fbpx

أشكيناز إسرائيل ومسيحيو لبنان وعلمانيو تركيا… ما الذي يجمعهم؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تفتت بلدان الشرق الأوسط على إيقاع الهويات الصاخبة وصل إلى حد يهدد البعد الوطني ووحدة الأوطان نفسها، كما يجرف في طريقه احتمال السياسة والتغيير السياسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تتعرض منطقة الشرق الأوسط لتحولات تتجاوز السياسة كثيراً، وهي بالفعل تحولات من صنف عجائبي. لنأخذ مثلاً النهايات التي استقر عليها الأشكيناز الغربيون في إسرائيل والمسيحيون في لبنان والعلمانيون في تركيا. 

هذه الأطراف الثلاثة هي التي أسست دولها الوطنية: في تركيا، مع ظهور كمال أتاتورك قائداً عسكرياً محارباً ثم زعيماً لبلده بعد الحرب العالمية الأولى، وفي لبنان، مع قيام “لبنان الكبير” في 1920 في ظل الانتداب الفرنسي، ثم في إسرائيل من خلال الدور الريادي لـ”حزب العمل” (الأشكنازي) ابتداء بتأسيس الدولة في 1948، ومن بعده الحروب اللاحقة.

هذا العمل التأسيسي أضيفت إليه طبيعة الطرف المؤسس: إنه في الحالات الثلاث مقلد للغرب، أو لصورته عن الغرب، وهو يريد أن يقود بلده نحو الشبه بتلك الصورة، أي الانتقال به من موقعه الجغرافي في “الشرق” إلى مثاله المأمول في “الغرب”.

ولا مجال هنا لإبداء الرأي في ما صنعته هذه الجماعات، وأين أصابت وأين أخطأت. لكن المؤكد أنها تعاني اليوم أوضاعاً لا تُحسد عليها تسندها تحولات ديموغرافية ضخمة ليست في مصلحتها. فالعلمانيون الأتاتوركيون الأتراك بدأوا يخسرون هيمنتهم على تركيا منذ 2003 حين تسلم الإسلامي رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة، وخصوصاً منذ 2014 مع توليه رئاسة الجمهورية. وحتى لو تمكنوا من إسقاط أردوغان في الانتخابات المقبلة، فهذا لا يعني عودتهم إلى ما كانوا عليه، بدليل انكسار المؤسسة العسكرية من جهة، واضطرارهم إلى التحالف مع أطراف إسلامية “معتدلة” كداوود أوغلو من جهة أخرى. كذلك فمسيحيو لبنان باتوا يشعرون بأنهم مستبعَدون ومهمشون في البلد الذي أنشأوه. وإذا كان بعضهم ينسب ذلك إلى الدور السوري، فبعضهم الآخر يعود به إلى حرب 1975. وفي الأحوال كافة، تبين أن استعادة الدور المسيحي بعد عودة السلام في 1989 ثم جلاء السوريين في 2005، لا تعدو كونها وهماً. أما أشكيناز إسرائيل فهم أيضاً خسروا موقعهم على دفعات، كانت أولاها مع انتصار “الليكود” الانتخابي بزعامة مناحيم بيغن في انتخابات 1977، حين هُزم “حزب العمل” للمرة الأولى، ثم كانت هجرة الروس وتضخم أعداد السفارديين الشرقيين عموماً مصحوباً بتعاظم ظاهرة الاستيطان. هكذا جاءت الانتخابات النيابية الأخيرة لتجعل الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة الطرف المتحكم باللعبة السياسية.

لكن شبهاً آخر، ولو على نحو مقلوب، بات يجمع هذه القوى بشيعة العراق. فقد لوحظ إبان ثورة العراق المدنية في 2019-2020 اقتصار التظاهر على متذمري الطائفة الشيعية وحدهم، وبقاء السنّة العراقيين بعربهم وكردهم خارج حركة الاحتجاج. وكان هذا التطور شديد الخطورة في دلالاته إلى انعدام الطابع الوطني للعمل السياسي، ومن ثم قابليته في أي ظرف للانقلاب إلى تحرك أهلي مرشح للاصطدام بجماعة أهلية أخرى. فلا السنّة وجدوا لأنفسهم مكاناً في النشاط الثوري العراقي، ولا المعترضون الشيعة وجدوا لديهم ما يكفي من الحوافز لدعوة السنّة و”استضافتهم” في هذا النشاط.

ونشهد اليوم بوضوح مثل هذه الحالة في إسرائيل، حيث تتوالى التظاهرات الاحتجاجية بإيقاع أسبوعي ضد حكومة بنيامين نتانياهو الأخيرة، وضد الخطر الذي تشكله عناصرها الدينية على الديمقراطية والحقوق الجندرية وصلاحيات المحكمة العليا. إلا أن العرب في إسرائيل يبقون خارج التظاهرات. فلا المحتجون من الأشكيناز يخاطبونهم ويجذبونهم إلى هذا العمل المشترك، ولا هم يجدون لأنفسهم موقعاً فيه.

شكل آخر من هذا الفصل نجده مع مسيحيي لبنان. فهم، بعد مشاركتهم في 14 آذار/ مارس 2005 ثمّ في ثورة 2019، بات واضحاً أنهم في وادٍ آخر، وأن اليأس من كل عمل مشترك هو الذي يستولي عليهم. صحيح أن قياداتهم التقليدية لا تزال تنسق مع القيادات التقليدية المسلمة التي تعارض حزب الله، غير أن رأيهم العام لم يعد شديد الاكتراث بهذا كله. فالمزاج السائد هنا، وهو معلن في حالات قليلة ومضمر في حالات أكثر، هو إعادة النظر بالصيغة والوحدة اللبنانيتين كما هما قائمتان. وهذا خط يبدأ بالتلويح بـ”ضرورة إعادة النظر”، مروراً بمطالب تمتد من اللامركزية الموسعة إلى الفيدرالية، انتهاء بالتقسيم.

أما علمانيو تركيا فيضعون الأقلية الكردية (خمس السكان) خارج حساباتهم، وهذا ما جدده في الفترة الأخيرة عجزهم عن التفاهم مع “حزب الشعوب الديمقراطي”، وهو أكبر أحزاب الكرد في تركيا. فوق هذا، يتبدى أن قوة العلمانيين لا تزال تنبع من إخفاقات أردوغان أكثر كثيراً مما تنجم عن رأب الهوة العميقة بينهم وبين البيئة المؤمنة بشقيها الريفي والمهاجر إلى ضواحي المدن الكبرى. 

ومما تشي به هذه الظواهر أن تفتت بلدان الشرق الأوسط على إيقاع الهويات الصاخبة إنما وصل إلى حد يهدد البعد الوطني ووحدة الأوطان نفسها، كما يجرف في طريقه احتمال السياسة والتغيير السياسي.

وهذا ما ينبغي أن يكون مدعاة تأمل عميق، لا سيما عند نخب المنطقة المعنية بالوحدات الوطنية في بلدانها.