عندما أخبرت زميلاً في العمل أنني ذاهب بعد أيام إلى باكستان للاستكشاف والسياحة، ردّ بجواب مقتضب، هو استفهامٌ أميل إلى استنكار: “شو فيها باكستان؟”، وإن كان سؤاله لم يغيّر من قناعتي الراسخة أن ما من بلد في العالم إلا وفيه ما يستحق الزيارة والتعلّم والمتعة والاستطلاع والفرجة والدهشة، فإن إرداف الزميل ذاته أنه زار ذاك البلد الجنوب- آسيوي قبل سنوات في رحلة عمل، أثار في نفسي مسحة ضئيلة من قلق.
فباكستان هي أيضاً ذاك البلد المتردّد دائماً على نشرات الأخبار، تارة نتيجة تصعيد مفتوح على احتمالات المواجهة مع الهند وصراعهما الأزلي على كشمير، وتارة أخرى بسبب تطوّرات في أفغانستان المجاورة لا يمكن عزلها أبداً عن إسلام أباد، وتارة ثالثة للحديث عن واحدة من جماعات جهادية عدة ولدت في جبال هذه البلاد وقرب حدودها المضطربة. إلا أنني ذهبت مستقصياً وجهاً آخر لبلد قضى فيه أسامة بن لادن وعبد الله عزام ونشطت فيه جماعات مثل “جيش محمد” و”لشكر طيبة” وغيرها، وعثرت هناك على ملامح أخرى فعلاً.
انطلقت من إسلام أباد، أنا وصديقي الباكستاني “شارك” وقريبه اسماعيل برفقة سائق يعمل لدى عائلة اسماعيل يدعى كوصار، وهو اسم من القرآن كما أكّد لي (سأكتشف بعد جهد أنه كوثر)، وصديقنا كوصار جندي سابق في القوات الخاصة الباكستانية، ويحمل معه ما يثبت ذلك، وهذا الإثبات ساعدنا على عبور حواجز الجيش في جبال إقليم غيلغيت بالتيستان. كانت وزارة الداخلية الباكستانية أصدرت قبل أيام من وصولي المزمع قراراً يقضي بضرورة حصول موظفي المنظمات الدولية والصحافيين وحاملي جنسيات بعينها، لا غربية ولا شرقية، على إذن لزيارة إقليمي غيلغيت بالتيستان، وجامو وكشمير، ولم أكن أملك وقتاً لاستصدار هكذا إذن، فكان أن توكلنا على العلي القدير باتجاه الشمال مشوبين بخوف من انكشاف أمري.
وصلنا وجهتنا الأولى في وادي هونزا بعد رحلة دامت يوماً كاملاً، رافقنا فيها أيضاً نهر غيلغيت وجبال في سلسلة كاراكورام من كل شكل ولون: خضراء تغطيها مزارع، وخضراء بغطاء نباتي، وجرداء ترابية، وجرداء صخرية، وأخرى تكسوها الثلوج. عدا عن شلالات تناثرت في بعضها، وزاد من غزارتها موعد الزيارة في بداية الموسم الربيعي (يضم إقليم غيلغيت بالتيستان لوحده أكثر من 20 قمة جبلية يزيد ارتفاعها على ستة آلاف متر).
سأترك للصور المرفقة مع المقال أن تخبر قليلاً عن مدى مهابة جبال كاراكورام وجمالها وعظمتها، وسحر وادي هونزا، على أن أتولّى قليلاً شرح بعضٍ ممّا فعلته في الوادي امتداداً للحدود الصينية- الباكستانية، فإلى جانب شراء عسل هو الأشهى مما تذوقه لساني وتناول كعكة الجوز التي تشتهر بها المنطقة، تمتّعت بصباحين متتاليين، من مقر إقامة يدعى “عش النسر” بمنظر قمة “إصبع السيدة”، وكذلك من على قمة تلة، تقول لافتة على مدخلها أن ملكيتها تعود للآغا خان، بمنظر عام للوادي والمدينة بجزئيها القديم والجديد، والذين كانا ضمن الإقليم المتمتّع بحكم ذاتي حتى قرر ذو الفقار علي بوتو إنهاءه عام 1974.
تضم هونزا، التي تقطنها أغلبية إسماعيلية وأقليتان شيعية وسنية، حصنين تاريخيين: ألتيت فورت وبالتيت فورت، أولهما عند أقدام هونزا مطلاً على ما تبقى من المدينة القديمة وسكانها البورشو، وثانيهما قلعة بالتيت، مرتفعة في نقطة كانت يوماً أعلى نقاط المدينة قبل أن يزحف العمران إلى مناطق أعلى وأعلى.
ومن وجهة نظر كل من شارك وإسماعيل، فإن المجتمع الهونزاوي يمتاز عن تجمّعات باكستانية أخرى بعيش أكثر مسالمة ونسب تعليم أعلى، ودعم تقدّمه شبكة الآغا خان للتنمية، ما لا يتاح لمدن وبلدات باكستانية أخرى.
من هونزا، توجّهنا في رحلة ذهاب وإياب دامت ساعات، إلى معبر خونجيراب على ارتفاع 4880 متراً على الحدود الباكستانية الصينية الفاصلة بين غيلغيت بالتيستسان من الجانب الباكستاني وإقليم كسينغيانغ الصيني، وهو المعبر الذي بات بحد ذاته وجهة لسياح أغلبهم باكستانيون وصينيون.
في طريق العودة من معبر خونجيراب إلى هونزا، مررنا أولاً بمعبر باسو الجليدي، مروراً عابر طبعاً إذ يحتاج تنفيذ مسير فيه إلى يوم كامل ومعدات وملابس خاصة ودليل من أبناء المنطقة، شروط لم يتوفر أي منها. ومن ثم توقفنا عند بحيرة بوريث، وهي بحيرة صغيرة يتطلب الوصول إليها عبور طريق ترابي جبلي لا يتسع إلّا لسيارة واحدة، ما جعل مرور حافلة صغيرة تقل أطفالاً قبالتنا معضلة طال حلّها. أجمل ما شاهدته في وجهتي الشمالية، وربما في باكستان بأكملها، كانت بحيرة أتاباد (عطا أباد)، وهي مسطح مياه فيروزية، هائل نتج عن انهيار أرضي عام 2010 مودياً بحياة عشرين شخصاً وغامراً قرى عدة، تمتد لنحو 21 كيلومتراً، قدر لها أن تختفي عن الوجود.
تعيش في إقليم غيلغيت بالتستان حيوانات من الأندر في العالم، منها نمر الثلج المهدد بالانقراض، وأنواع نادرة من الماعز، أبرزها ماعز ماركو بولو والماعز الأزرق، وكلاهما يعيش في الجبال ويملكان قروناً طويلة وملتوية، وبحسب دليل من أبناء الوادي فإن مغامرين غربيين يأتون بهدف ممارسة الصيد في هذه المناطق الوعرة، ويدفعون مبالغ هائلة قد تصل إلى أربعين ألف يورو من أجل السماح لهم بمحاولة صيد واحدة (أي إطلاق طلقة واحدة فقط) لأحد هذين النوعين من الماعز، هذا إن تمكنوا من العثور على أحدها (لم أتمكن من التوصل إلى معلومة موثقة ورسمية بخصوص أذونات الصيد وأسعارها).
الطريق الممتد بين إسلام أباد والحدود الباكستانية الصينية يبدو أشبه بمعجزة مدنية عمرانية حديثة، فالشوارع المعبدة والأنفاق تخترق جبالاً من الأكثر وعورة في العالم، هذا فيما الثلوج تغطي أجزاء واسعة من جانبيه أغلب فترات السنة، وهو جزء أساسي من المشروع الصيني الطموح “حزام واحد – طريق واحد”، والذي أعلنت عنه بكين عام 2013، بهدف تطوير وإنشاء طرق تجارية وممرات اقتصادية تربط أكثر من 60 بلداً، لتحيي طريق الحرير التاريخي (لم يغب عن ذهني ونحن نجاهد للوصول إلى معبر خونجيراب بسيارة رباعية الدفع عام 2017 تلك القوافل التي عبرت هذه المنطقة قبل قرون بالاعتماد على الدواب).
عدنا إلى إسلام أباد جوّاً من مطار غيلغيت، رحلة صباحية غير ثابتة الموعد، إذ يقرر قائد الطائرة صباحاً فيما إذا كان الطقس يسمح بإقلاع الرحلة التي ستمر عبر الجبال، بينما سلسلة الهيمالايا تلوح بالأفق.
غادر شارك عائداً إلى عمله في كراتشي، وكذلك فعل إسماعيل إلى مولتان، بينما بقيت لوحدي لاستكشاف المدينة التي بنيت في ستينات القرن الماضي لاستبدال كراتشي كعاصمة جديدة للبلاد. وهو ما يجعلها أقل كثافة بشرية من مدن رئيسية أخرى، وأكثر نظافة، بشوارع أكثر اتساعاً وأقل ازدحاماً.
المحطة الأولى في إسلام أباد كانت تلال مارغالا، وهي مجموعة غابات جبلية مشرفة على العاصمة، تضم طرقات للسير، اخترت أحدها مستمتعاً بمشاهدة منظر المدينة من علو حيناً وبعض الطيور البرية حيناً آخر وقردة تتنقل على أشجار التلال في أحيان أخرى، وحال هذه القرود أفضل بما لا يقاس من القرود المروضة و”الأسيرة” التي يستخدمها باكستانيون لتقديم عروض أكروباتية وفكاهية في الشوراع، والتي تحدثت وسائل إعلام عالمية عن حياتها القاسية في أكثر من مناسبة.
ثمة في تلال مارغالا نقطة لإطلالة بانورامية على إسلام أباد تدعى دامان إي كوه، يمكن منها مشاهدة مسجد فيصل، تحفة العمارة الإسلامية الحديثة، والذي كان محطتي الثانية في رحلتي في المتروبول الباكستاني. بني المسجد، الذي وضع تصميمه المعماري التركي فيدات دالوكاي على شكل خيمة بدوية، بمنحة من الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز سبعينات القرن الماضي، قبيل تولي الجنرال ضياء الحق رئاسة باكستان وتوثيق علاقات إسلام أباد بالرياض، وبالتالي زيادة التأثير الوهابي على المجتمع الباكستاني، بالتزامن أيضاً مع تزايد أعداد الباكستانيين العاملين في الخليج.
الجو العام في ساحة مسجد فيصل متسامح، ثمة أجانب وأطفال ومصلون وزوار وفضوليون، ملتحون ومحجبات، باكستانيات حاسرات الرأس يلتقطن “سلفي” مع إحدى المآذن، وطلاب دين من جنسيات مختلفة يتبادلون المزاح قبيل صلاة المغرب. من مسجد فيصل توجهت لتناول طعام العشاء في سلسلة مطاعم تدعى “عثمانية”، سائق التاكسي الذي أقلني تبادل معي الحديث خلال الطريق مرحباً بي كمسلم “براذر” في باكستان.
وصلت إلى المطعم، ودفعت الأجرة البالغة نحو دولارين، وعرضت على السائق، إن كان يرغب، أن ينتظرني كي يقلني إلى مقر إقامتي بعد العشاء، فوافق وابتسامة بعرض حبة من الكوسا ترتسم على وجهه. عدت إلى المنزل مع المسلم براذر نفسه ودفعت له دولارين آخرين تقريباً، فأعطاني رقمه مقترحاً الاتصال به إن كنت أرغب بأن يقلني لأي وجهة أرغبها صباح اليوم التالي. ولكنني لم أنتظر حتى صباح اليوم التالي، فما هي إلا دقائق حتى اتصلت به بعد أن اكتشفت أنني، بفطنة وذكاء مشهود لهما، دفعت نحو 4500 روبية باكستانية (40 دولاراً تقريباً) بدلاً من 450 (4 دولارات) لكن المسلم براذر، أغلق الخط وبعد معاودة الاتصال مرات ومرات وَعَدَ، مستخدماً إنكليزيته البسيطة، أن يمر صباحاً باكراً كي يعيد إلي المبلغ.
في الصباح لم يظهر السائق طبعاً، حاولت الاتصال فلم يجب، فأرسلت له رسالة أذكره بما هو حلال وما هو حرام كمسلم براذر تقي، فاتصل بي مؤكداً أنه سيمر بي مساءً. في تلك الأثناء توجهت (مستخدماً من الآن فصاعداً تطبيق “”كريم المشابه لتطبيق أوبر) إلى بحيرة راوال التي تتوسط العاصمة، وهي بحيرة صناعية ومصدر مياه للعاصمة وروالبندي المجاورة. وصولي باكراً أتاح لي رؤية جوانب غير شائعة لهذا المتنزه وتحديداً في ما يخص الطيور البرية وحيوان القندس الذي يعيش على ضفافها.
في الأماكن السياحية، ثمة مصورون بكاميرات احترافية، يلتقطون صوراً للزوار مقابل بضعة روبيات ويرسلونها لهم عبر بلوتوث أو عبر نقل بطاقة الذاكرة من الكاميرا إلى جوالات الزبائن، وإن كانت الكاميرات احترافية فإن المصورين ليسوا كذلك أبداً، وهو ما تأكدت منه عبر طلبي من أحد المصورين التقاط صور لي بكاميرتي الشخصية وشاهدت النتائج الكارثية.
عاودت الاتصال بالسائق فلم أجد تفاعلاً، فتناسيت الموضوع وتابعت استكشاف إسلام أباد متوجهاً إلى “نُصب باكستان” الذي يتوسط تلال شاكرباريان، ضارباً وجهتين بزيارة واحدة. يأخذ النصب، الذي تم افتتاحه بعهد رئاسة الجنرال برويز مشرف، شكل زهرة عملاقة نقشت عليها بعض معالم البلاد وصورة مؤسس باكستان وقائدها الأعظم محمد علي جناح واقتباسات لشاعر باكستان محمد إقبال. وهو يغطي مساحة نحو 3 هكتارات من تلال شاكرباريان الخضراء.
وفيما لم تؤت اتصالاتي ورسائلي إلى السائق بفائدة، توجهت إلى قرية سايدبور التراثية عند أقدام تلال مارغالا، قريةٌ تعود تاريخياً إلى عهد الحكام المغول المسلمين، وتضم معبداً هندوسياً مهجوراً وآخر للسيخ تم ترميمه وتجديده قبل أكثر من عقد من الزمان، إلى جانب مطاعم ومقاهٍ وغاليريات فنية. تزين أحد جدران القرية لوحة غرافيتي تصور علمين ضخمين لكل من باكستان وحليفتها التاريخية الصين. والحال أن الصحف اليومية الناطقة بالإنكليزية كانت تتحدث بشكل يومي عن مشروع “حزام واحد طريق واحد” الذي أطلقته بكين، مصورةً المشروع وكأنه طوق نجاة سيصعد بالبلاد درجات على سلم الاقتصادات العالمية، ومكيلة المديح للسياسة الصينية والشراكة معها.
في طريق عودتي إلى مقر إقامتي، كان لا بد لي من إشهار السلاح الأخير في وجه السائق، فبعثت له برسالة تضم كلمة واحدة: Police، وما هي إلا دقائق حتى كان المسلم براذر يعيد لأخيه المسلم أمواله، زاعماً أن التأخير ناتج عن إقامته في روالبندي المجاورة وانشغاله طيلة الساعات السابقة.
من عاصمة البلاد توجّهت بالحافلة إلى عاصمة إقليم البنجاب، جميلة جميلات مدن باكستان، لاهور، على الحدود مع الجار اللدود الهند.
في قلب لاهور التاريخي، تتموضع المدينة المسوّرة أو المدينة القديمة، التي يعود تاريخها إلى قرابة أوائل القرن الحادي عشر، وازدهرت بعدما باتت عاصمة للإمبراطورية المغولية، وبني فيها حصن بقيت بوابة عظيمة شاهدة عليه. داخل المدينة المسورة، تقع أيضاً مجموعة من أبرز معالم لاهور: مسجد بادشاهي الأحمر اللون، ومسجد وزير خان المزخرف الأخّاذ، وبوابة دلهي وحمام وزير خان وأسواق شعبية، مساجد ومبان تاريخية في كل مكان. وبالقرب من المدينة المسورة، نصب “منارة باكستان” التي بنيت في ستينات القرن الماضي في الموقع ذاته الذي اتخذت فيه “رابطة مسلمي الهند” ما عرف بـ “قرار لاهور” عام 1940 والذي كان أول دعوة رسمية لإنشاء دولة منفصلة ومستقلة لمسلمي “الهند البريطانية”.
ثمة موقعان في لاهور يتقاطعان في الكثير من خصائصهما المعمارية، بما يشمل المساحة الشاسعة والزخارف المذهلة والتصميم الفخم، وهما حدائق شاليمار، التي بنيت خلال عهد الإمبراطور المغولي شاه جاهان في القرن السابع عشر، ومقبرة جهانكير، حيث قبر الإمبراطور المغولي الرابع قريباً من ضفاف نهر رافي. وفيما يرتاد السواح المكانين للتمتع بأبهة العمارة المغولية الإسلامية، فإن الشبان واليافعين المحليين حولوا المقبرة تحديداً إلى ساحة مفتوحة لممارسة الكريكيت، ففي مختلف زوايا المجمع التاريخي الذي تزيد مساحته على كيلومترين مربعين، مجموعات من الشبان تمارس الرياضة الشعبية الأولى في البلاد. والحال أنه خلال جولتي الممتدة من شمال باكستان إلى جنوبها لم أشاهد أحداً يمارس كرة القدم، فيما الكريكيت تغزو الحدائق والساحات والمناطق الأثرية وحتى بعض الشوارع الرئيسية (شاهدت فتية يلعبون الكريكيت على طريق كاركورام الدولي المتجه إلى الصين، حيث الطريق هو الأرض المنبسطة الوحيدة وسط سفوح الجبال)!
وفي الطريق إلى مقبرة جهانكير، لا بد من المرور بمحاذاة قناة لاهور المائية، والتي تستحيل يوم الجمعة نهراً فيه من البشر والدواب أكثر مما فيه ماء.
في أقصى شرق لاهور، عند معبر واغا الحدودي مع الهند، تقام يومياً مع اقتراب الغروب، احتفالية إنزال العلمين الهندي والباكستاني، وهي احتفالية لا تخلو من تنافس وطرافة، وفيها يقوم جنود ضخام منتقون بعناية (نطلق على أمثالهم ألواح) باستعراض يتابعه متفرجون بنيت لهم مدرجات على جانبي الحدود، وعلى رغم أن هذه الاحتفالية تقام يومياً بالطريقة نفسها والتفاصيل ذاتها من دون أي تغيير، وعلى رغم أنه ليس ثمة فائزاً أو خاسراً، فإن الجماهير المحتشدة تطلق هتافات وتعبر عن حماسة قد يعبر عنها من يشاهد مباراة منتخبه الوطني في نهائي كأس العالم لكرة القدم.
لم أجد وسيلة للعودة من معبر واغا إلى الفندق، فتطبيق “كريم” للسيارات لم يعمل في تلك المنطقة البعيدة، فتشاركت توك- توك مع ثلاثة شبان من بيشاور (هما شقيقان وابن عمهما)، كانوا هم أيضاً في زيارة سياحية إلى لاهور، والشبان الثلاثة أبدوا دماثة استثنائية:
فإلى جانب إصرارهم الشديد على دفع الأجرة المتواضعة عنّي، بادر أحدهم فوراً إلى إعارتي شاحن الخليوي المحمول، ولم يتركوني في مركز لاهور المعتم إلا بعد أن اطمئنوا أنني استقليت سيارة أجرة عائداً إلى مقر إقامتي.
ومن لاهور، واصلت مسيرتي باتجاه مدينة الأضرحة التاريخية: مولتان. وصلتها بعد رحلة بالحافلة دامت أكثر من ست ساعات، وكان في استقبالي سائق أرسله إسماعيل كي يقلني إلى منزل عائلته. التقيت صديقي شارك، قريب إسماعيل، للمرة الأولى في هولندا، ولم يبد عليه أي اختلاف، شاب يتم دراسة الماجستير من عائلة تبدو ميسورة بعض الشيء. وفي باكستان التقيت إسماعيل للمرة الأولى، ولم يبد عليه هو الآخر أي اختلاف، شاب ينحدر من عائلة تبدو ميسورة كذلك. بعيد وصولي إلى منزل، أقصد قصر، إسماعيل بدأت فوراً أدرك أن الشابين إنما ينحدران من عائلتين هما سليلتا إقطاع موشك على الاندثار. يقع منزل إسماعيل في منطقة يقيم فيها ضباط كبار من الجيش الباكستاني، ولذا كان هناك حاجزان للجيش لا بد من عبورهما في الطريق.
“مسك ختام الرحلة كان عاصمة باكستان الاقتصادية وكبرى مدنها وعاصمة إقليم السند: كراتشي. وفيها أيضاً أقمت في منزل، أي قصر، عائلة شارك، وكان من سوء حظي أنه بجوار منزل قائد أركان الجيش الباكستاني ما جعل حركتي مقيّدة إلى حد ما”
تعمل عائلة إسماعيل في صناعة النسيج، ويقع المعمل الذي تملكه في إقطاعية شاسعة أشبه بمدينة صغيرة، ولم أدرك ذلك إلا حين أخبرني إسماعيل أنه كان يستعد لإعادة تعبيد الطرقات قبيل رحلتنا إلى هونزا. لم أفهم بداية كيف كان يستعد لإعادة تعبيد الطرقات وبصفته من، إلا أن الإدراك تسرب إلى دماغي رويداً رويداً بعدما أخذ يسهب في الحديث خلال جولة في السيارة في الإقطاعية- المدينة عن ذاك البناء أو تلك الساحة ومخططاته لتحويل طريق هنا أو إصدار قرار هناك. كنت أجلس بجانبه خلال الجولة وأنا أعيد على مسمعة أسئلة من قبيل: “أي أن هذا البناء ملككم؟”، ويعيد هو الجواب: “كل ما هو داخل هذه المدينة ملكنا”، لأشعر بعدها بالزهو والطرب.
تضم الإقطاعية- المدينة، في ما تضم، قرى الأطفال SOS التي بنتها العائلة كمساهمة مجتمعية منها، وتشرف عليها والدة إسماعيل، وفيها قضيت أمسية مع الأطفال اليافعين لأشرح لهم القضية السورية، بطلب من السيدة مهناز- والدة إسماعيل.
لم توفر لي عائلة إسماعيل الإقامة المرفهة فحسب، وإنما خصصت لي سيارة مع سائق لأزور ما أرغب في زيارته في مولتان. أربعة أضرحة صوفية وشيعية، تعود إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر، بطرازها المعماري المميز كانت محطاتي على مدى يومين: شاه ركن عالم، وضريح الشيخ الصوفي بهاء الدين زكريا، وضريح شمس الدين سابزواري، وضريح شاه علي أكبر.
مسك ختام الرحلة كان عاصمة باكستان الاقتصادية وكبرى مدنها وعاصمة إقليم السند: كراتشي. وفيها أيضاً أقمت في منزل، أي قصر، عائلة شارك، وكان من سوء حظي أنه بجوار منزل قائد أركان الجيش الباكستاني ما جعل حركتي مقيّدة إلى حد ما (المفرزة الأمنية المكلفة بحماية المنطقة أصيبت بما قد يكون إسهالاً في السيالة العصبية عندما شاهدوني أحمل الكاميرا وأغني بكل ثقة عائداً إلى مقر إقامتي)، ومن حسن حظي أن المنزل بجوار عدد من أهم معالم المدينة، وفي مقدمها قصر موهاتا ومتحفه، ومتحف مؤسس باكستان وقائدها الأعظم محمد علي جناح ومنزل. وقاعة الفرير التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن التاسع عشر خلال فترة الاستعمار البريطاني، وتضم مجموعة كبيرة من أعمال أهم فناني باكستان التشكيليين وخطاطيها صادقيان نقاش، إلى جانب السقف غير المكتمل، وهو عمل فني عظيم لصادقيان توفي الأخير من دون أن ينجزه. ويظهر السقف غير المكتمل واللوحات، تأثره الكبير بالثقافة الإسلامية.
شوارع كراتشي دليل حي على الحياة السياسية الصاخبة التي تعرفها باكستان، شعارات ولافتات إلى صور قادة الأحزاب الرئيسيين، من عمران خان لنواز شريف (رئيس الوزراء وقت الزيارة) مروراً بعائلة بوتو- زرداري وصولاً إلى إسلاميين كمولانا فضل الرحمن الذي يلقبه باكستانيون تهكماً مولانا ديزل، إضافة إلى حركة متحدة التي يتزعمها ألطاف حسين الهارب إلى بريطانيا منذ 1992.
لكن نقطتين علقتا في ذاكرتي أكثر من غيرهما في المحطة الكراتشية، مزار القائد الأعظم، والذي يضم ضريح مؤسس باكستان محمد علي جناح، حيث يحج إليه باكستانيون من كل حدب وصوب، وتحيط به هالة دينية، ويمنع داخله التصوير. أما المحطة الثانية فهي مطعم غولاتشي على ضفة بحر العرب (إياك أن تسميه المحيط الهندي في باكستان)، وهو المطعم الأكبر الممتد الذي شاهدته عيناي البنيتان في حياتهما، يمتد عرضاً لعشرات الأمتار ويرتفع عدة طوابق، وصلته برفقة شارك ومجموعة من أصدقائه قرابة منتصف الليل، ومع ذلك كان علينا أن ننتظر بعض الوقت لنجد مكاناً لركن السيارة، ووقتاً أطول حتى تفرغ إحدى الطاولات فيما أطباق اللحوم والمشويات وغيرها تقدم على قدم وساق في ذاك الوقت المتأخر.
ملاحظة: بالكاد أشرت، في تدوين رحلتي الباكستانية، إلى مطبخ البلاد وطعامها، والحق يقال إنني لا أجد في نفسي كفاءة أو موهبة تغطي هذا الجانب، إذ لم أعتد كتابة الشعر ولم يسبق لي أن امتهنت نظم القصائد.
المزيد من الصور التي التقطها الكاتب في باكستان على هذا الرابط
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع عمران خان أن يصلح باكستان حقاً؟
أم أسامة بن لادن: عبد الله عزام غسل عقل ابني