت، لا ينظف أي شارع ولا يفتح مجارير صرف المياه.  مصير ابن الساحل أن تضربه العاصفة والغرق والزلزال في وقت واحد.

رفع الأباء والأمهات أبناءهم عالياً، الماء بين أرجلهم ولا يريدون لأولادهم أن يبتلوا، سمعت امرأة تقول لابنتها : “ستمرضين، عندك مدرسة بكرا”، كان مشهداً غريباً، مزيج من الأمل والخوف، الأيدي مرفوعة هرباً من الريح والماء، تحمل الأطفال عالياً هرباً من قذارة الشوارع. كانت حركة الأيدي ورفع الأطفال أشبه بصلاة لإعطاء الأبناء لله. 

رأيت رجلاً بلباسه الداخلي يرفع أبناءه على كتفيه، ويضع سيجارة مبتلة وذائبة في فمه، وزوجته قريبة منه تفتح يديها وتوضّب جسدها وتغلق إبطيها نتيجة البرد وتصلّي. قرآن وإنجيل بأيدي الناس، بين أيدي ملهمي هذه الكتب التي يحملونها، لكن الفارق الطبقي يظهر سريعاً، جلس البعض في سيارته التي يملكها، أشعل المدفأة للأولاد، واندفع الباقي إلى الريح والعاصفة.

الشحاطة الأقرب إلى قلبي، التي أبكي وأنا أتذكرها، هي الشحاطة البلاستيكية المفتوحة من جوانبها، لا تبتلّ، تترك جلد القدم بحد ذاته يبتل، يقاوم البرد، فيدفع الجسد الى البرد والارتجاف الذي يعتاد عليه النفس، أما الشحاطة الصوف فتبتل وتشل القدم والجسد كونها تخزّن الماء وما يحويه من برودة.

وقف السوريون يتأملون الشوارع المظلمة والريح التي يقودها إلهٌ ما. لم يتوقف الزلزال من دون ارتدادات عمياء أخرى، بدأ الناس يتأقلمون مع غضب الزلزال، بعد ساعة من الهزة التالية للزلزال، مضى الرجال نحو البيوت ليجلبوا لباساً لهم ولأولادهم ويعودون بسرعة إلى الشارع. أما الأمهات، فاستعنّ بالجيران للوقوف مع أولادهن. رحلة الدرج السريعة لا تكترث بتحطم البيوت ومجازر الزجاج، إذ لا بد من العودة الى الأرض سريعاً، الزلزال لا يرحم. 

تنشقّ الأرض ببطء، تتفسّخ لتفعل فعلتها بِنا. هل بقي أحدٌ ما نائماً؟ لا، ما من أحد لم يشعر بالزلزال، وهذه فرادته، إنه فريد إلى حدٍّ يقودك الى الجنون، وإلى الظن بأن كل حركة تقوم بها هي من أثر زلزال. تعب الأطفال في الشارع من المطر الهائل والصقيع، فُتحت خزانات المياه على الأسقف والسطوح، لم يهدأ الماء أبداً، حتى الكلاب تعوي، أما القطط فاختفت ومضت نحو الحدائق. إخوتنا من حراس القمامة النائمون بقربها هربوا أيضاً، كان لدي رغبة في معرفة مصير من ينام قرب الحاويات السورية ويسترزق منها باحتلال المساحة المحيطة، أسأل نفسي، إلى أين قد يهرب؟ أين يهرب من يعيش بقرب القمامة ويعتاش منها؟

خفّ عُري الخوف، وبدأ حَمَلة الجوارب بالوصول من البيوت إلى أقدام تنتظر الموت أو توقف الأرض عن الاهتزاز. تصالح الناس مع خوفهم قليلاً بعدها، واحتاروا هل نرتجف من البرد أم من الأرض؟ كان الحل الطبيعي الاحتماء بمداخل البيوت، ثم التطلّع إلى الأجهزة الخليوية للاتصال بالإنترنت ومعرفة ما يجري. 

الاحتماء في مداخل الأبنية يكشف تصارع الأصوات، هناك امرأة على وشك أن يسقط جنينها، نحتاج سيارة إسعاف، ما من أحد نتّصل به، خلت البلاد من النظام تماماً، خلت من أي تمظهر للدولة، اتصلوا بطبيبة قريبة، ثم بطبيب، ولم نعرف الى الآن مصير المرأة.

مضى وقت طويل جداً، الغالبية غارقة في البلل، البعض انطلق إلى خارج حيه تماماً، الى كل فسحة، ووقف في المنتصف، تحت صدق المطر وغرقه، فالأهم الابتعاد من الأبنية التي ترقص.

كان لحافظ الأسد أن يمد يده الصنمية على إحدى أكبر الفسحات في المدينة، هناك تحيط به برك ونوافير مائية كثيرة ومتسخة وصدأة، وحافة رخامية طويلة مهيئة للجلوس، حافة مبتلة ومتسخة دوماً، جلس أمامه الناس وحمل بعضهم واقيات من النايلون أو مظلات ليحجبوا المطر، تمثال حافظ الأسد يبتل، ويجلس مواطنو ابنه على الفسحة الوحيدة المتّسعة التي يملكها صنمه في المدينة.

لبس السوريون أكياس نايلون وشحاطات مبتلة وجافة حسب صنعها، رأيت أناساً يمزقون أكياس قمامة ليلبسوها، أو ينهبون لوحات إعلانية وقعت على الأرض ليأخذوا منه النايلون السميك المطبوع بإعلان لطبيب أو مختبر أو متجر  ليحموا رؤوسهم. فقد الساحليون روعهم، لقد مسوا الموت، لم تظهر الدولة أبداً، لا سيارة إسعاف واحدة أو إطفاء، لا شيء حتى مراكز الشرطة قد فرغت.

شهدت الساعة الأولى من وقوع الزلزال، ثلاث هزات قوية، من الرابعة والثلث حتى الخامسة والنصف تقريباً. نام بعض الأطفال على الدرج، وبعضهم الآخر في السيارات، وآخرون أصيبوا بالذعر مع أمهاتهم. انتظر الجميع الضوء، فالصلوات في الفجر تبدو أقل ارتباكاً، نستفيد من انقشاع العتمة لتخيل الله في السماء لمناجاته من أجل ألا نهتز.

لم يصدر التلفزيون الرسمي ولا أي قناة سورية عبر الصفحات الاجتماعية بياناً، عرف السوريون ما جرى عبر الإعلام المكتوب والمسموع عن تركيا، هبوط الأبنية في ريف سوريا المجاور لتركيا وحلب جعلهم في مواجهة حقيقية مع زلزال وليس هزة.

لا يصدق هذا الشعب أحداً، لم يخرج في الأصل أي مسؤول سوري ليقول للناس كلمة واحدة، ولو خرج هل كان سيصدقه السوريون؟… بعد ساعة ونصف الساعة، سمعت صوت أول سيارة إسعاف، فدبّ الذعر وقرر الناس ترك البيوت، فاختاروا تباعاً الجوامع، الكنائس، المدارس والحدائق… إنه الظنُ المرضي لكل إنسان في اختيار مكان طقوسه الدينية، الاتساع والرهبة والمخيال البدئي ، يجعل الناس يظنون أن تلك الرحابة آمنة، فمضوا إليها.