fbpx

منصّة “بلّغ” العراقية “لمحاربة المحتوى الهابط” تثير الجدل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عندما رقصت “أم فهد” في أحد مدرّجات ملاعب بطولة كأس الخليج العربي 25 التي أقيمت في محافظة البصرة العراقية في مطلع العام 2023، لم تكن تعلم أنّها ستُستدعى إلى القضاء بحجة “نشر المحتوى الهابط” ويُحكم عليها بالسجن لمدّة 6 أشهر بعد تأكيدها في فيديو مصوّر احترامها القضاء واستعدادها للمثول أمامه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُنشر هذا المقال بالتعاون مع منصة “سمكس” للحقوق الرقمية، وهنا رابط المقال الأصلي.

توسّعت حملة وزارة الداخلية العراقية لتطال ناشطين/ات ومؤثرين/ات و صُنّاع المحتوى على وسائل التواصل، بعد تشكيل هيئة لمتابعة المحتوى الهابط المنشور على شبكات التواصل في 16 كانون الثاني/يناير 2023، وفق ما نشرت وكالة الأنباء العراقية. واعتقلت السلطات ناشطات وناشطين مثل العارضة عسل حسام، بالإضافة إلى المشاهير حسن صجمة، وسيد علي، وسعلوسة، بحسب قنوات عراقية مقربة من الحكومة العراقية.

وكانت وزارة الداخلية أعلنت عن إطلاق منصة “بلّغ” في 10 كانون الثاني/يناير 2023، وهي “منصة إلكترونية خاصة بالإبلاغ عن المحتويات المنشورة على مواقع التواصل، وتتضمن إساءة للذوق العام وتحمل رسائل سلبية تخدش الحياء وتزعزع الاستقرار المجتمعي”. كما نشرت الوزارة على قناة “يوتيوب” مقطعاً مصوّراً، لأحد ضباط الدولة يشرح عن سبب إطلاق المنصّة، ويخاطب المواطنين/ات الذين لهم الدور الأكبر في التبليغ عن “المحتويات الهابطة والتي تسيء للذوق العام، وتخالف العادات والتقاليد وتسيء للمؤسسات العسكرية”. واعتبر الضابط أنّ المحتوى “المنشور والذي سيُحارب لا يقل أهمية عن الجريمة المنظمة كونه يتسبّب بتخريب الأسرة العراقية”، بحسب تعبيره. 

كما أعلنت الوزارة في 13 شباط/فبراير عن تلقّيها 96 ألف إخبار عن “محتويات هابطة” عبر المنصة، توعّدت أيّ ضابط يثبت علاقته بناشري/ات “المحتوى الهابط” بإجراءات قانونية.

تعتمد وزارة الداخلية العراقية على نص المادة 403 من قانون العقوبات في العراق الصادر في العام 1969 والتي تنص على ما يلي: “يُعاقَب بالحبس مدّة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الأداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه او أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعتبر ظرفًا مشددًا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق”. 

منصّة لفرض الرقابة الذاتية؟


أحدث قرار الداخلية العراقية انقساماً في الآراء بين مؤيدين/ات ومعارضين/ات، لا سيما أنّ “ثمّة مخاوف من أن يكون للقرار تبعات، تلاحق منتقدي السياسة أو كاشفي الفساد في العراق، وأن يكون فرصة للتضييق على حرية الرأي والتعبير في العراق.

يقول المدير التنفيذي لشبكة “إنسم” (INSM) العراقية، حيدر حمزوز، في حديث لـ”سمكس إنّ “هذه الحملة تشكّل إنذاراً مبكراً يهدّد الحريات العامة لا سيّما على الفضاء الرقمي، كونها لا تستند إلى معايير محدّدة أو حتى مادة قانونية، كما أن عملية الإبلاغ واتخاذ القرارات ليست موكلة إلى خبراء/ات”. يصف حمزوز الحملة، ” بالانتقائية، والانتقامية، والرادعة”، ويؤكّد أنّها “تهدف إلى زرع الخوف لدى المدوّنين/ات الذين ينتقدون الفشل السياسي المستمرّ في العراق، وهذا ما أكده كتاب مجلس القضاء الأعلى“.

من جهته، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا خلال مؤتمر صحافي إن المعايير التي تستند إليها الجهات المختصّة هي “مدى الانتهاك القانوني، فالدستور العراقي كفل الحريات لكل المواطنين/ات ولكن تبقى هذه الحرية مقيدة بشرط ألّا تتعارض مع حريات الآخرين وسلامتهم/ن وحياتهم/ن”، وأكّد أن هناك لجنة مختصّة لفحص المحتوى وعرضه على الجهات الأمنيّة، المخوّلة بدورها عرضه على قاضي التحقيق الذي يقع على عاتقه اتخاذ الإجراءات القضائية المناسبة. 

علاوة على ذلك، فإنّ دور المنصة الرقابي بدأ مع بدء صانعي/ات المحتوى بالتبرّؤ من محتواهم/ن، وتقديم آخرين/ات اعتذارات إلى وزارة الداخلية، في حين أغلق كثير/ات منهم/ن منصاتهم/ن والتزموا الصمت خوفاً من الملاحقة، يضيف حمزوز.

أمّا بالنسبة إلى المخاوف من ملاحقة منتقدي السياسة وكاشفي الفساد، فيؤكّد مدير “إنسم” أنّ “هذا هو الهدف الرئيسي من الحملة، وهو ما ذُكر بصورة غير مباشرة في كتاب مجلس القضاء الأعلى الذي صدر في 8 شباط/فبراير 2023”.

في 12 شباط/فبراير، “طمأن” مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي الصحافيين/ات، في تصريح لإحدى وسائل الإعلام المحلية، إنّه “لا يوجد استهداف لشريحة الصحافيين/ات والإعلاميين/ات، إذ تستهدف حملة “المحتوى الهابط” بعض الأشخاص الذين أساؤوا استخدام مواقع التواصل الاجتماعي واساؤوا للشعب العراقي. أمّا الصحافيون/ات والإعلاميون/ات فهم محلّ احترام وتقدير”.

هذه الفجوة ومرونة أحكام المادة 403 من قانون العقوبات القديم قد تُستغلّ لتكميم الأفواه. يقول الصحافي والحقوقي العراقي، دلوفان برواري، لـ”سمكس” إنّ “المشكلة الرئيسية في العراق تتمثّل في الجهات القائمة على تفسير القوانين، والتي عادة ما تخضع لضغوط من الجهات المنفذة، بمعنى أننّ هذه المادة يمك أن تُؤوّل وفق رغبات الجهات المنتقدة، والتي قد تستخدمها في قمع الحريات”. وعمّا إذا كان قرار وزارة الداخلية العراقية ستتّخذ من منصّة “بلّغ” فرصة لمحاربة المنشورات الرقمية التي تكشف عن الفساد أو لملاحقة منتقدي السلطات في العراق، يقول برواري، إنّه “لا يمكن التكهّن بما ستفعله وزارة الداخلية العراقية في الأيام القادمة، ولكنّ مسألة الاستغلال واردة، لا سيما وأنّ القانون يشتمل على بعض المصطلحات التي يمكن تأويلها بتفسيرات واسعة”.

في السياق نفسه، يتخوّف الصحافي العراقي وصانع المحتوى، حيدر سفينة، في حديث مع “سمكس”، من أن “تتعامل الداخلية العراقية بانتقائية مع صنّاع/ات المحتوى الذين تربطهم علاقات مع جهات سياسية في العراق، بينما يُحارَب من ليس لديه/ا أي صلة سياسية مع أحد”.

ثمّة سؤال آخر يُطرَح حول ما إذا كانت السلطة العراقية تريد تقييد المداخيل المالية التي يجنيها صُنّاع المحتوى. في هذا السياق، يوضح برواري أنّ الهدف “ليس تقييد المداخيل المالية بقدر ما هو حصرٌ لنفوذ ’الفاشينيستا‘ الذين أصبحوا يتمتّعون بنفوذ كبير من خلال علاقاتهم ببعض المسؤولين والنافذين”.

ومع ذلك، يوافق الصحافيان في حديثين منفصلين لـ”سمكس على” أنّ قرار وزارة الداخلية ومنصّة “بلّغ” لا ينطبقان على المحتوى الكوميدي، وأنّ في هذه الخطوة إيجابيات مثل “محاربة العمل في الدعارة ومكافحة المحتويات التي تدعو إلى تعاطي المخدرات والمنشورات التكفيرية”. 

“بلّغ”: انتهاك لحقوق الإنسان


أثارت هذه الخطوة مخاوف من انتهاك حقوق الإنسان ومعاقبة المؤثّرين/ات وصناع المحتوى على وسائل التواصل، ويؤكّد على ذلك المستشار القانوني في البرلمان العراقي علي عمر، في حديث مع “سمكس”، إذ يشير إلى أنّ منصة “بلّغ” تعتمد على قانون لم يُحدَّث منذ 50 عاماً، وهو المادة 403 من قانون العقوبات في العراق الصادر في العام 1969. وفي ظلّ عدم إقرار قانون جرائم المعلوماتية بعد، وعدم وجود قانون متعلّق بحق الوصول إلى المعلومات، “سيُستغَلّ مصطلح النظام العام في المادة 403 كونها تحوي على عبارات فضفاضة”. 

ولدى سؤاله عن إمكانية الطعن أو الإستئناف بقرار وزارة الداخلية، يقول عمر إنّه “من الممكن أن يُصار إلى الاستئناف في حال وجود أصوات برلمانية معارضة للقرار، إضافة إلى الضغط أو اللوبي الذي يمكن أن تشكّله هيئة المجتمع المدني في العراق”.

يلفت المحامي محمد جمعة لـ”سمكس” إلى أنّ قرار الداخلية العراقية، جاء “بعد الفشل في تمرير قانون جرائم المعلوماتية في البرلمان العراقي، والذي كان يحتوي على عبارات فضفاضة، تؤثّر على حرية التعبير في العراق، فقد لجؤوا إلى إصدار المنصة، فالداخلية يحق لها والتي إصدار المنصات. ومع ذلك، فإنّ وامر التوقيف والاعتقالات ينبغي أن تصدر عن جهة قضائية”. 

“منصّة بلّغ “غير قانونية، كونها استندت إلى قانون عقوبات قديم عُدّل في الثمانينات في وقت لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، فالمادة القانونية لا تحدث عن النشر الإلكتروني، بل الرقابة على الكتابة، و المطبوعات والأفلام، وليس محتويات إلكترونية”، يضيف جمعة.

كما حذّر المحامي من أنّ القرار “مقدّمة لمستقبل خطير جدًا لتكميم الأفواه في العراق، وما يجري الآن هو إخراج مجرمين من السجن، والزجّ بآخرين/ات في السجن من دون مسوّغ قانوني”.

ويلفت حمزوز إلى أنّ “مؤسسة ’إنسم‘ ستعقد اجتماعات تنسيقيّة مع شركائها المحليين والإقليميين ومؤسسات المجتمع المدني في العراق بهدف توحيد الآراء بشأن رفض القرار وتشكيل لوبي ضاغطـ”.

وفي السياق نفسه، يقول المدير التنفيذي لمنظمة “سمكس”، محمد نجم، إنّ “القضاء في أغلب الدول العربيّة أصبح أداة بيد الأجهزة الأمنية، مطبّقاً رغبات السلطات في قمع الأشخاص الذين يريدون نشر محتوى أو رواية تختلف عن رواية السلطة”. 

“السلطات تريد محاكمة الناس على محتوى وسائل التواصل بينما تتغاضى عن الجرائم الكبيرة المرتبطة بالقتل والاغتيالات والتفجيرات”، يختم نجم.

“جعفر توك” ممنوع في العراق


جاء قرار وزارة الداخلية العراقية بالتزامن مع إعلان الصحافي اللبناني-الألماني جعفر عبد الكريم الذي يقدم برنامج “جعفر توك” على قناة “دي دبليو” (DW) العربية،  إلى إيقاف تصوير حلقة من برنامجه ومغادرة العراق لأسباب أمنية. وقبيل البدء بالتصوير، ظهر عبر تطبيق “انستغرام” تهديدٌ مباشر لعبد الكريم على منصة “إنستغرام”، من قبل حسابٍ تابع لإحدى الوسائل العراقية، يتّهم فيه المذيع بنشر “الشذوذ والانحلال وسط بغداد”، مع نشر مقاطع مصوّرة لحلقات سابقة من البرنامح تناقش قضية “المثلية الجنسية”. وفيما بعد، نشر عبد الكريم حلقته التي كان من المقرّر تصويرها في العراق، متحدثاً عن التهديدات التي تلقّاها.  حاولت “سمكس” التواصل مع مدير دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية العراقية، سعد معن، لسؤاله عن خلفية قرار الداخلية في محاربة “المحتوى الهابط”، إضافة إلى ما تعرض له الصحافي عبد الكريم في العراق، لكنّها لم تلقَ جواباً من الوزارة.

فبات ملاحظًا إلى إن الحكومات العربية كالعراق ومصر والسعودية تخلق ثقافة “المخبر” على وسائل التواصل الإجتماعي، وتُحفز المواطنين الموالين للسلطة على الوقوف بالمرصاد للمعارضين والنقادين للسياسات الحاكمة، مما يخلق حاجزًا لدى المغردين والناشرين والمدونين على الشبكات الإجتماعية.