fbpx

 العمل النسوي وأسئلته المتجددة: “مي تو” وشيطنة النسويات العرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أي تعريف للنسوية خارج عن النساء أجمع سواء اختلفن بالهوية أو الطبقة أو الدين أو الاتجاه السياسي، ما هو إلّا تعريف سلطوي يلغي النساء أجمع ويقتصر على المرأة التي تمثل السلطة الأبوية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مقدمة الملف المشترك من “شبكة فبراير”

فرض الخطاب النسوي نفسه كأداة لتحليل وفهم أحداث اجتماعية وسياسية واقتصادية، من حيّز العائلة وصولاً إلى النظام السياسي الشامل، كما بات إحدى أهمّ وسائل المقاومة، والتي تطاول ممارساتنا الأكثر ألفة إلى أعتى الديكتاتوريات. وفي السنوات الأخيرة، بات الخطاب النسوي في العالم العربي كنسق مؤثر في المنظومات الفكريّة والحسيّة التي تُنظّم حياتنا. بل أكثر من ذلك، تبدو النسوية في قلب الهشاشة المتعاقبة التي تعيشها منطقتنا كبقعة ضوء انعكاسيّة، أحياناً الوحيدة، وكحقل معرفي لا يمكن تجاوزه.

يمكن فهم الخطاب النسوي كمجموعة من الأسئلة والتحديّات، من خلالها يقوم فعل التراكم، المركزي لأي حقل معرفي وممارساتي، ففي الآونة الأخيرة، برزت معضلات وسجالات، تتطلّب نقاشًا مفتوحًا، وعملًا مشتركًا، لا يفترض الإجماع والتوحيد على منظور أو مقولة، بل رغبة تشاركية في البحث عن أجوبة جماعية وفي تكثيف أثر هذه الممارسة فكريا وسياسيا.  

يضم ملف «العمل النسوي وأسئلته المتجددة» مواد متعلقة بالعدالة النسوية وأفقها، والحراك النسوي في ايران، ومتابعة لقضايا تحرّش، كما يبحث الملف بأزمة الذكورة ودور الإعلام في مواكبة العمل النسوي. يشارك في هذا الملف ست مؤسسات إعلامية من العالم العربي، وهي “الحدود”، و”صوت”، و”درج” و”ميغافون”، و”مدى مصر”، و”الجمهورية”. 

تم تنسيق الملف بدعوة من “فبراير – شبكة الإعلام العربي البديل” لإنتاج محتوى يهم هذه المؤسسات وتم تحريره بشكل مشترك. عملنا معاً من خلال اجتماعات دورية التقينا فيها افتراضياً على مدى 6 شهور، تناقشنا في الملف، طرحه، شكله ومواده وقامت كل مؤسسة بالمشاركة بمواد عينية تُغنيه. وستنشر المواد تباعاً عبر المؤسسات المشاركة.

تأخذ مواضيع التحرش والاغتصاب في المنطقة العربية غالباً جانباً مأساوياً، وحتى إذا حاولنا أن نتحلى بالقليل من الإيجابية بعد انتصارات جزئية تحققت، فلا عدالة ناجزة، ولا محاسبة مجتمعية أو قانونية، مقابل تشكيك بالناجيات واتهام النسوية بأنّها شرّ غربي، وخوف من الإفصاح، وتردد في الشكوى. 

بدأت مجموعات “افضح متحرش” عام 2013،  بالتزامن تقريباً مع الانتفاضات والثورات العربية، ونشطت مجموعات مثل “انتفاضة المرأة العربية”، ومنذ تلك اللحظة أخذ فضح المتحرشين أشكالاً عدّة، فيمكننا اليوم أن ننشر قصّتنا على “فيسبوك”، وأن ننشر صورة المتحرش، أن نخلق صفحات أو نرفع دعوى، لكن مآلات تلك الجهود متفاوتة. وبرغم أنّ القضاء على امتداد المنطقة لا يمكن الوثوق به، فقد فعّلت بعض الدول قوانين ضدّ التحرش، لكنها لم تتكرس كملاذ قانوني فعلي لحماية الناجيات والضحايا. 

هي إذاً انتصارات صغيرة، بتنا اليوم نعي أنّ إمكانية استغلال بعض الرجال النافذين مناصبهم العالية مثلاً لن يكون أمراً سهلاً وعادياً كما كان قبل نحو عقدين. نعي أن ذاك المتحرش المتسلسل سيقف يوماً أمام القضاء (حتى إن كان الأمر بطيئاً جداً). مع هذا، هذه القوانين لا تضمن الحماية في ظل مجتمع يدافع عن المتحرش ويترك الضحية وحدها، تحاول أن تثبت ما حصل، في ظل عدم وضوح تعريف التحرش، ووضع حجج لا تساعد الضحية على التبليغ، وفي ظل تخبط مؤسسات بكيفية تعريف سياسات مكافحة التحرش وتطبيقها. 

كانت نتائج قضية “فتاة الفيرمونت” المصرية التي حدثت عام 2014 مخيبة للآمال، لكنها  شكلت مفصلاً في فشل القضاء في مقاربة قضايا الاعتداء الجنسي،  فمحورها قيام شباب مصريين من عائلات ثرية باستدراج إحدى الفتيات، خلال حفل في فندق “فيرمونت نايل سيتي” إلى إحدى الغرف، بعدما وضعوا في مشروبها مخدراً، ثم تناوبوا على اغتصابها وكتبوا أسماءهم على جسدها وصوّروا الواقعة.

جريمة الاعتداء التي حصلت واضحة، لكن هرب مرتكبوها بفعلتهم، وبقيت الفتاة ضحية اجحاف القانون من جهة وضحية تعليقات جماهير واسعة أمعنت في تهشيمها، كما أنّها أُدخلت السجن لأسباب غير متعلقة بالقضية. أي أنّ الشرطة ستبقى مكاناً مخيفاً لأي فتاة تريد أن تبلّغ عما حل بها، خصوصاً حين يكون المعتدون من أبناء الطبقات الثرية أو المحمية بشبكة علاقات مع النافذين في السلطة. 

تأخذ مواضيع التحرش والاغتصاب في المنطقة العربية غالباً جانباً مأساوياً، وحتى إذا حاولنا أن نتحلى بالقليل من الإيجابية بعد انتصارات جزئية تحققت، فلا عدالة ناجزة، ولا محاسبة مجتمعية أو قانونية

“افضح متحرش” و”نصدّق الناجيات”

هناك قلق نسوي بشأن مكافحة التحرش برغم بعض الانتصارات الصغيرة، بسبب بعض ردود الفعل تجاه هذه القضية. فبعد “افضح متحرش” وسلسلة من المبادرات الصغيرة التي أخافت المتحرش بالفضيحة، تحولت القضية إلى “صدّق الناجيات”، وانتشر الهاشتاغ مع قصة كل ناجية، وانتقل التركيز من الفاعل إلى الناجية. يأتي هذا بالطبع لمواجهة كل ما ظهر من ردود فعل تجاه الفتيات اللواتي يستخدمن الحيّز العام لنشر قصصهن، وردود الفعل هذه كانت غالباً تشكك بالضحية وتسألها وتلومها بطريقةٍ ما على ما حدث. 

جاء هاشتاغ “نصدّق الناجيات” لأنّ التركيز على فكرة عدم لوم الناجية كان أمراً لا بدّ أن نكرره ليفهم البعض أنّ أول رد فعل في #إفضح_متحرش هو #تصديق_الناجيات، وهذا أيضاً لا يأتي لمواجهة تلك الذكورية فقط، بل لنعطي المساحة الآمنة للناجيات بالإفصاح، ولتذكيرهنّ أيضاً بأنّنا نصدقهن. كل تلك المعارك التي خضناها كي نصل في الأخير إلى تفصيل “نصدّق الناجيات” تجعلنا نقلق أكثر ونفكر بكل تلك التفاصيل الصغيرة التي طبّعت مع الذكورية وأخفت أمن النساء، لنلغي الأفكار ونعود ربما إلى حالة حيادية تجعلنا نريد أن نصدّق الناجيات قبل أن نعاقب المتحرش. 

التحرش يدقّ باب الياقات البيض 

ربط كثيرون التحرش بالأماكن الفقيرة النائية البعيدة عن الثقافة والعلم، حتى أنا شخصياً، كلما أفكر بالتحرش، أفكر بذلك “الباص” الذي جلس به رجل وحاول أن يلمسني، وهو السبب الأول لأشتري سيارة. كما اتُهمت النسويات باتباع ثقافة غربية، وسُلبت منهنّ “إنسانيتهن” حتى تمّ تشييئهن على أنّهن مجرد أداة لتنفيذ مؤامرة ما. تمّ ربط النسوية بالغرب، وبالثقافة الزائدة والعلم الزائد، وابتعدت من الأحياء العربية التي ما زالت محافظة بعض الشيء. الفكرتان مبنيتان على أحكام خاطئة وهذا لأنّنا نوعاً ما تعلّمنا أن نعامل بعضنا على أنّنا أشخاص غريبون، وعلينا وضع أنفسنا في قبائل. التحرش ليس في الأحياء الفقيرة وحسب، والنسوية ليست للمثقفات اللواتي يمتلكن امتيازات معينة. 

الفكرتان تحدثان هنا وهناك. 

التحرش يحدث خلف المكاتب أيضاً، وعلى النسويات أيضاً مكافحته حتى ضمن مساحتهنّ الخاصة وبعيداً من الصورة النمطية. شهدت الجماهير العربية حالات تحرش جماعية في ساحات الاحتجاج وفي الشوارع، وتابعنا حالات قتل واعتداء واغتصاب لم توفر القاصرات أو ذوات الحاجات الخاصة. وكانت الصدمة من كل هذا تبعدنا من أقرب الأماكن لنا، وهي أماكن العمل العادية. 

بدأت حركة “مي تو” على يد الناشطة، تارانا بورك، التي استخدمت العبارة عام 2006 لتنشر التوعية بالعنف ضد المرأة والإساءات التي تتعرض لها.

وبعد 11 عاماً، وتحديداً عام 2017، حصل الهاشتاغ على انتشار عالمي بعدما غرّدت الممثلة الأميركية، إليسا ميلانو، داعية النساء للتحدث علناً عن تجاربهن مع التحرش والاعتداء الجنسي. 

كانت ميلانو واحدة من أوائل اللاتي اتهمن المنتج الهوليوودي الشهير، هارفي واينستين، بالاعتداء والتحرش الجنسي، وقد لوحق قضائياً بسبب تلك الاتهامات وخاض العالم من بعده نقاشات وتعديلات قانونية في أماكن العمل المختلفة لمكافحة الاستغلال والتحرش الجنسي في أماكن العمل.

تمكنت حركة “مي تو” في الخارج أن تفضح متحرشين ومستغلين ومعنّفين ومغتصبين في مناصب عليا، استخدموا مناصبهم ليعنّفوا النساء، وفضحت الحركة مشهداً بشعاً في هوليوود، لكن للأسف لم نتمكن أن نرى انتصاراً مماثلاً له في العالم العربي. 

سمعنا قصصاً لناجيات في العالم العربي فضحوا رجالاً في مناصب عليا، ورجالاً في عالم البيزنس والإخراج والإعلام والفنّ البديل، وغالباً ما وصفت مثلاً عناوين الصحف في ما يتعلق بقضية الفيرمونت المرتكبين بـ”أصحاب النفوذ”، لتذكرنا أنّ أصحاب النفوذ أيضاً قد يغتصبون وحظاً موفقاً في ملاحقتهم. وجاءت هذه القصص أيضاً لتذكرنا بأنّ فضح متحرش من ذوي الياقات البيض يعني إنهاء مسيرته المهنية، وهل نحن فعلاً نريد أن نقضي على حياة إنسان لأنّه متحرش؟ كان من الصعب الإجابة هنا، لا لأنّه لا يحق لنا أن نخبر قصصنا، بل لأنّنا تعلمنا أنّ القصاص العادل يأتي من القضاء والشرطة لا من “فيسبوك”. 

انتشرت محاكم السوشيل ميديا التي ساهمت في معاقبة متحرشين او متهمين بالتحرش اجتماعياً لكن هل حقاً أنجزت العدالة؟

كيف نحدد أنّ عقوبة المتحرش هي الفضيحة والإعدام الاجتماعي، في حين أنّ هناك قانوناً ضدّ التحرش؟ وما مسؤولية أماكن العمل وأي سياسات تعتمدها في بلاد لا تزال تعتمد تمييزاً مجتمعياً وقانونياً عميقاً وشائناً ضد النساء في الزواج والطلاق والإرث والجنسية بل وحتى اللباس.

بدأت بعض الشركات الخاصة هنا تحاول اقتباس قواعد وقوانين عالمية لتطبقها وحماية النساء ومحاولة توفير مساحة يكون فيها معنى التحرش واضحاً والتعامل معه له نظمه وآلياته. ومع هذا، لم يكن الاختلاف على مفهوم التحرش أمراً عربياً فقط، فحتى مع ظهور تيارات غريبة عبر شخصيات مثل أندرو تيت، المؤثر البريطاني الأميركي المثير للجدل الذي اعتُقل في رومانيا بتهمة الاتجار بالبشر والجريمة المنظمة والاغتصاب. 

يصف أندرو تيت نفسه بأنه “كاره للنساء تماماً”، وأنه “لا توجد طريقة لكي تكون منتمياً إلى الواقع من دون أن تكون متحيزاً جنسياً”. لكن الرياضي الشاب الذي حقق شهرة عالمية عبر الإنترنت، ليس الوحيد، الذي يعبر عن وجهات نظر معادية للنساء عبر السوشيل ميديا.

بدأنا نشعر مع ظاهرة “أندرو تيت” وكأنّ المطلوب منا أن نشعر بأن التحرش هو مؤامرة ضد الرجال، وعلينا أن نكرر بوضوح أين هو الخطّ الفاصل بين التحرش والغزل أو التعبير. لم يكن الموقف النسوي من التحرش يوماً مرتبطاً بمحو الرجال أو محو الغزل أو الحبّ أو التعبير عن الرأي. كان غالباً الهدف النسوي نبيلاً، وهو تأمين مساحة آمنة للنساء، ومع هذا كان هذا الهدف يُواجه بالكره والعنف. ربما لأنّ معظم مرتكبي الجرائم بحق النساء هم الرجال، ولم نتمكن من أن نثبت العكس. 

اليوم، يتجه العالم نحو مكان مظلم سياسياً، اليمين المتطرف يعود، ونساء إيران اللواتي يخضن معركة حريتهن في خطر، والإجهاض ليس قانونياً، والنسوية تتعرض للشيطنة، والدين يواجه الدين بالنساء، فيتمّ استخدام النسوية على أنّها فعل غربي ضدّ الإسلام وضد المسيحية وضد المعتقد. وهنا علينا أن نقول الأمور كما هي، لم يكُن يوماً الإسلام المُفسر من الرجال أو حتى أي دين مُفسّر من الرجال (التشديد على المُفسر من الرجال) نسوياً، ولم ينصر المرأة يوماً.

القانون ليس نسوياً، الشرطة ليست نسوية 

في أحد حوادث التحرش الكثيرة في لبنان، اشتكت مجموعة من الفتيات على متحرش متسلسل كان ينتحل صفة “مخرج سينمائي”. تخبرني إحدى الفتيات اللواتي بلّغن عن الموضوع والذي تمّ تطبيق قانون التحرش في لبنان عليه أنّهن حينما دخلن إلى المخفر كان تعليق الشرطي “معقول ما يتحرش ببنات حلوين متلكن”. لم تكن هذه العبارة مشجعة فعلاً لاستكمال التحقيق، واعتذر المسؤول حينها وشرح أنّ تطبيق هذا القانون احتاج الكثير من التدريبات فقط لفهم معنى التراضي، وكان المحقق الذي حصل على هذه التدريبات يتكلم بكل صوابية سياسية مع الفتيات.

تطبيق هذا النوع من القوانين يحتاج أموراً لا بدّ من تفكيكها، أولها كيف يرى رجال الشرطة النساء وكيف يتعامل القانون مع ملاحظات بسيطة مثل وجود الشهود، ومتى يكون التحرش تحرشاً، ولماذا نسمي الاعتداء الجنسي بعبارات نافرة مهينة مثل “هتك عرض” ولماذا ما زالت بعض الدول تسمح للمغتصب بأن يتزوج الناجية، ولماذا التحرش يجب أن يكون مأساوياً لنحدد عقوبته، ولماذا نضع الضحية بمواقف غريبة ونسألها أسئلة بعيدة من الحدث الأساسي؟ ما هو التراضي؟ وماذا يعرف رجال الشرطة عنه؟ هل يعلم الشرطي أنّ لموازين القوة أثراً؟ 

ينسى كثيرون من الرجال العرب حين يتهمون النسوية باتباع بروباغندا غربية أنّ هناك رجالاً مثلهم في الخارج، يكرهون النسوية والنساء، ويدافعون عن المتحرشين، ويشككون بقصص الناجيات، وهنا تختلف الحجج فقط. 

تُتهم النسويات في الخارج بأنّهن يردن تعقيد العالم ومحو الرجال، وهنا في منطقتنا يتهمن بأنّهن يردن تنفيذ مؤامرة غربية. من الصعب أن يفهم الذكور هنا أصلاً كيف تكون العلاقة بين المرأة والرجل “نسوية”، وهذا لأنّ كثيراً من الذكور نشأوا في نظام أبوي، تربى على أن السلطة هي في المنزل أولاً وهي هنا بيد الأب أو الأخ أو الزوج وأنه ولي الأمر. تتصاعد السلطة من خلال الدين ثانياً، وعبر القانون ثالثاً، وفقدان السلطة هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي شخص. 

يشعر رجال من حول العالم بأنّ سلطتهم تضعف، ليس بسبب النسوية فقط، فهناك أسئلة تدور حول وجود جندرين، وحول ما تعلمنا من أنوثة ورجولة، وحول وجود أشخاص لا يشعرون بأنّهم من الجنس الذي ولدوا فيه. تنتشر هذه الأفكار وتخيف الرجل السلطوي الذي تعلّم أنّ الحياة هي كهف، يديره ويبنيه ويبهر زوجته، والرجل نفسه الذي تعلم أنّه يحصل قانونياً على قسم أكبر من الميراث، وقانونياً يملك حضانة الأطفال، وقانونياً لا يُعاقب على الاغتصاب إن تزوج من الضحية، ولا يعاقب على العنف المنزلي. ومن الصعب أن يتقبل أحد بكل هذه الصلاحيات فكرة معاكسة تماماً، فهو لم يبرر لنفسه وحده، بل أتى من يبرر له ويعطيه التغطية. 

أصبحت السوشيل ميديا والإعلام ملجأ الفتيات الوحيد للتعبير، وبدأت الفتيات يستنجدن من خلال المنصات. هناك من وجد وسائل للدعم، ومع هذا هناك أيضاً من وجد الفرصة لخلق روايات خاصة ومؤامرات كونية تعيب الضحايا، وتشكك بشهادتهن وتدينهن وتحملهن مسؤولية موتهن، كما حصل مع المؤثرة العراقية طيبة العلي التي هربت من اعتداء شقيقها جنسياً عليها فتركت العراق وحين عادت استدرجتها العائلة إلى المنزل ليخنقها والدها وهي نائمة.

تسجيلات طيبة قبل مقتلها تكشف أن العائلة استفظعت أنها تحدثت وهربت بما يفوق بأضعاف استفاظعها أن الشابة تعرضت للاعتداء من قبل شقيقها وتم معاقبتها بقتلها. 

المخيف هو الكم الهائل من التعليقات التي بررت قتل طيبة وأدانت هربها، وهذا يتكرر كثيراً مع قصص فتيات حاولن تحدي القيود والاضطهاد الاجتماعي ليجدن أنفسهن ضحايا محاكم الرأي العام القاسية والمدمرة.

أعطت السوشيل ميديا مساحة للتعبير، لجميع الأطراف مهما كانوا بعيدين أو قريبين من القضية، كما في الحيّز الثقافي، هناك من يشعر بأنّ النسوية تريد أن تنهي التعبير والفنّ وتحيطهما بصوابية سياسية تلغي الحرية في سرد القصص. وهناك من يخاف أن يمحى دوره كرجل، وهناك من يتهم النساء بالعهر كلّما أبدين آراء مختلفة، وهناك من يخاف أن تستغل فتاة علاقتها به لتفضحه، وهناك من يرى النسوية على أنّها فتاة قبيحة تتصرف مثل الرجال ولا تهتم بنظافتها الشخصية، وهناك قانون يُطبّق في مساحة ذكورية سلطوية (أي المخفر). 

هناك قلق نسوي لأنّنا في كل مرّة نستمع لقصة ناجية، نشعر وكأنّنا في النقطة صفر، وكأنّنا علينا أن نعيد تبرير كل ما وصلنا إليه. 

شيطنة النسويات ليس عربياً فقط على كل حال، هناك خوف من كل ما هو جديد ومطروح ويخالف كيف تمّ بناء هذا العالم. العالم بني على نظام أبوي ذكوري، سواء قانونياً أو في الدين أو في المجتمع، ومن الصعب تقبّل أي أمر يخسر السلطة الأبوية والذكورية قوتها، والتي بدورها تخدم الدين والإقتصاد والعكس صحيح، الثلاثي هذا لا يمكن أن يستمر من دون بعضه البعض. والمشكلة الثانية أنّ النسوية دائماً تحت المجهر، أي أنّ تكون المرأة تمارس جنوناً وعنفاً كما حصل في قضية الممثلة الهوليوودية آمبر هيرد التي خاضت محاكمات علنية ضد طليقها الممثل جوني ديب. المحاكمة كشفت علاقة مسمومة بين الزوجين وكشفت عنفاً متبادلاً كان مدخلاً هلل له كثيرون، بوصفه حالة تنفي مظلومية الزوجات المعنفات. بالنسبة إليهم فإن آمبر هيرد قتلت القضية النسوية واستغلتها وهي تمثل كل النساء، وعلينا دائماً أن نكون حاضرات للتبرير. 

في كل حال، النسوية في العالم العربي ليست قضية Passive تخلق قضايا غير موجودة. هي مبنية بالفعل على قضايا مأساوية للأسف تتفعّل بجرائم قتل وقصص عن فتيات يُقتلن لأنّهن تعرضن للاغتصاب. أصبح هناك عدّاد في العالم العربي في كل عام لنحصد الجرائم والانتهاكات ضدّ النساء، وهذا كافٍ لنفهم نحن أنّ القضية النسوية ليست قضية “ممحونة” ولا تأتي لتتسلط النساء على الرجال، بل تأتي للحماية وحسب، وهو أمر لا نطالب به لأنّه امتياز بل لانّه حق، مع هذا يخاف رجال كثر بل وحتى نساء من النسوية ومن الغرب، ومن أن نصبح كالغرب، علماً أنّ الغرب ما زال يشكك بحق المرأة في الإجهاض. 

شيطنة النسويات على مستوى السلطة

إن أردنا أن نسرد كيف تمّت شيطنة النسوية في العالم العربي، فسنتحدث حتى الغد. التحرش هو أقرب فعل لنا لأنّ التحرش يعني الاختراق، وأن نطالب بعدم اختراقنا، هو مطلب عادي محق، لكن يصاحبه الكثير من الشرح والتفسير. كانت شيطنة النسوية عبر القانون الذي لا يحدّ فقط، بل يعتقل. 

في السعودية مثلاً، جسدت حملة اعتقال ناشطات حقوقيات عام 2017، من الدلائل حول كيف تمسك السلطات الاستبدادية بشعارات حقوق المرأة والنسوية بيد الحاكم وحده، وكيف تقصي النساء لمجرد أنهن خرجن عن مظلة الطاعة هذه.

في مثل هذه الحالات، فالسلطة هي التي تطالب بحقوقنا، أي هي من تعرّف النسوية. في أكثر من دولة خليجية حصلت تطورات هائلة على مستوى الحياة الاجتماعية لكنها بقيت مفاصل تلك الحريات في قبضة السلطة والحاكم تسحبها متى تشاء.

الترهيب من النسوية بات شأناً ممنهجاً تمارسه سلطات بحيث عوقبت نسويات بالسجن والإقصاء في دول مثل السعودية والإمارات ومصر، والتي بدورها تنشر سرديتها حول حقوق النساء وحدود الحريات الشخصية في الحفلات والرقص وتمكين المرأة. 

دينياً، غالباً ما استغلت السلطة النصوص الدينية لقمع النسويات وعموم مجتمع الميم عين. تهدف النسوية التقاطعية لجعل كل شيء نسوياً، أي ألا ننسى امرأة سواء اختلفت بالعرق أو الهوية الجندرية أو المكانة الإجتماعية. فأن تأتي حملات دينية مثل “حملة فطرة” التي انتشرت بشكل واسع أواخر عام 2022 لجهة تعميم أن النسوية “ضلال” وأن العودة الى الدين هي التي تحمي المرأة مع حملات هائلة لشيطنة مجتمع الميم، فهو دليل على أنّ النسوية لا يحددها أفراد ولا حتى نساء، بل إن السلطة هي التي تفعل ذلك، وعلى مبادئ الدين والطائفة والعشيرة. 

قررت السلطات صوغ مفهوم نسوي يناسبها، فمثلاً بموجب تلك السلطات تم تكريس تعريف النسوية من دون أخذ النساء العابرات في الاعتبار. هذه ليست نسوية بل هي تعريف ذكوري للنسوية يهدف لإبقاء الجندر في خانة الثنائية، إمرأة ورجل، والسلطة بيد الرجل.

 لم تكن النسوية يوماً تعني أخذ الدين أو الطبقة الاجتماعية أو الهوية الجنسية والجندرية في الاعتبار، غالباً ما جمعت الكل لأنّها تتحدث عن النساء، وغالباً ما أخافت الكل، بسبب الخوف من النساء. أي تعريف للنسوية خارج عن النساء أجمع سواء اختلفن بالهوية أو الطبقة أو الدين أو الاتجاه السياسي، ما هو إلّا تعريف سلطوي يلغي النساء أجمع ويقتصر على المرأة التي تمثل السلطة الأبوية. 

المواد التي تنشر في الملف المشترك 

فهرس

١. عن الحقيقة والعدالة: كيف تتعامل مؤسساتنا مع العنف الجنسي /حوار بين ٩ نسويات – مدى مصر

٢. “مي تو” وشيطنة النسويات العرب – درج

٣. بودكاست حرر: مآلات النشر في قضايا الانتهاكات الجنسية – صوت

٤. بودكاست منبت: الرموز في الحراكات النسوية – صوت

٥. بودكاست عيب: التحرش في مصر: ما بعد ضجيج الهاشتاغ – صوت

٦. نصائح ك. أ. للنسويات المستجدات – الحدود

٧. أبعد من الحجاب…النسوية الإيرانية في وجه نظام “الفصل الجندري” – درج

٨. بودكاست حرر: ياسمين عز .. إعلامية بطعم رُوقة – صوت

٩. بطاقات عن العدالة الإنجابية – الجمهورية

١٠. لك سيدتي – الحدود

١١. خروجنا للعلن: تحقيق العدالة وتفكيك الخطاب الذكوري – الجمهورية

١٢. عدالة التمثيل النسائي في الفنون وصورة النساء في الفنون – الجمهورية

١٣. نساء في المجال الأكاديمي – الجمهورية

١٤. فيديو:أنبياء الرجولة – ميغافون

١٥. فيديو: من هو هذا الرجل؟ الرجولة في الفيديو كليب – ميغافون

١٦. فيديو: أن تُصبِح رجُلاً – ميغافون

١٧. استحالة الوراثة، حتمية القتل: أزمة الذكورة كأزمة الأبوّة – ميغافون

١٨. كيف يصبح الصبيّ رجلاً؟ حوارٌ مع خمسة رجال عن الرجولة – ميغافون

١٩. أزمة الذكورة في الحربِ وأدبِها: السلاحُ والقلم كامتدادٍ للقضيب – ميغافون

٢٠. الارتباك أمام التخلي: مأزق الذكورة المعاصرة – ميغافون

٢١. الأب، صورة غير شعبية من الحرب الأهلية – ميغافون

٢٢. الذكورة أيضًا تهلع – ميغافون

٢٣. درّاجتي، والذكور، وأزمتهم – ميغافون