fbpx

ساعة في “باص” النقل الداخلي في دمشق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انحشرت بين الركاب، لعلني أتهرّب من دفع أجرة المواصلات، لست سارقة ولا متهرّبة، لكن كلفة المواصلات الشهرية باتت أكثر من نصف راتبي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


لم يكن الغضب من الوطن متاحاً، وكذلك الغضب من الرب، فحدث أن غضبنا من بعضنا بعضاً. أكثر من 90 شخصاً، كانوا محشورين في “باص” النقل الداخلي، وجوهنا تكاد تتلاصق، حتى إن كل 4 رؤوس محشورة – من دون خيار- تتأمل شاشة موبايل واحدة، نرفع عيوننا فتلتقي على مسافة قبلة. 

انحشرت بين الركاب، لعلني أتهرّب من دفع أجرة المواصلات، لست سارقة ولا متهرّبة، لكن كلفة المواصلات الشهرية باتت أكثر من نصف راتبي، وبالتالي عليّ الاختيار، الغذاء أو المواصلات. لذا قررت دفع ثمن الطعام يوماً، والمواصلات في اليوم التالي. كان ذلك اليوم للطعام، لذا كان عليّ أن أختبئ من الجابي بين الحشد. 

يكاد يلتصق بي أربعة شبانٍ لا يطيقون أنفسهم ولا يطيقونني، لكن أحدهم ينظر إلي بطريقةٍ غير مريحة، ليست نظرة شهوة ولا إعجاب ولا غضب، مجرد نظرة فارغة من كل شيء، لكن جسده كاد يلمس جسدي.

أنظر بتوترٍ إلى  المسافة الضيقة التي تفصلني عن لحظةٍ جديدة لا أعرف خلالها إن تم التحرّش بي، أم أنني فقط أريد الصراخ في وجه أي أحد.

تلك الفتاة، بيني وبينه، كانت ربما لاحظت عدم ارتياحي، لكنها لم تستطع إعلان تعاطفها معي. في هذه البلاد، أقسى ما قد يحصل لك، هو حرمانك قدرتك على التعاطف.

تبادلنا النظرات مراراً، وجاهدنا حتى نبتسم، ولو بالإجبار، لتخفيف حدة الموقف، لكننا لم نستطع، عدت إلى مراقبة المسافات بيننا وعادت هي لمراقبة الشاب.

“نملك الخيار”


يصفني مديري بالـ”ماكينة اليابانية” لأنني لم أتأخر يوماً عن عملي، لكنني لم أصل على الموعد منذ شهر، لا يمكن لوم دمشق على ذلك، لكنها ساهمت بشكلٍ فعّال في إعادة برمجة ميزانيتي، وسائل النقل العامة شبه معدومة، وتعتمد على الحظ تماماً، فيما تلك الخاصة تتطلّب أعلى من ربع راتبي كل يوم.

بعد ساعةٍ تقريباً، وصلنا إلى الموقف الأكثر شهرة، “شارع الثورة”، حيث ينزل نصف الركاب ويصعد ضعفهم، في هذه الأثناء راقبت امرأة تهم بالوقوف عن كرسيها، فتسللتُ بخفةٍ صوبها وجلست مكانها بلحظة واحدة، والبنت التي كانت أمامي بدأت فجأة تشتم  بصوتٍ عالٍ من دون أن يعرف أحد من تشتم تحديداً. 

انتصاراتٌ على “قَدْنا”


صعد إلى الباص ركاب أكثر من طاقته، ولم تكن عند السائق مشكلة لولا أن الازدحام منعه من إغلاق الباب على المحشورين داخله، فطلب من الواقفين النزول، مرّت ربع ساعة وهم يقنعون امرأة بالنزول عن الباب، وفي النهاية تجاهلت رجاء الرجل، أمسكته من قميصه ودفعته وصرخت “انزل انت يلعن أبوك”. ابتسمتُ لمحاولتها البسيطة أن تنتصر على أي شيء، صرخ الرجل بها، وحاولت هي البقاء قوية فلم تبكِ، أما أنا فالتفتّ إلى مشهدٍ آخر أراقبه في الباص كأنني أتابع حلقات مسلسلي المفضّل، من دون استراحات. 

حاولت ألا أتدخّل في شأن الرجل بجانبي، والذي يتشاجر مع حبيبته هاتفياً، ويبدو أنها ستتزوج شخصاً آخر غنياً، كان غاضباً- مثلنا جميعاً- في البداية، ويبدو أنه أدرك خسارته فصار حزيناً -أكثر منا جميعاً- في النهاية.


أغلق الخط، وتمنيتُ لو أستطيع التعاطف معه بحقٍّ واحتضانه، ومع هذا استطعت الابتسام له ابتسامة مواساة، وندمت بعدما بدأ يشكو لي كيف يعصر الألم قلبه -أنا التي جفّ قلبها منذ زمن- وأنقذني من الموقف عددٌ من الواقفين الذين انهالوا عليه بالأسئلة والنصائح، فابتسمت للمشهد وفكّرت: انتصر باص النقل الداخلي في دمشق على كل تطور الإنترنت، استطاع تحويل العالم إلى قريةٍ صغيرة محشورة في أمتار معدودة.

خلاصٌ من نوع ما 

نزلت بسلامٍ من الباص، لم أتأذَّ، ولم يُسرَق مني شيء.
أوقفتني بنت صغيرة لتبيعني وردة، وللمرة الأولى في حياتي دفعت شخصاً ما بهذه القوة، سقطت أرضاً وصارت تضحك بهستيريا جمّدت الدم في شراييني، ثم انتبهت إلى بنتٍ تبدو أفضل حالاً مني، فوقفت وشتمتني قبل أن تركض مسرعةً نحو صديقتها. 

بلعت ريقي ولم أذهب الى العمل، بل مشيت إلى جسر الرئيس، هناك وقفت، وأخيراً ومن دون أي سبب واضح… بكيت.