fbpx

كيتش المساعدات الإنسانيّة: قراءة سيميائيّة في لحظة غير مناسبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مضى أكثر من أسبوع على الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، عدد الضحايا تجاوز الـ35 ألفاً، ولا نعرف عدد من هم تحت الحطام، المساعدات الإنسانيّة تتدفق من كل مكان، وتواجه صعوبات في الوصول إلى المناطق المنكوبة، وكلما توقفت شاحنة على حاجز أو معبر، تدفقت الاتهامات، النظام السوري يُسيس المساعدات ويمنع وصولها لمن هم خارج طاعته، تركيا تعرقل دخول بعض الشاحنات، أماكن المعارضة يشاع أنها ترفض المساعدات من “مناطق النظام”. نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

ضمن كل ما سبق، لا مكان للكتابة عن الكيتش، أو بصورة أخرى، ليست هذه اللحظة المناسبة، حرفياً ما زال الناس تحت الأنقاض، لكن، خاض الكثيرون سراً وعلناً، في غرف التحرير ووسائل التواصل الاجتماعي، نقاشات عن صور الأطفال الموتى، وعن صور الجثث، وبدأت تحليلات المهندسين عن الأبنية التي انهارت والتي لم تنهار، الصور لم تعد مجرد “وثائق”، هي أسلوب لمساءلة الإنسانيّة، حقوق الأفراد، الدعاية السياسية، وكل الكلام الذي نعرفه، لذا، أظن أنه يمكن الكتابة عن الكيتش.

لن نغوص في تعريفات الكيتش (الكلمة الألمانية ذات المعاني المتعددة لكنها في مجملها تقارب تعريف الابتذال)، لكن يمكن رصد معانيه حين تأمُّل صور شاحنات المساعدات التي تصل إلى سوريا، بصورة أدق اللافتات التي تعلق على مقدمة الشاحنة للتعريف بـ”هويتها”، ومصدرها ومن أرسلها وإلى من. الكيتش هنا، من موقف جماليّ – سياسي، رسالة شديدة الوضوح، لا حاجة الى النقاش حولها، تخدم غرضاً واحداً ودقيقاً، هذه الشاحنة من أ إلى ب،  فلا حاجة الى التفكير، كل شيء جاهز وواضح، كل العلامات السيميائيّة ذات معنى واحد، لا تأويل إلا خارج إطار اللافتة، مع ذلك، هناك داخل الإطار أحياناً، مفارقات من الصعب تجاهلها.

نحن أمام مأساة تكشف أقبح ما في البشر، وفي الوقت نفسه، أجمل ما فيهم، اللهفة، أن تهرع لمن لا تعرفه إنقاذاً لحياته.

شاحنة نهر البارد: “لبيكي يا أختاه… نحن خدامك”

أرسل سكان مخيم نهر البارد الفلسطيني في لبنان شاحنة مساعدات، اللافتة أمامها تحوي علم سوريا الرسمي يقابله علم فلسطين وتحته علم لبنان بصورة شفافة، لا نعلم إن كانت الشفافية خطأ في التصميم، لكن لها معنى، عدم إتقان التصميم هنا، يحيل إلى أن الشاحنة ذات هوية مختلطة “فلسطينيتها” أوضح من “لبنانيتها”.

صورة الفتاة والطفل تحت الأنقاض، تقابلها صورة الفدائيّة، الملثمة، ذات الكحل، هناك ما هو نسوي في هذه الرسالة، صورة الفدائية هنا في سياق الإنقاذ تشوّش معنى الصورة، الأطفال تحت الأنقاض بسبب الزلزال، لا بسبب العدوّ، ولا توجد أي علامة لهلال أحمر أو صليب أحمر أو أي شيء من علامات “الطب” المشهورة، هناك فدائيّة فقط.

شعار الحملة لافت “لبيكي يا أختاه…نحن خدامك”، إذاً نحن أمام واجب ديني من نوع ما، أطلقت الفتاة النداء، و “فزعت” الفدائية لإنقاذها. الفتاة نجت، لن نشير إلى اسمها أو مكان وجودها في سوريا، لن نسيس الموضوع، علماً أن الأعلام لوحدها تكشف الأمر.

الغريب في اللافتة، وجود أرقام هواتف مع أسماء أصحابها، لا نعلم الفائدة منها، هل نتصل بهم؟، هل نشكرهم ؟ هل نطلب المزيد؟، ناهيك بأنها موجودة في الخانة ذاتها التي تحوي عبارة “اليوم يقبل منا مثقال ذرةْ… وغداً لن يقبل منا ملء الأرض ذهباً”، لا نعلم بدقة مصدر العبارة، لكنها ترفق حين البحث عنها بآية “وافعلوا الخير لعلكم ترحمون”، أي نحن أمام واجب إلهي، هناك نوع من النجاة الذاتيّة، نقدم المساعدات، الآن، لأن غداً (يوم الحساب) لن يقبل منا شيء.

الفدائي إذاً يقوم بواجب إلهي لإنقاذ طفلة سوريّة عالقة تحت الأنقاض، وترك رقم هاتفه كي نتواصل معه لاحقاً.

شاحنة حزب الله: ” من الشعب اللبناني المقاوم…”

لافتة شاحنات الحزب التي توجّهت نحو سوريا مختصرة، لا حاجة الى الكثير من البهرجات حولها، حتى من دون كلمات، “علم الحزب” إلى “علم سوريا” وهنا المفارقة، لا يذكر اسم حزب الله الصريح، يظهر ضمن الشعار، فالمكتوب هو “من الشعب اللبناني المقاوم إلى الشعب السوري الشقيق”.

طبعاً، لا نعلم بدقة من هو “اللبناني المقاوم”، ولا “السوري الشقيق”، كلمات غامضة تلوّثها السياسة في حال شُرحت، لذا اكتفى الحزب بالعموميات، من علم إلى علم، من سيادة إلى سيادة أخرى، مع هاشتاغ صغير “سوريا­­_نحن_ حدك”، من نحن أيضاً، غامضة.

لا يستوجب الكيتش أي إجابة، هو بحد ذاته يعمل على المستوى الأول من المعاني، وهنا اللافت، لا يوجد علم لبنان على اللافتة، إذاً هي “مساعدات” من فئة محددة، إلى فئة محددة أخرى، لا يوجد ما يشير إلى لبنان سوى كلمة “لبناني ومقاوم”، غياب العلم هنا ذو معنى، أي هل اللبناني الذي لا يقاوم  غير مشمول؟.

قافلة عشائر دير الزور: أنقذوا الشمال السوريّ

حملة هنا سوريا التي تشكلت شرق البلاد، أرسلت عشرات الشاحنات التي أوقفت على المعابر، وتحمل هاشتاغ أنقذوا الشمال السوري، في إحالة إلى المناطق المحررة، حسب فيديو يطالب بفتح المعابر كي تصل الشاحنات إلى “منبج وغيرها”، لمساعدة “إخواننا المنكوبين”، يمر اسم مدينة جبلة في الفيديو، في النهاية الفزعة للكل لفظاً لا رمزاً لرصده على اللافتة.

الصورة على اللافتة من الدمار شمال سوريا، لا تحوي علم أي جهة أو منظمة، فهذه التبرعات من السكان، وليست من المنظمات حسب من يطالب بفتح المعبر، ويؤكد أنهم، أي القائمون على الحملة، لا علاقة لهم “لا بسين ولا بجيم”.

اسم “عشائر دير الزور” ذو حمولة تاريخية، لا تتعلق فقط بالثورة السورية، بل تسبقها نحو تاريخ من الصراعات مع نظام الأسد والمكونات السكانية في المنطقة، وهنا اللافت، هناك نوع من الحميّة في هذه اللافتة، لا مكان للأعلام ولا السيادات المتصارعة، سلطة العشيرة تظهر، عبر كلمة عشيرة نفسها.

قافة الإدارة الذاتية: لا شعار إلا الإدارة الذاتيّة

سهّلت الإدارة الذاتية مرور شاحنات المساعدات من مختلف المناطق، وقدمت شاحناتها الخاصة بالتعاون مع الهلال الأحمر الكردي، لكن اللافت في شاحنات المساعدات أن اللافتات الموضوعة عليها لا تحمل أي شعار سوى شعار الإدارة الذاتيّة، لا أعلام، لا عبارات طنانة، ولا أي شي يلفت الانتباه، لكن مكان توجه الشاحنات محدد، نحن أمام “قافلة المساعدات للمناطق المنكوبة في حلب”، وأخرى “شمال غربي سوريا” وكأننا رمزياً، أمام غياب الاعتراف بأي دولة أو جهة سوى الإدارة الذاتية ذاتها، التي إن أمعنا النظر في اللافتة، نتأكد من أنها لا تعترف إلا بأسماء المدن والجغرافيا بوصفها محط نزاع، لا سيادة رسمية عليها.