fbpx

طوبى لِودائعنا المصرفيّة المُقدَّسة… هللويا 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الإعلان عن أنّ الودائع المصرفية، التي جُمعت على مدى سنوات العمر بالكدّ وعرق الجبين، مُقدّسة هو بمثابة إعلان موارب من المنظومة الأوليغارشية عن موت هذه الودائع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كل شيء في بلادنا اللبنانية يملك قابلية التقديس. فأينما اتجهْتَ في البلاد طولاً وعرضاً، قد ترى نفسك محاطاً بالقداسة، بحيث يبدو للمُقيم فيها وكأنه في معبد يرشح قداسة.

القائمة لا تنتهي: رجال الدين هم قدس الأقداس. زعماء الأحزاب السياسية، الآتي معظمهم من سواد الحروب الأهلية الطاحنة، مقدّسون. العيش المشترك مقدس. دستور الطائف مُقدّس. السلاح مقدّس. القضايا مُقدّسة، المقاومة، الشهداء، الموت، الأيديولوجيا، التاريخ، العائلة، الشرف، العشيرة، الطائفة، المذهب، الحزب، الأعياد، الخطوط الحُمر، ألخ…

وأخيراً وليس آخراً، تردد خبر في الإعلام يُفيد بأنّ ودائعنا المصرفية صارت مُقدّسة، حسْب ما صرّح به مُفوَّهو أوليغارشية المنظومة الحاكمة في البرلمان اللبناني. أقسموا اليمين على الملأ بعدم المساس بودائع اللبنانيين، المحجوز عليها في المصارف اللبنانية التي بدورها أصبحت مُقدسةً أيضاً فلا تطاولها محاسبة قضائية ولا مُساءلة من أي جهة كانت!.

ينطلق المُقدَّس كما هو معلوم من عوالم الغيب، ليفرض على البشر جلالاً وحُرماً مُطلقاً لا جدال فيه أو مُساءلة. نقيض المُقدّس هو المُدنّس. يقبع المُقدَّس في الأعالي طاهراً غامضاً لا يمُسّه شيء ولا يمتزج بالحياة الأرضية، في حين أنّ المدنس هو الحياة بصفتها الدنيوية وما فيها من عيش. إلا أنّ المُقدَّس قد يُخْتارُ له أنْ ينشر بعضاً من شرارات قُدسيته مانِحاً قوته الغامضة لأفكار وأشخاص وأمكنة، مُوَلداً شعوراً بالخوف والرهبة والخضوع في نفوس البشر.

رسخت الأديان السماوية عبْر تشكّل سلطتها التاريخية على البشر، هالة حول تعاليمها ورجالها ومُنشآتها المعمارية، وفرضت على الناس حُرْماً وحدوداً صارمة في التعامل مع هذه المقدسات برضاهم أو من دونه، إلا أن العالم الدنيَوي المعاصر استمر ينضح بجميع أنواع المُتع والملذات القيِّمة، وفي مُقدّمها حُب الحياة ولذة العيش المَوْفور بِوِفْرة المال والثروة، وعليه ظلّ المال والنقد في منأى عن القداسة والتقديس.  

كل شيء في بلادنا اللبنانية يملك قابلية التقديس. فأينما اتجهْتَ في البلاد طولاً وعرضاً، قد ترى نفسك محاطاً بالقداسة، بحيث يبدو للمُقيم فيها وكأنه في معبد يرشح قداسة.

مشكلة المجتمع اللبناني في تقديسه المُفرط لكل شيء وإسقاط هالة القداسة ورعبها على أيِّ أمر، تعود أصلاً إلى الرحم الذي تكوّن فيه مجتمع هذه الجمهورية. وهو رحم الأقليّات الدينية الذي تَوَلَّد منه جسد برؤوس طائفية ومُلِّيّة متنازعة وغير قابلة للتطور أو الاستمرار إلا عبر الحروب في ما بينها للاستحواذ على السلطة، مُستخدمين جميع أنواع الأسلحة ومن ضمنها التقديس والقداسة. 

إسباغ القداسة من الطوائف والمذاهب اللبنانية على السياسة والاجتماع والاقتصاد، أتى بداية لوضع حرم من كل طائفة أو مذهب بوجه الأُخرى، تَمْنعها من الاقتراب والامتزاج. وقد تقلّبت أدوار هذه الطوائف والمذاهب في أشكال التقديس ودرجات الحرم، بين مظلومية طائفة محكومة واستبداد طائفة مُتَحكِّمة على مدار المئة عام من عُمْرِ هذا الكيان اللبناني. خلالها، تناوب التقديس والتدنيس معاً في علاقة طردية، بحيث صار رفع منسوب التقديس لرموز طائفة أو مذهب محدد، يؤدي حتماً إلى ازدياد منسوب التدنيس لرموز طائفة أو مذهب ديني آخر. 

أليس ما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية من مجازر دموية وذبح الجماعات والأفراد على الهوية الطائفية عبر فتاوى القتل وصُكوك الغفران، يشكّل دليلاً على هذه العلاقة المُلتبسة في لبنان بين التقديس والتدنيس؟! ألم يكن وضع الأشخاص المُدانين في اغتيال رفيق الحريري في مرتبة القديسين، شاهداً على اختباء السياسيين وراء المقدسات، وهروبهم من عدالة القانون؟! أليس اعتبار ضحايا الحروب الأهلية الطائفية بمثابة قديسين وشهداء دليلاً على إلباس القضايا والنزاعات لبوساً دينياً مُقدساً؟! وكأن التقديس والتدنيس في الجمهورية اللبنانية، وجهان لعُملة واحدة. عُملة الصراع على السلطة للشروع في نهبها. الأمثلة في هذا كثيرة وصارخة. 

مع مرور الوقت، أصبح استخدام المُقدَّس من مُكوّنات النظام الطائفي اللبناني فناً قائماً بحد ذاته، يهدف إلى شدّ عصب الطوائف والمذاهب الدينية، وتمويه معارك زعمائها المُقدَّسين مع بعضهم البعض بهدف السيطرة على الرعايا وجرّهم الى النزاع والقتال في وجه الرعايا الآخرين، كمسار ضروري لفرض هذه السيطرة.   

آخر فصول فن التقديس اللبناني تجلّى في مشكلة الودائع المصرفية المُحتجزة في المصارف اللبنانية، بعد الانهيار الاقتصادي والنقدي غير المسبوق، وإفلاس خزينة الدولة اللبنانية بفعل نظام المُناهَبة الذي جرى وما زال يجري على يد الأوليغارشية اللبنانية.

ففي تصريح متكرر على لسان نواب هذه المنظومة، بأنّ هذه الودائع المصرفية، التي تعود ملكيتها الى أفراد من الشعب اللبناني أو الى جمعيات مهنية ونقابية، هي ودائع مُقدّسة لا يجوز المساس بها.

اعتبار الودائع مُقدّسة سابقة لم تحصل في تاريخ البشرية على الإطلاق. وهي سابقة تحمل الكثير من الخُبث والقليل من الذكاء،  ليس فقط لأنها محاولة مكشوفة  لإيهام جمهور المودعين بأن السلطة السياسية تدافع عنهم وتريد إرجاع أموالهم بعدما ساهمت في حصول هذا الإفلاس الموصوف، وهرّبت ثرواتها الى الخارج، مع تفجّر الأزمة في عام 2019، بالتواطؤ مع أصحاب المصارف أنفسهم، بل وأيضاً لأن المنظومة الأوليغارشية تعرف أن الودائع المصرفية تبخرت ولم يعد لها أي وجود مادي، وكل ما تسعى إليه هو التنصُّل من مسؤوليتها الجُرميّة في ضياع مُدخّرات رعاياهم المُنتمين الى الطوائف والمذاهب كافة.

 استعمال السلطة مفردات المُقدَّس في ودائع مصرفية مالية يأتي مُضْحِكاً ومُبْكياً في آنٍ معاً. فللمرة الأولى في تاريخ المُقدّس، يُجْمَعُ بين فِعْليْ التقديس والتدنيس في أمرٍ يُشكل المال عصبهُ الأساسي. لا ينُمّّ هذا الجمع إلا عن ابتذال وتهافت المُقدَّس اللبناني بفُروعه وأُصوله كافة.

يبدو أنّ مصير الودائع المُحتجزة في المصارف اللبنانية، سيكون لها المصير ذاته الذي آل إليه الضحايا في الحروب اللبنانية الكثيرة. فهؤلاء الضحايا الذين مُنِحوا رتبة الشهداء القديسين بعد موتهم هباءً في سبيل القضايا الفاشلة لِزعمائهم السياسيين والدينيين، لن يعودوا الى الحياة مرة أُخرى إلا من خلال إقامة الاحتفالات السنوية لذكراهم. فهم ماتوا وانتهت حياتهم التي دفعوها ثمناً لهذه القضايا “المُقدّسة”.

الإعلان عن أنّ الودائع المصرفية، التي جُمعت على مدى سنوات العمر بالكدّ وعرق الجبين، مُقدّسة هو بمثابة إعلان موارب من المنظومة الأوليغارشية عن موت هذه الودائع.

صارت الودائع في عالم الغيب، فاكتسبت الإجلال المطلق والرهبة والحُرم، بحيث لا يعود لأحد مهما علا شأنه أن يمسّها أو يستحوذ عليها، حتى صاحب الوديعة نفسه. وبإعلان الموت هذا، تُصبح الوديعة المصرفية خالية من الدنس وطاهرة الروح يجوز رفع الصلاة على نِيَّتِها أو إقامة القداديس لراحة نفسها وخلودها في عالم الغيب. 

لا بأس إذاً بإقامة نُصب تذكاريّ أو طوطم شعائريّ، تُثبَّت قاعدته في شارع المصارف الأساسي المُفضي إلى مجلس النواب اللبناني. يُمكننا بعدئذٍ أن نحُجَّ الى هذا النُصب لنطوف حوله ساعة نشاء في الأسبوع ما عدا يوميّ الجمعة والأحد، نجلس خاشعين نتبارك به ومُنشِدين أُهْزوجة صوفية يبدأ مطلعها هكذا: هلّلويا… طوبى لِوَدائِعِنا المَصْرفِيّة المُقدّسة… هلّلويا.    

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!