fbpx

الرغبة والفن والحق في الانتحار داخل السجون… “من يمتلك حق الجسد؟”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يقدم الكاتب أحمد عبد الحليم في كتابه “من يمتلك حق الجسد؟ قراءة في الحياة السجنية” بحثاً موسعاً عن عالم الحياة السجنية في مصر، ليضعنا أمام نص مكثف في مراجعه البحثية، الثقافية، السياسية، والفنية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ينطلق الكتاب الصادر حديثاً عن “أمم للتوثيق والأبحاث”، و”منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية”، من مصطلح “الحياة المرئية داخل السجن” في تفكيك العوالم السجنية، وهو مصطلح ورد في “نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو”، ترجمة محمد علي الكردي، ويشير إلى نظام الحياة المرئي، باعتباره الفضاء الذي تعيش داخله السلطة والسجين معاً، ويمتلك تأثيراً مباشراً في العلاقة بينهما. 

استخدمه المؤلف عبد الحليم للفصل بينه وبين النظام الملفوظ المتبع قانونياً، وفي هذا النظام السجن ليس مكاناً للإصلاح وإعادة التأهيل، وإنما مكان للعقاب تعاد فيه هندسة الإنسان، إذ تفكك العلاقة بين النفس والجسد تماماً، وتتم إعادة بنائها مرة أخرى من خلال ممارسات تنطوي تحت مرئيات حياتية، علاقة سادو- مازوخية، ليست على الطراز الذي تبناه الكاتب النمساوي ليبولد غونمازوخ مع حبيبته، وإنما على طراز مرئي، لا يُكتب، ولا يراه أو يدركه من هو خارج أسوار السجن. ينطوي الأمر على فلسفة أن حياة السجن تصبح ملك السلطة، منذ تخطيه بوابة السجن، مروراً بالفلسفة العقابية وصولاً إلى ما بعد الخروج، والتأثيرات النفسية، والعقلية، والجسدية، والروحية التي ترافق الخارج من الزنزانة.

الجسد السجين بين إذلال السخرة والتعري

“هناك طريقتان لتأسيس سلطة سياسية على شعب ما، طريقة القمع وطريقة التربية، والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل، أما الأولى فتعمل على الجسد ولا بد أن تأتي أولاً”. يستشهد عبد الحليم بالمقولة التي قالها أحد جنرالات الاحتلال الفرنسي للجزائر ويكتب: “تبدأ السلطة في محو كينونة وذات السجين، وتهندس جسده على حركات بعينها، كلها بلا استثناء تدل على الخضوع والطاعة العمياء لتلك السلطة، ما يعني هدم ذات وبناء أخرى. وبخصوص السجينة، تتعامل السلطة العقابية معها بتلك الإجراءات بلا اختلاف، غير أن رجل السلطة تكون امرأة، سواء مسؤولة داخل السجن، أو سجينة جنائية قديمة تستخدمها السلطة”. 

يدرس الكتاب عملية إذلال الجسد من خلال التعري الذي يُفرض على السجين والسجينة. فالمرأة السجينة أيضاً تخلع ملابسها كاملة بشكل قهري، وتنحني لأجل فحص أعضائها. وترى الباحثة المصرية (بسمة عبد العزيز) في دراستها حول ذاكرة القهر، أن الصدمة هنا تتعدى كونها العجز عن المقاومة، بل تصل إلى الرهبة، عبر تمكين ممثل السلطة من استعباد الجسد والسيطرة عليه والتحكم فيه. هذه التقنيات تصمم بما يكفل بث الرعب للوصول إلى الاستسلام العقلي والنفسي، وتعتمد على عزل الضحية وإفقادها القوة والقدرة على التواصل مع العالم الخارجي، وتحطيم إحساسها بكيانها، وتفكيك علاقتها بالآخرين. وفي النهاية، يصل العقل الجمعي للسجناء إلى ما يُسمى، بحسب عالم النفس الأمريكي مارتن سيلغمان، بالعجز المكتسب أو العجز المتعلم، أي تملك الاستسلام العقلي الجمعي لفئة ما. 

يقدم الكاتب أحمد عبد الحليم في كتابه “من يمتلك حق الجسد؟ قراءة في الحياة السجنية” بحثاً موسعاً عن عالم الحياة السجنية في مصر، ليضعنا أمام  نص مكثف  في مراجعه البحثية، الثقافية، السياسية، والفنية.

الجسد المعاقب حد الانتحار

انطلاقاً من كتاب “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن” الذي يشرح فيه الفيلسوف ميشيل فوكو الآليات التي يصير فيها الجسد الإنساني المسجون ملكاً للسلطة العقابية، يدرس عبد الحليم ما يطلق عليه “الجسد المراقب”) و”الجسد الذليل”، ويقدم مثالاً سينمائياً للتعذيب بغاية الإذلال من فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس”، 1979، إذ يصور أحد مشاهد الفيلم، السجين السياسي، وهو مجرد من ملابسه عدا اللباس الداخلي، بعد تقييد رقبته بسلسلة حديدية، يأمره الضابط أن يقول “أنا كلب”. 

وتحت عنوان “الجسد الآلة” يدرس المؤلف عملية تشغيل السجناء، فيكتب: “ثمة بُعد أهم من ميزانية الربح والخسارة بالنسبة للسلطة، وهو البعد الفلسفي المرئي الخاص بنظام تشغيل السجن، إذ إن السجناء يخدمون السجناء ورجال السلطة معاً، من خلال الطبخ والغسيل والتنظيف وغير ذلك. ويظهر ذلك في فيلم (يلي بالي بالك، 2003) حيث تكون العقوبة الأقسى التي تفرض على السجين (اللمبي) هي تنظيف كامل زنازين السجناء وأماكن التبول والحمامات، وغسل الملابس وتنظيف الأرضية، لتظهر في الفيلم على أنها أعلى مستوى العقوبات الرمزية”.

يعدد عالم الاجتماع إميل دوركهايم 4 أنواع من الانتحار في الممارسات الإنسانية في كتابه “الانتحار”، فيما يصنف أحمد عبد الحليم الانتحار الذي يقدم عليه السجين أو السجينة بالنوع الرابع “الانتحار القدري”، وهو الذي يفضل فيه الإنسان الانتحار على أن يستمر داخل الحياة الاجتماعية المتمثلة في النظام والمجتمع اللذين يراهما أدوات قمع وتسلط. يرى المؤلف هذا النوع في انتحار التونسي محمد بوعزيزي، عندما أشعل النيران في نفسه احتجاجاً وتمرداً على الظلم الواقع عليه من السلطة التونسية. وبرأي المؤلف فإن هذا النوع الانتحاري، هو السبب الرئيسي، الذي يدفع السجناء إلى الانتحار، وتوقيف جسدهم عن العمل، من دون إغفال تداخل أسباب أخرى عضوية ونفسية معاً مثل الجنون والاضطرابات النفسية المتعددة، التي أصابت السجين بالأساس بسبب القهر.

هذه الرغبة بـ”توقيف الجسد عن العمل” تمنعها السلطة، لأنها تصادر حق السيادة على حياة السجناء، إذ يشير عبد الحليم في نص آخر بعنوان “الجسد والسلطة والحق في القتل” إلى أن “السلطة لا تسمح بموت سجينها أبداً، بل تُقاومه بشتى الطرق حتى لا يعتدي أو يتخلص من جسده، هذا لأنها تحتكر الجسد، ولا تسمح بموته إلا على يدها”.

الجنسانية السجنية: الاستمناء، المثلية، والاغتصاب

يخصص المؤلف فصلاً من الكتاب لتناول المسألة الجنسيّة داخل الفضاء السجني، والتي يعتبرها من أهم شواغل السجناء رجالاً ونساءً، فمن الطبيعي أن ينشط الفكر الجنسي وأفكاره ومخيلاته كل رؤوس السجناء، من الشباب الذين لم يمارسوا الجنس من قبل، إلى الرجال أو النساء المتزوجون والذي قاطعتهم الممارسة الجنسبة بسبب دخولهم السجن. فمنذ البداية، تكون علاقة السلطة السجنية بأعضاء السجناء التناسلية، علاقة مستباحة، تُرى وتُلمس بهدف التفتيش، ومن زاوية أخرى، بهدف تعرية السجين أمام ذاته وأمام السلطة. وفي مصر، يُحرم السجين لسنوات طويلة من هذا الاحتياج الغريزي، من الجماع مع الزوجة. وتُحرم الزوجة كذلك من جماع زوجها. فعندما يجتمع السجين مع زوجته خلال زيارتها له، قد يحاول السجين التقرب من زوجته أكثر وأكثر، وإقامة علاقة غير مكتملة معها، مثل تقبيلها أو ملامسة جسدها بطريقة حميمية، وهي بدورها تفعل مثله، وقد يصل أحدهما إلى النشوة، لكن تلك الأمور تكون بطريقة مواربة عن أعين مخبري ورجال السلطة الذين وإن رأوا الزوجين تلغى زيارة السجين، ويؤخذ هو إلى التأديب بعد ضربه في معظم الأوقات.

يبقى السجين حائراً مع هذه الغريزة التي تلح عليه دائماً، ولا يتبقى أمامه سوى الاستمناء أو العلاقة المثلية. الاستمناء كممارسة تتم بشكل خفي، وهي الممارسة المتبعة لفك الكبت الجنسي. ويلجأ بعض السجناء إلى تشويه الجسد بالآلات الحادة، أو رسم الوشوم والتاتوهات، أو التخلص من الجسد نهائياً عن طريق قتله. لكن السلطة تراقب الجسد مراقبة شديدة، من خلال أدواتها وتكتيكاتها. أما ممارسة الجنس المثلي فيتم بطريقتين: إما أن تكون العلاقة اعتدائية، أي أن يعتدي طرف على الآخر، سواء بالتحرش، أو بلمس جسد الآخر أثناء النوم أو الاغتصاب، وهذا ما ذكرته شهادات كثيرة، ومرويات أدبية، أشهرها رواية “شرف”، صنع الله إبراهيم. أما عن العلاقة الرضائية فيقول سجين سابق: “كنت سجيناً، وقد بحثت ووجدت صديقاً لي، وزادت عاطفتنا المتبادلة، ولاحظ السجناء الذين معنا تقاربنا، فحصلت مشكلات بيننا وبينهم. أبلغوا إدارة السجن، لكننا نفينا أي علاقة بيننا، خوفاً من العقاب، واتهامنا طيلة مدة سجننا بالشذوذ، وقد عوقبنا وذهب كل واحد منا إلى زنزانة أخرى”. يكتب أحمد عبد الحليم: “ونجد من حكايات (صنع الله إبراهيم) في كتاب مذكراته (أيام الواحات) عندما كان سجيناً لدى النظام الناصري، في ما يخص استباحة الجنائيين لحرمة الأجساد، بل وتجسسهم أيضاً عليها ذكرى يرويها الكاتب السجين حدثت بينما هو نائم على سريره يحاول الاستمناء بيده، حيث انقض عليه سجين آخر ليكشف عملية استمنائه”.

جسد الجلاد بين الآلية، الإيديولوجية، والوظيفة البيروقراطية

تشغل موضوعة تشكيل الجلاد أو المُعذِب جزءاً واسعاً من مساحة الكتاب، ولهذه الغاية، يستعير المؤلف أحد المشاهد من الفيلم البريطاني “الصبي في البيجاما المخططة”، 2008، حيث يقف الممثل الإنكليزي (ديفيد ثيوليس) وهو قائد لمعسكر نازي أمام زوجته مستاءً عندما واجهته، بأنه قاتل لآلاف البشر من الرجال والنساء والأطفال من خلال وضعهم بأفران الغاز، وأنها لن تستطيع أن تعيش مع وحش يرتكب هذه الجرائم، بينما كان دفاعه أمامها، أنه يجب عليه فعل ذلك من أجل مصلحة ألمانيا التي ينسال عليها الأشرار من كل حدب. أما في السينما المصرية فيعالج فيلم “البري”، 1985، موضوعة الموظف الجلاد المُعذِب، فيظهر الفيلم بدايةً الموظف في كامل رقته الإنسانية وهو يدخل إلى متجر ألعاب كي يشتري لعبة، ويهديها إلى زميلة ابنته في حفل ميلادها، وعندما وصل إلى المتجر، عرضت عليه البائعة لعبة تسمى عسكر وحرامية فاستاء منها بشأن العرض، بل وطلب منها لعبة رقيقة تناسب طفلة لطيفة، ليذهب بعد ذلك إلى حفل الميلاد، وحين يأتي الصباح فيذهب الرجل ذاته إلى عمله راكباً جواده وفي يمينه كرباج ليبدأ باستجوابهم في لهيب الشمس. يفسر أستاذ الاجتماع الأميركي (جون شتاينر) هذا التناقض بين الشخصية الرقيقة والوظيفة الوحشية بمقولة الإنسان النائم، ما يعني أن لدى كل إنسان قوة ساكنة نائمة، قادرة على التطرف بأقصى درجات الهمجية والعنف والسادية، لكنها تستيقظ في حالات معينة أو عندما تتهيأ لها الظروف، مثل وجود حياة اجتماعية أو بيئة وظيفية قانونها يستوجب ذلك الاستيقاظ، من أجل قيمة عليا حددها ذلك القانون.

التجربة السجنية كتجربة إبداعية

في المقابل، يستعرض الكتاب مجموعة من الحالات الإنسانية التي شكل فيها السجن تجربة إبداعية لأصحابها، سواء في مجال الكتابة الإبداعية أو الفن التشكيلي، كالشاعر أحمد فؤاد نجم الذي اعتقل في عهد النظام الناصري، ليخرج من سجنه الشاعر العامي الأشهر في مصر. فكتب ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن” والذي وصفه نجم بالقشة التي تعلق بها من الضياع النهائي. ويقدم الكتاب الأعمال الفنية والشهادات لمجموعة الشباب/ات الذين حولوا التجربة السجنية إلى تجربة إبداعية، منهم (خيري، شاب عشريني)، هاجر إلى أوروبا بعد خروجه من السجن، فكان السجن فرصة له للتفرغ لكتابة الشعر، فيحكي مسترجعاً الذكريات: “أعطاني السجن وقتاً زهيداً لتأليف الشعر، حيث ألفت 50 قصيدة، كنت أكتب عدداً من أبيات الشعر في ساعتين مثلاً، وأعطاني السجن الفرصة الذهبية لإلقاء الشعر على من معي في الزنزانة”

ودع حياتك إن الجند قد وصلوا والنار مضرمة بالقلب تشتعل

والقيد في معصمي القيد في عنقي ودمع أمي على خدي ينسدل.

(من شعر خيري)

أحمد، شاب عشريني يعيش في مصر، يروي كيف اكتشف شغفه بالكتابة: “كنت أحب قراءة القصص القصيرة وكتب التاريخ والاجتماع. بقي لي 4 أشهر على ميعاد خروجي من السجن، لم أحس بهذا الوقت أبداً، كنت أقرأ وأكتب كثيراً. وعندما خرجت بدأت بتعلم كل شيء عن الكتابة، من أول تدوينة صغيرة، مروراً بالتقارير وصولاً إلى الدراسات البحثية والاستقصائية، والتي الآن تترجم إلى أكثر من لغة. وقد صدر لي كتاب أدبي من نمط القصة القصيرة”. وفي مجال الفن التشكيلي، نقرأ عن عمر الذي لم يدرك مدى حبه للنحت إلا عندما دخل ورأى سجيناً آخر ينحت على الصابون. ويحكي سامي عن رسوماته داخل السجن: “كانت أفكاري مستوحاة مما يدور حولي، عمران السجن، ظروف المعيشة، تطلعي للحرية”. أما شهيب فلم تقتصر رسوماته على الأفكار فقط: “عندما رآني الناس داخل السجن، أرسم عبارةً لعائلتي وألونها كهدية لهم، طلبوا مني أن أرسم أسماء أخواتهم وأزواجهم وأمهاتهم وآبائهم أيضاً”.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.