fbpx

“لسنا بخير، لكننا معاً”: سوريات يتبرّعن بشعرهنّ  لضحايا الزلزال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أدركت السوريات أنهن ولو لم يمتلكن المال، فلديهنّ شعرهن الذي يمكن مبادلته بالمال والطعام، وربما بيوم أقلّ قسوة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يبتكر السوريون مع كلّ كارثة وأزمة، طرقاً جديدة لمواجهة مشقّة الحياة، بعدما خذلهم “العالم” بأسره، تاركاً إياهم في مأساة مُستمرة منذ 12 عاماً، تحوّلت لدى البعض إلى مجرد حكاية تُروى. واليوم، مع كارثة زلزال 6 شباط \ فبراير، أدركت السوريات أنهن ولو لم يمتلكن المال، فلديهنّ شعرهن الذي يمكن مبادلته بالمال والطعام، وربما بيوم أقلّ قسوة. 

“لسنا بخير، لكننا معاً”، تحت هذا الوسم، انطلقت حملة تبرعت خلالها فتياتٌ سوريات بشعرهن لمنكوبي الزلزال. تجارة الشعر الطبيعي معروفة لدى فئة من السوريين، كانت رائجة  في الماضي بهدف صنع وصلات شعر في صالونات الحلاقة، لكنها بدأت تتخذ منحى جديداً منذ عام 2011 وبداية الثورة، وباتت الفتيات والنساء يقدّمن شعرهنّ كأحد أشكال الدعم للمحتاجين من الفئات الأكثر ضعفاً.

تبرعت فاطمة (اسم مستعار) بشعرها لضحايا الزلزال عبر الحملة، وتقول في حديثها لـ “درج”:  “نعيش في سوريا ضائقة مادية كبيرة، وجاءت كارثة الزلزال لتزيد الطين بلّة. وأمام ما حصل زاد عجزنا عجزاً، ولم أجد وسيلة لأقف بجانب من تضرروا سوى بقص خصلات من شعري وبيعها لأحد مراكز التجميل، لعلّ ثمنها ومهما كان بسيطاً، يساعد أحداً ما”.

الإحساس بالعجز الذي يختبرُه كثر من السوريين دفعهم الى ابتكار طرق جديدة لمساندة بعضهم البعض، وبينما  كانت حدود التبرع بالشعر سابقاً تقف عند مرضى السرطان، أخذت اليوم أشكالاً جديدة تسعى الى التحايل على العجز ومحاولة تجاوز الكارثة.

أرسلت السيدة  فضيلة الشامي بعد عام 2011، خصلاً من شعرها إلى سوريا كهدية، وبسبب إغلاق معظم المراكز ومحال التجميل آنذاك، بقيت تلك الخصل مخبأة لدى إحدى قريباتها، وفي عام 2021 أطلقت مبادرة أخرى لإرسال خصل من شعرها إلى سوريا وعرضتها للبيع هناك، وفور عرض تلك المبادرة على حسابها في “فيسبوك”، تقدّم عدد من الشبان والشابات للمشاركة معها، وبعد جمع ثمن الشعر، استُخدم لتسديد مصاريف طالب جامعي، وعائلة بلا معيل، وسداد إيجار منزلين في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها السوريون.

رجال يتبرّعون بشعرهم

غدير وهبة، شاب سوري أطال شعره بقصد التبرع به، وعلى رغم تعلّقه به، وبحلّته الجديدة، لم ينسَ أنه  قطع عهداً على نفسه بالتبرع بشعره، يقول لـ”درج”: ” لا أدري إن كان فعلي هذا سيغيث أحدهم، إلا أنني أشعر بقيمته الكبيرة في نفسي، فشعري هبةٌ، ولا يحتاج إلى جهد كي يصبح طويلاً، لذا ما منحني إياه الله، سأمنحه لغيري ممن لم يحصل على هذه الهبة”. 

 (99+1) مبادرة أخرى للتبرع بالشعر لمنكوبي الزلزال، تمكنت  من تقديم خمس باروكات لخمس سيدات وطفلات تعرضن للضرر من الزلزال الأخير حسب خبر نشرته الصفحة ذاتها.

لا تاريخ واضح عن بداية اعتماد بيع الشعر في سوريا أو تصنيعه، ففي ثمانينات القرن المنصرم وتسعيناته كان الاعتماد على بيروت في هذا الشأن، وفي ما بعد أصبح الشعر المستورد هو المعتمد في تصنيع وصلات الشعر والباروكات في سوريا.

بدأ التبرع بالشعر في سوريا يأخذ منحى منظّماً أو على شكل مبادرات جماعية منذ تأسيس الجمعيات التي تعنى بمرضى السرطان، كجمعيّتي “الأمل” التي تأسست عام 2005، و”بسمة” لمساندة مرضى السرطان من الأطفال عام 2006 وغيرهما.

أصبح الإقبال على الشعر المحلّي أكبر حسب أحد العاملين في تجارة الشعر الطبيعي، بسبب ظروف الحرب وصعوبة استيراد الشعر من الخارج، إذ دفع الفقر بكثيرات من الفتيات الى بيع شعرهن، وساهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في تنامي هذه التجارة  واستثمار الكثيرات فيها.  

زادت نسبة البيع بشكل جنوني، فالصالون الذي كانت تُعرض عليه سبع وصلات شعر في الشهر، باتت تأتيه حوالى 50 فتاة وسيدة يعرضن شعرهن للبيع.  تشتري الصالونات الوصلة من صاحبة الشعر بين 70 الى 100 ألف ليرة سورية (نحو 15 دولاراً أميركياً)، وتباع بين 700 ألف إلى مليون ليرة حسب وزنها وطولها (أي ما يصل إلى 150 دولاراً أميركياً)، والطلب يزداد عادةً  على شعر الأطفال، لأنه كثيف ولم يتعرض للصبغة أو حرارة المُجفف.

دلالات الحرب وبيع الشعر

تبدّل مدلول بيع الشعر في سوريا، وأخذ، في سياق الحرب وبعدها الزلزال، مدلولات أكثر عمقاً وتأثيراً في المحيط. تقول السيدة فضيلة الشامي إنها عُرفت في قريتهم بلقب “أم جدولة”، كونها تمتلك شعراً كثيفاً، تحثّها أمها على الاعتناء به دائماً. وبرأيها، يمثل الشعر القيمة الجمالية الأولى للأنثى، كانت هذه قناعة فضيلة حتى مرحلة عمرية لاحقة. 

تطوّرت نظرة فضيلة إلى فكرة التبرع بالشعر حين قامت بذلك للمرة الأولى، حين كان عمرها 17 عاماً. آنذاك، قصت شعرها وأرسلته والدتها إلى بيروت لصنع باروكة لابنة خالتها التي ولدت بلا شعر نتيجة خلل عضوي. تقول فضيلة: “بدا لي الأمر لطيفاً وذا قيمة معنوية كبيرة، ومذاك، وأنا أتبرع بشعري دورياً، كلما طال.. أشعر بأن التبرع بشعري كالتبرع بعضو من جسدي، يشكل فارقاً في حياة الآخرين”. تذكر فضيلة أيضاً أنها منذ عام 1995 تتبرع بشعرها  لأحد المراكز المختصة في بريطانيا، إلى أن صار بإمكانها بيعه في سوريا وتقديم ثمنه الى المحتاجين.

تبرعت ديانا بشعرها مرتين، إحداهما لمركز متخصص بمرضى السرطان في ألمانيا، وتؤكد أن هذا النوع من التبرّع يحمل قيمة مضاعفة بالنسبة إليها، الأولى جمالية، كونها حين تقصّ شعرها فيكون ذلك نوعاً من تغيير في الهندام، والثانية إنسانيّة، فبدلًا من رمي هذه “البضاعة المخلوفة” كفضلات، تجمعها لتغيّر حياة شخص أو أكثر، تستطرد قائلةً: “في تصوّري أن الأنثى بغريزتها معطاءة، لذا هي قادرة على وهب ما تستطيع لاكتساب الرضا. التبرع بالشعر نوع من أنواع إثبات الذات بالنسبة إلي، ولو أنه فعلٌ بسيط مقارنة بغيره”.

مواصفات خاصة للشعر

تتّسع دائرة التبرّع بالشعر مع كل أزمة جديدة، تقول ديمة إسحاق: “لم أدرِ قبل الآن أن هناك من يتبرع بشعره لغير مرضى السرطان، أو أنه قابل للبيع، برأيي هو أمر غاية بالأهمية، خصوصاً لمن لا يمكن لهم تأمين شيء آخر للتبرع به”. 

يُذكر أن للتبرع بالشعر شروطاً يجب تحقّقها، فليس كل شعر صالحاً للتبرع، يجب أن يكون كثيفاً، صحياً، ومن دون تشقّقات أو تقصّف. وكلما كان صحياً أكثر، كلما زاد ثمنه وقيمته. 

كثيرة هي الأحداث التي وصلتنا عن رمزية الشعر في الموروث وما بعده، فقصّ الضفيرة دائماً ما كان وما زال رمزاً لبثّ الحماسة في الحروب، وعلى النقيض، كان  أيضاً إيحاءً بحلول كارثة، أو بقصد النذر، وحتى يومنا هذا نراه في بعض المجتمعات كرمز عن الاحتجاج، كما يحصل في إيران، حيث قصّت النساء ضفائرهنّ احتجاجاً على فرض الحجاب الإلزامي. اليوم، يحدث تبدّل في مفهوم التبرع بالشعر في سوريا وربما سيستمر طويلاً، فمن ناحية يعكس محاولة السوريين مساندة بعضهم البعض بأي شكل، ولكنه في الوقت ذاته دليل على استنفاد السوريين الطرق للحياة، لا أمل ولا وسيلة للحصول على المال، سوى بيع الشعر، إنه جزء من سلسلة يستخدمها السوريون اليوم، الذي وصل بهم الأمر إلى بيع أعضائهم بهدف الحصول على الطعام أو السفر.

في يوم ما، سيذكر العالم أن السوريين باعوا حتى شعر رأسهم ليتمكنوا من النجاة، وفيما وقف المجتمع الدولي أمام الزلزال حائراً، كانت السوريات يقصصن شعرهن من دون أن يرف لهن جفن، في محاولة لخلق أمل ويوم آخر ربما يكون أقل قسوة.