fbpx

هل تطبّع فرنسا علاقاتها مع دمشق بعد الزلزال؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحرص الكواكبي على ربط التقارب الفرنسي – السوري بتموضع باريس على الساحة الدولية: همّ فرنسا الأساسي هو المشهد الأوكراني، وعلى أساسه سيتم التعامل مع ملف العلاقة مع دمشق، سلباً أو إيجاباً، إذا ما فُتح.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شرّع حجم الأضرار الناتج من الزلزال الذي ضرب سوريا، أبواب الحديث عن تسييس النظام السوري هذه الكارثة الطبيعية “لإعادة تعويم نفسه”، وذلك عبر التحكم بالمساعدات الإنسانية، بصفته “المرجع الرسمي الوحيد في البلاد”، تمهيداً لفرض نفوذه على المناطق المنكوبة الخارجة عن سلطته، على أمل استعادة بعض من شرعيته الدولية.

ذهب الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو، أبعد من ذلك: ففي مقالة نُشرت في صحيفة Le Figaro بتاريخ 7 شباط/ فبراير، اعتبر مالبرونو أن الحدث المستجد قد “يغري إيمانويل ماكرون بالتقارب مع بشار الأسد”، مضيفاً أننا قد نشهد “زلزالاً دبلوماسياً” إذا ما تحوّل الزلزال الطبيعي إلى مدخل للتواصل بين باريس ودمشق.

طرح مالبرونو فرضيته هذه، معتمداً على مصدر داخل قصر الإليزيه كشف له قبل أيام قليلة من وقوع الزلزال، ما يدور في كواليس الرئاسة الفرنسية من قراءة للمستجدات في المنطقة. وفقاً لمصدر مالبرونو، لا ترغب فرنسا في أن “يفوتها القطار”، والمقصود هو التواصل القائم بين دمشق وعواصم عربية مثل أبو ظبي والقاهرة والرياض وعمان. علاوة على ذلك، أشار مصدر سوري للـ Figaro إلى المفاوضات الجارية مع أنقرة، التي “ألحقت ضرراً بسوريا أكثر من باريس”، ليضيف المصدر نفسه للصحيفة الفرنسية “إذاً، يمكننا أيضاً التفاوض مع باريس”.

أعاد مالبرونو التذكير ببعض المبادرات الفرنسية “الصغيرة” تجاه دمشق، مثل السماح باقتراع السوريين المقيمين في فرنسا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بخلاف انتخابات العام 2014. كما شدد مالبرونو على استمرار التواصل الأمني بين الطرفين، على رغم تجميد العلاقات الدبلوماسية منذ أكثر من عشرة أعوام، الأمر الذي ينسجم مع ما كشفت عنه منظمات غير حكومية، في كانون الثاني/ يناير الفائت، حول مراسلات بريدية بين محافظتي شرطة باريس و”غارون العليا” من جهة، والقنصلية السورية في فرنسا من جهة أخرى، “للتحقق من هوية شخصين والمضي في إجراءات الترحيل”. خطوة أكدت عدم تأثر التنسيق الاستخباراتي بالتقلبات السياسية والمطبات الدبلوماسية.  في المقابل، أعاد مالبرونو التذكير بالموقف الرسمي الفرنسي، الذي يشترط انخراط بشار الأسد في “عملية جدية لتسليم السلطة” قبل الشروع في أي تواصل معه.

شرّع حجم الأضرار الناتج من الزلزال الذي ضرب سوريا، أبواب الحديث عن تسييس النظام السوري هذه الكارثة الطبيعية “لإعادة تعويم نفسه”، وذلك عبر التحكم بالمساعدات الإنسانية، بصفته “المرجع الرسمي الوحيد في البلاد”

فرضية مالبرونو لا يمكن فصلها عما نشره وصرح به طوال السنوات الماضية، الى درجة يمكن اعتبارها أقرب إلى “التمنيات الشخصية”. وفقاً لمالبرونو، اتسمت السياسة الفرنسية “باللاواقعية”، لا سيما طرح معادلة “لا لداعش لا لبشار”. على خط مواز، حمّل باريس نصيباً كبيراً مما آلت إليه الأمور بعد “تحريضها المعارضة السورية على التحرك”، تاركة مهمة توفير المال والسلاح “لحلفائها الخليجيين الداعمين أيضاً للمجموعات الجهادية”. أرادت فرنسا “الوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ”، لكنها لم تلحظ، عن عمد، “الاستثناء السوري”.

في محطة أخرى، اعتبر مالبرونو أن السياسة الفرنسية تجاه سوريا “هيمنت عليها العواطف“: نيكولا ساركوزي سارع إلى نزع الشرعية عن بشار الأسد متجاهلاً تقارير الأجهزة الأمنية (المديرية العامة للأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن الخارجي) والدبلوماسية، التي أشارت إلى “قوة النظام”؛ فرنسوا هولاند تسّبب بـ “إهانة” فرنسا حين تأهب لتوجيه ضربة عسكرية الى النظام السوري رداً على استخدام الأسلحة الكيماوية، ليعود ويتراجع بعد تمنّع البيت الأبيض عن المشاركة.

وعاد مالبرونو بالزمن إلى العام 2005 مصوّباً على “الأخطاء الكبيرة” التي ارتكبها جاك شيراك، عقب اغتيال صديقه رفيق الحريري واعتبار ما جرى “استهدافاً شخصياً له”، ليتعامل مع الموقف بـ “منطق الثأر”. على الضفة المقابلة، أشاد مالبرونو بـ “واقعية فرنسوا ميتران” لعقده، في العام 1984، “ميثاق عدم اعتداء” مع سوريا على رغم اغتيال سفير فرنسا في لبنان، لويس دولامار، على يد مجموعات موالية لدمشق في العام 1981.   

يوافق الباحث المتخصص في الشأن السوري، توماس بياريه، على وضع مقالة مالبرونو في خانة “التمنيات”. ففي حديث إلى موقع “درج”، رأى بياريه أن باريس لن تحقق أي مكاسب تُذكر إذا ما أقدمت على خطوة كهذه. وفقاً للباحث الفرنسي، كانت لفرنسا مصلحة تاريخية من نسج علاقات مع سوريا، وتحديداً منذ الثمانينات، بسبب النفوذ الذي تمتعت به دمشق داخل لبنان. لكن الآية انقلبت اليوم: سوريا لم تعد “تحتل” لبنان، فيما يتمتع حزب الله بحضور عسكري على الأراضي السورية.  

صحيحٌ أن فرنسا تسعى إلى التأثير في الداخل اللبناني عبر الدفع إلى تبني برنامج إصلاحي، لكن سوريا ليست شريكها الأنسب إن لنفوذها المتراجع، كما لانغماسها في منظومة الفساد اللبنانية، والكلام دائماً لبياريه الذي أضاف أن حجة التنسيق الأمني ضد الإرهاب ليست بدورها سبباً كافياً لفتح قنوات سياسية مع النظام السوري، نظراً الى وجود أطراف أخرى أكثر فعالية في الميدان السوري، كالقوات الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية.

علاوة على ذلك، يقول الباحث الفرنسي إن قراراً كهذا يفترض تقييماً مسبقاً للواقع الدولي. في هذا الإطار، يطرح بياريه التساؤل التالي: ما الجدوى من تقديم هدية مجانية لموسكو في ظرف مشابه؟

أما إذا كان هناك من دافع للإقدام على مثل خطوة كهذه، سيكون محرّكها، بنظر بياريه، دولة الإمارات. بمعنى آخر، ستضغط أبو ظبي لتليين الموقف الرسمي الفرنسي حيال سوريا مقابل توطيد علاقاتهما الثنائية. يكمل بياريه قائلا إن هذه الفرضية مستبعدة بدورها: فالتقارب مع دمشق وفق هذا السيناريو يصب في مصلحة الخليجيين أكثر من الفرنسيين، كما تدرك فرنسا محدودية النفوذ العسكري والمالي الخليجي داخل سوريا مقارنة بأطراف أخرى مثل إيران وروسيا، ما يحيلنا مجدداً إلى فكرة “الهدية المجانية”. ولا يغيب عن بال بياريه التوقف عند التقارب السوري – التركي، الذي لا يزال في بدايته، ولأغراض انتخابية.     

بناءً على كل ما ورد وبعيداً من كون هذا التقارب المفترض مداناً أخلاقياً وفق بياريه، يعتبر الباحث الفرنسي أن المكاسب التي تستطيع باريس تحقيقها غير واضحة المعالم، وأن المحيطين بماكرون لديهم ما يكفي من العقلانية لينظروا إلى المشهد بإطاره الواسع لا الضيق، ما يدفعه إلى استبعاد السيناريو الذي طرحه مالبرونو. ويشير بياريه إلى وجود تباينات في الأوساط الدبلوماسية الفرنسية، بالتالي قد تكون الغاية من مقالة مالبرونو منح منبر للفريق المؤيد للتقارب مع دمشق، على رغم عدم هيمنته على القرار، مذكراً في الوقت نفسه بموقف الخارجية الفرنسية “المعادي” لبشار الأسد، وفقاً لبياريه.  

من جهته، أوضح مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، سلام الكواكبي، لـ “درج”، أن مالبرونو، كأي صحافي، قد يستقي معلوماته من أطراف مختلفة ولا يكتفي بالمصادر السياسية – الدبلوماسية. بالتالي، لا بد من الأخذ بالاعتبار عدم انقطاع التنسيق الأمني بين باريس ودمشق في معرض مقاربة ما ورد في المقالة المذكورة: المصادر الأمنية تولد انطباعاً بأن عودة الحرارة الدبلوماسية واردة جداً.  

يحرص الكواكبي على ربط التقارب الفرنسي – السوري بتموضع باريس على الساحة الدولية: همّ فرنسا الأساسي هو المشهد الأوكراني، وعلى أساسه سيتم التعامل مع ملف العلاقة مع دمشق، سلباً أو إيجاباً، إذا ما فُتح.

انطلاقاً من الواقع الدولي الراهن، يطرح مدير المركز العربي سيناريوهين اثنين: الأول، احتمال فتح باب المساومة مع فلاديمير بوتين على قاعدة “خذ سوريا وتخلَّ عن أوكرانيا”؛  فيما يتلخص السيناريو الثاني في التعاطي مع ملفي سوريا وأوكرانيا كحزمة واحدة بغية كسر روسيا في الميدانين على حد سواء.    

لا يخفي الكواكبي خشيته من “تقديم سوريا على مذبح المساومة”، على رغم اتخاذ الدبلوماسية الفرنسية “مواقف مشرفة” في محطات سابقة. سبب خشيته هو التخبط في سياسة ماكرون الخارجية التي وصفها بـ “سياسة الغباء المنظم”  لتجنب الأخير اتخاذ موقف حازم، معتقداً في الوقت نفسه أنه يلعب “بذكاء” على كل الحبال: دعم كييف مقابل التمسك بـ “عدم إهانة روسيا على رغم خطأ بوتين التاريخي”.  

من جانب آخر، يعكس طرح فرنسا سيناريو المساومة، برأيه، قصر نظر، لاعتقادها بإمكان تخلّي بوتين عن عمق روسيا الحيوي أو حتى عما حققه في سوريا من نفوذ عسكري (قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية). على خط مواز، يصف الكواكبي سياسة “فصل الملفات” بـ “الاستراتيجية الخبيثة”، إذ تتيح تسجيل نتائج عاجلة، بخلاف منطق الحزمة الواحدة التي تعطي هامشاً للمناورة على رغم نتائجها غير السريعة، لما ينتج منها من “كباش”.    

وتناول مدير المركز العربي، في حديثه لـ “درج”، لقاءاته المتعددة مع دبلوماسيين ورسميين فرنسيين على صلة بالسياسة الخارجية. برأيه، الجهاز الدبلوماسي الفرنسي على دراية بالخارطة السياسية الإقليمية أكثر من ماكرون “المتذاكي”، ما يدفعه الى التعويل على خلق توازن ما في آلية اتخاذ القرار الفرنسي. لكن هذا التصور لا يزيل خشيته بعدما لاحظ، طوال نشاطه الأكاديمي، أن الدراسات والأبحاث التي ينجزها عدد من المستشرقين والباحثين المتخصصين في المجتمعات العربية، لا تصل إلى جميع دوائر القرار.  فقصر الإليزيه مثلاً، يكتفي بطروحات المستشرقين الرسميين، مثل جيل كيبيل، الذين ينتجون أوراقاً بحثية من دون أي تعمق، وهو ما يروق للسياسات الحكومية.                                                                                       

لو أراد إيمانويل ماكرون اتخاذ خطوة كهذه في الظرف الحالي، لن يعجز عن إيجاد الذرائع اللازمة لتسويقها. ففي مناسبات كثيرة، صنّف الإعلام الفرنسي سياسة الرئيس الخارجية في خانة “الواقعية السياسية”.

على سبيل المثال، عندما وُجهت انتقادات الى ماكرون عند استقباله الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في العام 2020 ، على رغم مما يحوم حوله وحول نظامه من شبهات حيال ملف حقوق الإنسان، رد الرئيس الفرنسي بأن “سياسة متشددة من الحوار أكثر فعالية من سياسة المقاطعة، التي من شأنها تقويض جهود أحد شركائنا في محاربته الإرهاب وإحلال استقرار إقليمي”. حجة يمكن لماكرون استخدامها إذا ما أراد تبرير أي انفتاح على النظام السوري، لا سيما أن موازين القوى الميدانية لا تميل الى صالح معارضي الأسد.

وقد يعوّل ماكرون كذلك على ثلاثة عوامل داخلية: أولاً، التحديات الاقتصادية والمعيشية التي تدفع الرأي العام الفرنسي إلى إبداء اهتمام أقل بالسياسة الخارجية. ثانياً، التشديد على الواقعية السياسية الذي قد يلقى آذاناً صاغية في الشارع الفرنسي، بخاصة مع الانعكاسات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية. يضاف إلى ذلك عدم ممانعة جزء من أحزاب المعارضة الفرنسية والشخصيات المناوئة لماكرون، لهذه الخطوة، ما يعني المراهنة على عدم الدخول في كباش سياسي.   

يتّفق كلٌ من توماس بياريه وسلام الكواكبي على النقطة الأخيرة لناحية عجز الرأي العام الفرنسي عن عرقلة خطوة كهذه إذا ما اتُّخذت، وذلك استناداً إلى مواقف أحزاب المعارضة: من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار مروراً بأحزاب اليمين واليسار التقليديين، لا تنفك أحزاب وشخصيات فرنسية معارضة لماكرون تنتقد الموقف الرسمي الفرنسي إن في تصريحاتها الرسمية وحملاتها الانتخابية أو حتى عبر زياراتها الدورية لدمشق ولقائها الرئيس السوري.

صحيحٌ أن أصواتاً معترضة، من أطياف ومشارب سياسية متعددة، ستعلو رفضاً لهذه الخطوة إذا ما أقدمت عليها باريس، لكن من دون القدرة على “وضع العصي في دواليبها”. الوحيدون الذين سيدخلون في كباش مع ماكرون، وفقاً للكواكبي، هم بعض النخبة المحرومين من الثقل السياسي اللازم، بينما اعتبر بياريه أن معارضة الأكاديميين والمثقفين لن تتعدى إصدار البيانات وتوقيع العرائض.